مجله البيان (صفحة 18)

مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي

بقلم: محمد الناصر

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا

وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي

ونسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد:

فإن الشعر الجاهلي ... شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل

الإسلام، فهو سجل العواطف والمفاخر، سجل العصبيات والحروب، فيه أيام

العرب ووقائعهم، وتدوين لأصولهم وأنسابهم، يقول أبو هلال العسكري [1] :

(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم

فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:

(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه) [2] .

وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [3] ، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل، وصنعت الأطعمة، وأعلنت الأفراح ... لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [4] .

وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة، وتنشدها المجالس، قال

المسيب بن علس [5] :

فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع

ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع

فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها.

والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم، أو

لأفراد منها فشفعوا، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع ...

فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر

وخمول ذكر ... ثم تحدث عن بناته فقال:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق

نفى الذيم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق

فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل

قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها

ألف ضعف [6] .

وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

صار اسمهم شرفاً لهم.

ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ

أشعار القبية خاصة، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم، فهجاها شاعر بكر بقوله:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... يروونها أبداً مذ كان أولهم

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ... يا للرجال لشعر غير مسلوم [7]

وفي الإسلام يأذن الرسول عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت أن يهجو

كفار قريش، وقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم

ثم اهجهم وجبريل معك» [8] .

وفي السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان - رضي

الله عنه -: «لشعرك أشد عليهم من وقع النبل» ، مما يبين لنا أهمية الشعر

في الذب عن الدعوة وأصحابها.

وبعد هذه الشواهد، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة، يتبين لنا مدى اهتمام

العرب بالشعر، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم، وهو ديوان العرب كما عرفنا،

ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حيناً لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة

حيناً آخر ...

ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات

والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء ... وغيرها

لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولاً

وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور

الإسلام.

وسترى بعونه تعالى أن كثيراً من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات

وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية ... جاهلية ما قبل الإسلام ...

تحديد العصر الجاهلي:

قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب،

ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية،

يقول الجاحظ [9] :

(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن ... فإذا استظهرنا الشعر

وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية

الاستظهار فمائتي عام) .

وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة

الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة، ومملكة كندة في شمالي نجد ...

ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [10] .

والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله: (وهي الزمن بين

الرسولين، تطلق على زمن الكفر مطلقاً، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين

مولد النبي والبعث) [11] .

وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -

عليه الصلاة والسلام-، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام، لأن ما وراء ذلك من

الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء

نطمئن إليه.. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر

الجاهلي ... وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام، وصور القرآن

الكريم وأحداث السيرة، كثيراً من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه.

معنى الجاهلية:

أ - في كتب اللغة والأدب:

إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة: جهل تعني الجهل الذي هو خلاف

العلم ... وقد جهل فلان جهلاً وجهلة.

وتجاهل: أي أرى من نفسه ذلك وليس به.

واستجهله: عده جاهلاً واستخفه أيضاً.

والمجهلة: الأمر الذي يحملك على الجهل.

والمجهل: المفازة لا أعلام فيها [12] .

وفي المعجم الوسيط: جهلت القدر جهلاً: اشتد غليانها، وجهل على غيره

جهالة وجهلاً: قسا وتسافه، وجاهله: سافهه.

وفي القرآن: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] .

والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة.. والمجهلة:

ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف: «الولد مبخلة مجبنة

مجهلة» .

وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام

التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يطوى فيها من سلوك خلقي

كريم) [13] .

وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن

العصر الجاهلي عرف كثيراً من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم، والأحنف بن قيس، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [14] ....

وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

أي لا يتسافه أحد علينا ... وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش.

ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى، معنى

الحمية والطيش والغضب، ففي سورة البقرة: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ

أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] ، وفي سورة الأعراف: [خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ

وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] .

وفي الحديث الشريف: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال لأبي ذر،

وقد عير رجلاً بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . أي فيك روح الجاهلية وطيشها

تغضب فلا تحلم.

والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم

معرفته، وتعني أيضاً الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه

وكبر.

وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة، وكل ما فيه من وثنية

وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [15] .

أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] [16] .

(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي

عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها

الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من

الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .

وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله -:

(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي

عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في

مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .

ثم يقول - رحمه الله - أيضاً:

(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع

يوجد بالأمس، ويجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام،

والمناقضة للإسلام ... فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات

السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [17] .

وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات، والسفه، والطيش، وتحكيم

العادات والتقاليد، بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة

الاجتماعية، وتتلون بشعارات براقة كثيرة، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما

تضعف آصرة العقيدة، والتوحيد وتحكيم شرع الله.

وسنتابع هذا المفهوم، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة

العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم،

مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى:

1-الأول: الحياة السياسية أو الصراع القبلي.

2-الثاني: الحياة الاجتماعية، وما فيها من عادات وتقاليد.

3-الثالث: الحياة الدينية، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات.

4-الرابع: الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم.

الفصل الأول

الحياة السياسية عند العرب

أو: الصراع القبلي

أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام:

إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين: قحطان وعدنان [18] .

1 - عرب الجنوب:

وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن

يعرب بن قحطان، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة، ومنهم كهلان وأشهرهم

طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام.

هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (120ق. م) فسكنت الأزد المدينة، وكان منها الأوس والخزرج، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا

إمارة الغساسنة والموالية للروم، أما لخم فقد سكنت الحيرة، واصطفتهم فارس إلى

جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم.

ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالباً جوار الأمم المتحضرة ويذكر

المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل

وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم.

2- عرب الشمال:

وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة، وقد

تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه

السلام -.

ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ.. فنزلت ربيعة

شرقاً، فأقامت عبد القيس في البحرين، وحذيفة في اليمامة، وأقامت سائر بكر بن

وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة

بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.

وأما فرع مضر بن معد بن عدنان: فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة

وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة، وسكنت

أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا [19] .

وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية، ولم تهيء لهم هذه الحياة

الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز.. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا

في وحدة سياسية قبل الميلاد، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [20] .

3- القبائل العربية:

النظام القبلي:

وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون،

ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون

وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .

(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها، فكل قبيلة تقوم على أساس

اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد. والرباط الأقوى في القبيلة هو

العصبية، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته: «النصرة على ذوي

القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .

(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا: في الحرب

تشترك العشيرة) .

(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلباً

للكلأ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات

عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن.. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها

إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [21] .

ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه

القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة،

وسيادتها وشئونها الخاصة، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة

المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [22] .

فوحدة القبيلة كانت أمراً مقدساً ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة

الأفراد مع بعضهم.. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي

عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن.. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة

قائمة بذاتها لا اختلاط فيها، متجانسة لا تباين بين أفرادها.. يعمل الجميع في

سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [23] .

العصبية:

وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمراً مقدساً، ترتب عليه طائفة من

التقاليد الاجتماعية، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً.

ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون

الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل

اعتبار.

يقول دريد بن الصمة [24] :

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد

وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد

فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها، ولو

كان خطأً.. فغيه وضلاله، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها، وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه.

والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [25] :

حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً

وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق

وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق، ولذلك اتخذت

القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض

أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم

للأخلاق آنذاك، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [26] .

شيخ القبيلة:

فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة

ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به، وشيخ القبيلة

يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة.. وهو

الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخري، ويعقد

الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء

كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في

نشوب حرب البسوس المشهورة.

ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها، كالشجاعة والحسب والكرم

والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة

وما تدفعه من ديات، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه [27] ، وإلى ذلك يشير

معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [28] :

إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد، لهم مجد أشم تليد

ألفوا أباهم سيداً وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود

نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها، وتغفر ذنبها وتسود

وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به، وإذا تعود نعود

ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد

بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [29] :

لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول

والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية، والصفايا جمع

صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة، والنشيطة ما أصابه

الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو

الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام.

الاعتزاز بالأنساب والقوة:

ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم

قبيلة أخرى، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات،

وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي

امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد

شعرائه [30] .

ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب، والفخر بالآباء،

والأجداد [31] حيث يقول:

1- ورثت مهلهلاً [32] والخير منه ... زهيراً نعم ذخر الذاخرينا

2- وعتاباً وكلثوماً جميعاً ... بهم نلنا تراث الأكرمينا

3- ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا

ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول:

4- ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العازمون إذا عُصينا

5- ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا

6- وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أتينا

7- وأنا الشاربون الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدراً وطيناً

وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون

بلا رادع حيث يقول:

8- لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حيث نبطش قادرينا

9- إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا

والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها

الجاهلية المتغطرسة، انظر إليه حيث يقول:

10 - إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا

11 - ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا

12- ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق

البحر بسفنهم؟ ! ، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة.

والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن

جبروت الجاهلية وغطرستها.

فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [33] :

هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها

ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا فواضلها ومجدُ لوائها

ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال

أجود ذوو مروءة، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [34] :

شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا

المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا

فهم أصحاب حروب وقرى.

وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ

يقول [35] :

1- ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يُسُر

2- ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وُقر

3- ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر

والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته، فالمجد فيهم

قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [36] :

من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّة وإمامها

فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها

وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر

ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم

فيقول [37] :

1- عذير الحي من هذوا ... من كانوا حية الأرض

2- بغى بعضهم بعضاً ... فلم يُرعُوا على بعض

3- ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض

وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار، كانوا من أعز العرب وأكثرهم

عدداً ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا.

إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيماناً شديداً، وصارت

علماً عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن.

والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية،

وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً، الرابط

الوحيد بين أفرادها هو العصبية، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن

إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه، ولا سلطة يتحاكم إليها، والعصبية قبلية ليس فيها

شعور واضح بالجنس العربي العام، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة

ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية.. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة

العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما كل ما

هنالك اتحاد قبلي له رئيس [38] ، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات.

وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد

القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما

تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائماً

للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم

الأعلى.

هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية.

الإمارات العربية في شمال الجزيرة [39] :

أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق، في تخوم الشام حيث أسس

الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم

على أطراف بلاد فارس.. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا

درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية، وكثيراً ما وقعت

الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم، وبدوافع قبلية أخرى.

(?) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة، وكان قد

تنصر ثم خلفه ابنه المنذر، ومن ملوكهم الحارث الأصغر، وكانت جيوش

الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد، وبني فزارة، وقع كثير من أسرى

القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر، فقصده النابغة الذبياني يمدحه

متوسلاً إليه في فكاكهم، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [40] :

إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وقد كان ينزل به

وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [41] :

أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول

يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل

(?) أما المناذرة: فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا، حيث رحلت

قبائل لخم وتنوخ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم،

ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م) ، وامتد سلطانه على عدد

من قبائل نجد وكان له يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس، وممن قتل في يوم بؤسه:

الشاعر عبيد بن الأبرص، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ

عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه

الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج، ثم سار

الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [42] ، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند،

وكان طاغية مستبداً، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [43] :

أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير

به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور

وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [44] :

بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقتوينا [45]

ومن ملوكهم: النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس، وقد امتد سلطانه

إلى نجد والبحرين وعمان، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب

شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن، ويقال: إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب

قتله عدي بن زيد العبادي.. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته

ومنها قوله [46] :

أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد

وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار

بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب.

لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء، فقد بطش

ملوكهم بقبائل العرب بطشاً مريعاً ففي يوم أوارة الأول مثلاً يبطش المنذر بن ماء

السماء بقبيلة بكر؛ لأنها رفضت طاعته، ويقتل منها خلقاً كثيراً بعد حرب دامية،

ثم أسر منهم عدداً كبيراً وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد

وأمر النساء أن يحرقن بالنار [47] .

وابنه عمرو بن هند وضع ابناً له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس، وكان

صغيراً، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلاً، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر

ببكرة منها فنُحرت، وكان صاحب الإبل نائماً فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه

فمات.. فخرج سويد صهر زرارة هارباً إلى مكة المكرمة، وهرب زرارة أيضاً

إلى أن قيل له: ائت الملك واصدقه.. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال: جئني

بسويد، قال: قد لحق بمكة، قال: فعلي ببنيه، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة

وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه، فتعلق

الآخرون بزرارة، فقال زرارة: يا بعضي سرّح بعضاً، ثم قتلوا، وآلى عمرو

ليحرقن من بني درام مائة رجل.. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي

فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى

انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين.. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم

أضرم ناراً ثم قذف بهم في النار، ومن هنا سمته العرب: محرقاً [48] .

وبقي أمر الحيرة مضطرباً بعد مقتل أبي قابوس، حتى فتحها المسلمون،

وأذعنت لخالد بن الوليد - رضي الله عنه -.

- وهناك إمارة كندة: في شمال نجد في دومة الجندل، ومن أشهر ملوكهم

حجر الملقب بآكل المرار، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة، ثم

جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد، منهم ابنه والد امرئ

القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت

أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [49] :

هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين! أينا

وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعيناً بقبائل العرب من حمير وطيء يريد

أن يثأر من بني أسد، ويستعيد ملك آبائه، فلم يشتف، واتجه إلى قيصر الروم

ولقي حتفه بينما كان راجعاً.. ومن شعره في ذلك [50] :

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [51] :

تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك

بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب.

لقد كانت مسكناً لجرهم وبقايا الأمم البائدة، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة

والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة

المكرمة.

ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة، وأساءت هذه القبيلة

إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه.

كان قصي بن كلاب مطاعاً في قومه، سيداً رئيساً معظماً، ولي البيت وأمر

مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة، وتملك على قومه فملكوه، وأقر العرب على

ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة.. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل

ذلك.. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فجاز شرف

مكة كله، وقطع مكة رباعاً بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.

قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [52] :

قصي لعمري كان يُدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر

همو ملأوا البطحاء مجداً وسؤدداً ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر

لم تدن مكة لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [53] :

أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش

فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش

وتنزل بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش

(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط، وفرضوا على العرب قاطبة أن

يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم ... قاطبة) [54] .

وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، مما يؤكد زعامة قريش

ومكانتها عند العرب، فمكة بيت كعبتهم، وبيت تجارتهم، أقاموا حولها الأسواق

التجارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وكان يعرض فيها الشعر والأدب

أيضاً، وفيها - في مكة - دار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها

الدينية والتجارية، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من

الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط

بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان

لعشيرة على عشيرة.

كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب

والعادة، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [55] .

وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة

والخمرة الصافية، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وكانت حياتهم لا تختلف عن

حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من

الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة.

أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني

الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا

العربية لغة لهم في حياتهم اليومية، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية،

وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف.

بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس

والخزرج من اليمن، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وكانوا وثنيين يحجون إلى

مكة وأصنامها، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون

على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة.

كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة

يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...

كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم

حاطب ويوم فارع، والبقيع، ويوم بُعاث وغيرها [56] .

وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم

برسوله، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.

وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء، ومازالوا بها

حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الجزيرة كلها

وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ

القيس.

ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً

ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [57] .

هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في

القبائل والمدن، لم نجد بينها فرقاً يذكر، حيث إن النظام القبلي، هو الذي كان

يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها.

وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب، والأحلاف وعادات الثأر

والأسر والسبي والصلح والسلم، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم.

الحروب في الجاهلية:

أ - أسبابها [58] :

إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية، أو على

المحالفة والنصرة.

ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها؟ لوجدنا

أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه

الأسباب، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء

يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [59] .

وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم

في رماحهم، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم،

وديدنهم في السلب والغارة [60] :

وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا

وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا

وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على

غزوهم:

(البسوا جلود النمر، والثبات أفضل من القوة، أهنأ الظفر كثرة الأسرى،

وخير الغنيمة المال) [61] .

فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان

بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها.

يقول سلامة بن جندل: إن بقاؤه بعيداً عن الغزو، سيؤخره عن جمع الإبل

التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [62] :

تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً ... إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا

دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا ... من الحدثان والمنية واقيا

ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقييها يألان التراقيا

وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة،

فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره

حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر

بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.

وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً، على الحقيقة

وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته، وربما عير الشاعر قبيلته من

جراء تخليها عن نصرته، قال قريط بن أنيف، وكان بعض بني شيبان أغار على

إبله، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم ... فأنجدوه [63] :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذاً لهبّ لنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرساناً وركبانا

وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما

حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج.

وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض، أو الأخذ بالثأر، أو بسبب

المنافسة على رئاسة وزعامة، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب

وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث

قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين

سنة، بسبب سباق بين فرسين.

ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد

نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى.

ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول:

(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب

لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل

المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم

الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا

أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم.. والثالث وهو المسمى في

الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين ... لطاعتها..) [64] .

ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف:

لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية، أنها كانت حياة حربية تقوم على

سفك الدماء.. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم، فهم دائماً قاتلون

مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم.

وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها، بل

يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [65] .

يقول زهير بن أبي سلمى [66] :

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل [67]

فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل

فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب

فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم، يقول

دريد بن الصمة [68] :

وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر

يغار علينا واترين فيُشتفى ... بنا إن صبنا أو تُغير على وتر

قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر

ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون

موتورون.

وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال،

ميادين الشرف والبطولة، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول ... الشنفري [69] :

فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أمّ عامر

فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية.

إن طبيعة العربي في باديته، من حبه للحرية، وتعشقه للقوة، وتفضيله

الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم، جعلت حياته حرباً ضروساً لا

تهدأ، يقول الأفوه الأودي:

نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى ... لقوم علينا في مكارمهم فضلاً

وكانت القبيلة تؤمن إيماناً كلياً بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعياً وراء

المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [70] .

الفخر والحماسة:

ولقد وصفوا الحرب وصفاً مسهباً فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد

يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [71] :

ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم

في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم

لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم [72]

يدعون عنترة والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم [73]

مازلت أرميهم بغرة وجهه ... ولبانه حتى تسربل بالدم

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مُكلمي

نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت، فيسطر لنا

مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه.

وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية. يقول

طرفة بن العبد في معلقته [74] :

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد

إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعاً إذا بلت بقائمة يدي

فالقوة وصليل السيوف، والغارات المريعة، هي قوام حياة العربي في باديته

ومجال فخرة وعزه، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك، يقول زهير بن أبي سلمى [75] :

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم

ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

أي من لا يمنع عن عشيرته يذل، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول: من

ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه.

وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [76] :

نسمّى ظالمين وما ظلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا

ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله [77] :

متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا

نطاعن ما تراضى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا

ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا

نجذ رؤوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا

كأن ثيابنا منا ومنهم ... خُضبن بأرجوان أو طُلينا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015