مجله البيان (صفحة 1738)

رؤية فى مسألة (التعددية)

في دائرة الضوء

رؤية في مسألة «التعددية»

عرض ونقد

د.محمد يحيى

حفلت الكتابات الفكرية في الآونة الأخيرة بطروحات كثيرة حول قضية

«التعددية» وتفريعاتها في النواحي الفكرية والاجتماعية والسياسية، بل وحتى الدينية، وبدا لمن يتابعون هذه الكتابات أن أنصار مبدأ «التعددية» يرون فيه الحل الناجع للكثير من مشكلات الأمة وفق توصيفهم لها، وأنهم يطرحونه مذهباً فلسفياً قائماً، يدعون له، وينافحون عنه في وجه خصوم معينين، وارتبطت فكرة «التعددية» بمنظومة أخرى من الأفكار التي تروج هي الأخرى في الكتابات الفكرية المعاصرة، كفكرة «الاعتراف بالآخر» ، و «الديموقراطية» وما أشبه ذلك، كما اكتسبت مثل تلك الأفكار قداسة خاصة، وارتقت إلى مرتبة الشعار العاطفي المطلق، الذي يرفع لاستجلاب المشاعر وإثارة الخواطر، ويطلق علامة على حركة اجتماعية وفكرية عامة.

هدف هذه الفكرة:

وشُهرَت دعوة «التعددية» بخاصة في وجه الحركات والأفكار الإسلامية

التي وصفت بأنها عدو التعددية، كما هي عدو الفكر والتقدم والتنوير والعقل

والحرية ... الخ، وعلى الرغم من اجتهاد بعض المفكرين الإسلاميين في إيجاد

وضع ثابت للتعددية داخل الشريعة الإسلامية كالقول الشائع مثلاً بأن المذاهب

الفقهية هي أحزاب سياسية واجتماعية متعددة إلا أن وصمة رفض التعددية بقيت

تلاحق الإسلاميين في الكتابات الجارية وتدمغهم في عرف الكاتبين بكل النواقص

الناجمة عن ذلك.

ملحوظات أربع مهمة:

ولا يكاد المتابع للكتابات الدائرة حول التعددية أن يهرب من ملحوظات عديدة

حول هذه الفكرة كما جاءت في الطروحات الدارجة، وهي ملحوظات ينبغي وضعها

في الحسبان عند أي تعامل أو تحليل للفكرة.

أولاً: أبرز هذه الملحوظات ما يتعلق بالمصدر الذي تؤخذ منه عادة هذه

الكتابات والدعوات في الفترة الراهنة، وأعني به قطاعات من الفئة المثقفة ذات

التوجه العلماني، وبالذات العناصر المسماة بالليبرالية واليسارية منها، ولا يخفى

أن الفئات الأخيرة على تنوعها من ماركسية وشيوعية واشتراكية وقومية كانت حتى

وقت قريب أشد الرافضين لمبدأ التعددية ولاسيما في مجال الحزبية السياسية ذلك

لأن أصحاب هذه المذاهب كانوا إلى سنوات أخيرة يزايدون على أصحابهم في

الغرب في التشديد على «أحادية» مذاهبهم ورؤاهم الفكرية وقدرتها وحدها على

تفسير وتحليل كل الظواهر، وتدبير كل أمور المجتمع دون شريك، وليس ببعيد

عنا زعم الماركسيين أن فلسفتهم هي الحق الوحيد القادر على شرح وتوضيح كل

أمور الكون، وعلى تفسير شتى الظواهر الاجتماعية سواء أكان التفسيرفي مجال

الحركة الاجتماعية والسياسية أو في مجال الفكر والرأي والنظر الفلسفي، فما بال

المزاعم قد تغيرت إلى النقيض في زمن قصير لا يسمح بتحول فكري، بل وبدون

دلائل على حدوث مثل هذا التحول إلى الانفتاح الفكري؟ !

ثانياً: تؤدي هذه الملحوظة إلى أخرى تفوقها في الأهمية والمغزى فالواقع

المشهود والتجربة التاريخية خلال نصف قرن مضى، تدل على أن من يستميتون

الآن في طرح مبدأ «التعددية» كانوا أول وأشد من يناقضه في القول وفي الفعل

فهم الذين قمعوا وكبتوا بل سحقوا الحركات الإسلامية، وأمروا أو حرضوا على

قتل المفكرين والعلماء المسلمين العزل من أي شيء سوى أفكارهم، وهم الذين

تحالفوا مع كل أصحاب الدعوات والممارسات الاستبدادية في الحكم، وناصروا كل

من حل الأحزاب، وسيطر احتكاراً على مذاهب ومنابر الإعلام والثقافة وسد منافذ

الحركة الاجتماعية الأصيلة وفي الوقت الراهن يتحالف هؤلاء مع أنظمة حكم

عسكرية دكتاتورية تحظر التعددية السياسية، وتمنع التعددية الفكرية والأخطر من

ذلك أن ممارسة هؤلاء لمفهوم «التعددية» في الحاضر تتمحور حول رفض وجود

التيار الإسلامي الفكري والحركي في الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية

والإعلامية بحجة واهية مصطنعة هي أن هذا التيار يرفض التعددية وبذلك جاز أو

وجب إبعاده عنها رغم أن من بين صفوف «التعدديين» الجدد من أفنى عمره

يرفض التعددية الحزبية والفكرية، ثم ها هو أصبح من دعاتها، وتلك تعددية

غريبة تلك التي تجعل من أهم مبادئها إقصاء أقوى الأطراف على الساحة،

وقصر المنتفعين بها على أصحاب مذاهب هي في حقيقتها مذهب واحد: هو

العلمانية المتطرفة.

ثالثاً: إن «التعددية» المكتشفة أخيراً حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، لا

تطرح باعتبارها فكرة أو مسلك اجتماعي أو أسلوب حركي أو دعوة أخلاقية، بقدر

ما تطرح سلاحاً مشهوراً في وجه خصوم التيار العلماني من المسلمين، فنحن لسنا

أمام طرح فكري يطلب لنفسه كسائر الطروحات الفكرية المناقشة الهادئة الجادة

والعقلانية، بقدر ما نواجه بشعار يُرَدَدُ لإرهاب الخصوم ودمغهم بالتسلطية،

ورفض الحوار وتشويه صورتهم في أذهان الناس على أنهم هم وليس العلمانيون

الذين يبشرون بالبطش والطغيان برفضهم للتعددية، وبالمثل فإن هذا السلاح

والشعار يستخدم لتبييض صورة العلمانيين وتحسينها بنفي أبرز ملامحها وهو

الاستبداد بالرأي والتعصب المقيت ضد المخالفين، والرغبة العارمة في الاستئثار

والاحتكار لكل مناحي الحياة وأدوات الفعل والحركة في المجتمع. نحن إذن في

طرح «التعددية» في الكتابات العلمانية الجارية نواجَه بأسلوب خبرناه في

طروحات منظومة الأفكار الأخرى المماثلة ألا وهو استخدام الفكرة سلاحاً كالسيف

والمدفع للهجوم على الخصوم وتشويه صورتهم مع تحسين صورة الأنصار.

رابعاً: ترتبط الملحوظة الأخيرة بما سبق، فلأن مفهوم «التعددية» يستخدم

الآن مجرد سلاح للضرب، ولأنه يناقض أفكار وممارسات من يتزعمون لواء

الدعوة إليه، فهو يبدو غامض الملمح ومضطرب الأبعاد فالحديث قد يجري عن

التعددية السياسية فنسمع دعوة إلى السماح بتعدد الأحزاب، لكن هذه الدعوة مقيدة

بأن تعمل هذه الأحزاب داخل نطاق محدد ومحدود لا تتجاوزه، هو في العادة «

ميثاق وطني» أو قانون صارم يضفي عليها في الواقع وحدة أو «أحادية» في

الفكر والسلوك، فوق أن هذه «الأحزاب المتعددة» تستثنى منها فئات عديدة أولها

ما يسمى بالأحزاب الدينية أو الإسلامية مما يجعل من التعددية المرغوبة مجرد لفظ

أجوف، والحديث قد يدور حول التعددية الفكرية والثقافية لكنه ينحصر في الواقع

في نبذ ونفي الإسلام والتمكين لأحادية فعلية من المذهب العلماني المتغرب، حتى

وإن تسترت ببعض التفريعات الشكلية داخل هذا المذهب، والأكثر أهمية في هذا

أن المناقشات حول التعددية تتركنا في حيرة حول ما إذا كان الكلام يدور حول واقع

موجود بالفعل يراد الاعتراف به، وتقنين وجوده، أم حول مثال وأنموذج يراد

إيجاده من عدم، باعتباره هدفاً أسمى ينبغي الوصول إليه، ذلك لأن الحديث عن

التعددية يجري أحياناً بشكل يوحي بأن أنصاره إنما يريدون تمهيد السبيل لتطورات

ومذاهب وأفكار يراد جلبها إلى الساحة بعد التمهيد لها بفكرة التعددية، ولعلنا نذكر

في هذا السبيل كيف خلقت بعض الأحزاب السياسية خلقاً مصطنعاً في بعض البلدان

العربية عندما راجت «موضة» التعدد الحزبي بتقليد أسماء وتوجهات أحزاب

قائمة في البلاد الأوروبية، كأحزاب الخضر والاتحادية الديموقراطية وغيرها.

كيف نتعامل مع هذه الفكرة؟

هذه الملحوظات الأولية حول طروحات فكرة التعددية في الكتابات العربية

المعاصرة ولاسيما العلمانية توجه النظر إلى ضرورة فحص مصدر وأهداف الطرح

قبل التعامل معه فكرياً على أنه فكرة بريئة يرد عليها الإسلاميون بأي شكل كان،

فنحن كما أسلفت أمام فكرة ظاهرها الانفتاح والتحرر لكنها تصدر عن منابر

ارتبطت أشد الارتباط بكل معاني الدكتاتورية والأحادية والهيمنة الاحتكارية ونفي

الآخر، والفكرة تطرح بشكل مناقض لجوهرها حيث تنطوي دائماً على استبعاد

الإسلام وحركاته من هذه التعددية الانفتاحية الموعودة بحجة جاهزة هي: أن

الإسلام لا يؤمن بالتعددية وبالتالي فلا مكان له فيها وكأن الآخرين الذين أعطوا مكاناً

فيها كانوا يؤمنون بها، وأخيراً تطرح الفكرة لا باعتبار هذا الطرح مبدءاً قابلاً

للنقاش العقلي والفلسفي والتوضيح، بل مجرد سلاح لتشويه الإسلاميين وتحسين

صورة العلمانيين، وهو ما ينعكس في غموض أبعاده، وفي هذه الحالة ينبغي أن

نقف إزاء أهداف تَبَنّي العلمانيين لهذه الفكرة ضمن منظومة ادعاءاتهم الراهنة، إذ

تكون في هذا فائدة تفوق مجرد التعامل السطحي معها رفضاً أو قبولاً.

يرتبط الحديث كثيراً عن «التعددية» في هذه الفترة ارتباطاً سببياً مباشراً

بصعود الفكر والطروحات الإسلامية إلى حد أدهش العلمانيين في العقدين الأخيرين

في مقابل إفلاس مذاهبهم وطروحاتهم المختلفة، لقد حدث انقلاب مدهش في ساحة

الفكر والثقافة في المجتمعات العربية حيث أن السيطرة شبه المطلقة التي كانت

للعلمانيين (بفضل الالتصاق بالأنظمة الحاكمة) في الخمسينيات وبالذات في

الستينيات، قد تضعضعت، ثم انهارت في السبعينيات والثمانينيات، ومع سقوط

الطروحات العلمانية أصبحت النخبة العلمانية عارية أمام الجماهير دون تمويه يخفي

حقيقة عمالتها وتبعيتها لأنظمة هي بدورها عميلة وتابعة للدول الاستعمارية القديمة،

بجانب خيانتها الكبرى لدينها وعروبتها وشعوبها بأساليب الحكم الاستبدادي، وبدا

واضحاً أن الساحة التي شهدت سيطرة العلمانيين الاحتكارية مهيأة الآن لاكتساح

إسلامي شامل لن تتبقى معه آثار تذكر لمذاهب وأفكار العلمانية المتغربة، في هذه

الظروف نشأ فجأة الحديث عن «التعددية» في ذات الأوساط التي كانت قد كرست

كل جهودها بدعم من السلطات وأجهزة الأمن والبطش، لكي تقضي على كل آثار

الإسلام وأفكاره قبل ذلك بسنوات. ظهرت فكرة «التعددية» بوضوح لكي تكون

مجرد الغطاء والمبرر الذي يسمح بوجود واستمرارية بقايا الأفكار العلمانية المتغربة

في وقت بدا للعلمانيين أن التيار الإسلامي الجارف سيجتاحها كلها. نحن إذن نواجه

بفكرة وليدة الخوف الطاغي لدى من مارسوا القمع والاستبداد والنفي والاحتكار في

أن يستبعدوا وينفوا مع فارق بالطبع هو أنهم مارسوا هذه الأشياء في موقع الأقلية

التابعة للخارج والموالية لأنظمة غير شعبية، بينما الإسلام هو دين وثقافة وحضارة

البلاد وعقيدة أغلبية سكانها الساحقة.

التعددية من منظور علماني:

«التعددية» في جوهر طرحها الراهن من جانب العلمانيين لا تعبر عن

توجه ديموقراطي مفاجىء، ولكنها مجرد مناورة فكرية للإلحاح على ضرورة وجود

أفكار مغايرة للإسلام في الساحة التي يظنون أن الإسلام بقوة الجماهير سيكتسحها

كلها، ولو أتيحت لهم فرص رد التيار الإسلامي لأسقطوا دعوى «التعددية» تماماً، وهم بالفعل قد ضمنوا دعاواهم ما يسمح بذلك، فوسط الحديث عن التعددية في

كل مظاهر الحياة نجدهم قد وضعوا الشروط والقيود التي تؤدي حتماً إلى استبعاد

الإسلام منها في نهاية المطاف، أو إعطائه وضع التابع الضعيف داخل إطارها

ووسط سائر المذاهب العلمانية.

القضية إذن، كما هو الحال مع الطروحات الأخرى حول «الاعتراف بالآخر» وما شابهه، لا تعدو أن تكون «تكتيكاً» دعائياً فكرياً بطرح شعار يضمن البقاء للنفس في حالة صعود «الآخر» (الإسلامي) المكتسح مع إمكانية إسقاط هذا الشعار وتفريغه من مضمونه في حالة تراجع هذا «الآخر» . بهذا وحده نستطيع أن نفسر التناقضات الكامنة في الدعوى واللبس والغموض الذي يكتنف أبعادها كما أشرنا في الملحوظات السالفة، فهي ليست مبدءاً فكرياً متسقاً بل مجرد شعار يستخدم سلاحاً وفي الحقيقة يستخدم باعتباره مناورة شأنه شأن سائر الطروحات العلمانية في هذه الفترة تنفيذاً للدور الذي يؤديه العلمانيون في هذه الفترة في مواجهة الإسلام وحركاته، وخلاصة المناورة أنه عندما يكون المد العلماني في صعود نسمع حديث الاحتكار والأحادية والنفي والاستبعاد، وعندما ينهار المد ويتراجع نسمع حديث التعددية والاعتراف بالآخر لضمان موطىء قدم وبقية من وجود لدعاواه دون أن يجتاحها المد الإسلامي المضاد، ولأنهم يعاملون

«التعددية» هذه المعاملة سلاحاً وشعاراً ومناورة، فلا يبالون بالتناقضات، بل لا يهتمون بالتوضيح والمناقشة العقلية المتأنية، وهذه خلفية طرح فكرة

«التعددية» .

* * *

أنحن مع التعددية أم ضدها، وكيف؟

يصل طرح «التعددية» إلى الفكر الإسلامي عادة في شكلين لا ثالث لهما:

الأول هو اتهام مطلوب الرد عليه بأن الإسلام أو الإسلاميين ومعهم في ذلك تاريخ

الإسلام لم يعرف التعددية بل كان ضدها على طول الخط، والثاني هو تحد للإسلام

وللإسلاميين وللفكر الإسلامي بأن يخرجوا بطروحات نظرية وممارسات عملية

تثبت أن للتعددية مكانة راسخة عندهم.

طرح «التعددية» إذن يوجه للفكر الإسلامي في شكل اتهام أولا، ثم في

شكل تحد ثانياً، أي يوضع الإسلام في موضع دفاعي مما يفرض عليه آليات الدفاع

التقليدية وأبرزها محاولة نفي التهمة بأي شكل وإثبات العكس ألا وهو أن الإسلام لا

يحتوي على شيء قدر احتوائه على «التعددية» ذلك المبدأ السحري المرغوب فيه! وبالفعل دارت في هذا الإطار مرغمة معظم المعالجات الإسلامية للفكرة بدءاً من

تطويع مفهوم «الشورى» لفكرة «التعددية» وانتهاءاً كما ذكرنا بالحديث عن

المذاهب الفقهية كأحزاب سياسية، وبدا لمن يتابع هذه الكتابات (الدفاعية

والاعتذارية في جوهرها) أن الإسلام ما جاء أو أوحي إلا ليضمن أو يوجد التعددية

في كل أشكالها حتى لو كانت هناك مجالات لا توجد فيها، ويتناسق هذا مع ما عهد

في أمثال هذه الكتابات الدفاعية المضطرة إلى نفي التهمة وإثبات العكس ولو

بالمبالغة فكذلك رأينا من يذهب إلى أن من خصائص الإسلام الاعتراف بالآخر

(ونسيان نفسه على ما يبدو!) أو التمكين لمخالفيه في الوجود ... الخ.

وبصرف النظر عن الكتابات الإسلامية في موضوع التعددية، التي لم تجد

مفراً من أن تكون دفاعية اعتذارية بحكم طريقة طرح الفكرة من الجانب الآخر فإن

هذه الكتابات تظل تتحدث عن تعددية داخل الإطار الإسلامي مهما كان ذلك الإطار

واسعاً، أو حتى فضفاضاً كما بدا عند بعضهم، وهذا الوضع للتعددية الفكرية

والسياسية والثقافية داخل الإطار الإسلامي لا يعجب من يطرحون الفكرة مهما بدا

متسامحاً لأنهم يقصدون في الحقيقة تعددية جذرية أي خارج الإطار الإسلامي، أو

هم يرمون في الحقيقة إلى ثنائية (لا تعددية) تضع الإسلام في ناحية والعلمانية

(بمذاهبها الثانوية) المتغربة في الناحية الأخرى. ولهذا فالردود أو المعالجات

الإسلامية لموضوع التعددية لا تلقى القبول عند العلمانيين لأنها لا تصل مهما

تساهلت، أو مهما نفت التهمة وقبلت التعددية إلى المفهوم المرجو من طرح الفكرة، وهو القبول الصريح والاعتراف «بغير الإسلامي» و «بالمعادي للإسلام»

طرفاً مساوياً وشريكاً قوياً مؤثراً في ثنائية تنظيم سائر المجتمعات الإسلامية، بل

والقبول بأن تكون لهذا الطرف حجية الحكم والتوجيه والسيطرة، ولعل في هذا

الهدف الأخير ما يفسر الإلحاح العلماني في الآونة الأخيرة على فكرة تتواكب مع «

التعددية» وهي «تداول السلطة» حيث يدور التركيز على ضرورة أن يقدم

الإسلاميون التعهدات القاطعة والمضمونة بأنهم لن يصلوا إلى الحكم، أو بالأدق إلى

مواقع القرار والتوجيه في المجتمعات إلا من خلال انتخابات شعبية (وهذا ما لم

يفعله العلمانيون أبداً بل جاءوا عن طريق الانقلاب والدعم الخارجي) ، وأنهم لن

يحتكروا السلطة أبداً بل سيتبادلونها مع الاتجاهات الأخرى (وهذا أيضاً ما لم يفعله

العلمانيون مطلقاً مع الإسلاميين) ، وهذا الحديث عن تداول أو بالأصح تبادل

السلطة بين طرفي الثنائية يوحي بأن الإسلام دين الأغلبية سيوضع على قدم

المساواة (إن لم يكن أدنى بكثير) مع فئات نخبة الأقلية الضئيلة التي لا تعيش إلا

بحبل من الأنظمة وحبل من القوى الخارجية.

المقولات الإسلامية إذن حول القبول بالتعددية إما داخل الإطار الإسلامي أو

خارج هذا الإطار في مجتمعات ودول وعقائد أخرى، لن تحظى بالإعجاب من

جانب دعاة «التعددية» ، وهم كذلك لن يستسيغوا القبول الإسلامي بأديان ومذاهب

مخالفة داخل إطار المجتمعات والدول الإسلامية مادام الإسلام مهيمناً عليها، لأنهم

كما أسلفنا يريدون تعددية أو ثنائية جذرية يكون فيها لمذاهب العلمانية المتغربة

وجوداً مؤسساً ومهيمناً، أو على الأقل تبادلياً مع الإسلام في البلاد الإسلامية، ولا

يكون متضمناً داخل الإطار الفكري ولا نقول العقدي الإسلامي. القبول الإسلامي

بالتعددية مهما كان متسامحاً وواسع المدى لن يصادف هوى أصحاب الدعوة الراهنة

العالي صوتها لأنه لا يوافق جوهر وهدف طرحهم، ألا وهو الأحادية العلمانية

المتسربلة زيفاً في ثياب طلب التعددية، والحق أن الموقف العلماني الحقيقي من

موضوع التعددية يطابق الموقف الإسلامي الذي يهاجمونه وإنْ من الناحية المضادة

فهم إن سمحوا بالتعددية وهو ما يشك فيه كثيراً فإن ذلك يكون بين مذاهب فرعية

داخل المذهب الأم أنواع مختلفة من الليبرالية داخل الإطار الليبرالي الأعم، أو

أنماط من الفكر الماركسي داخل المذهب الشيوعي المادي الأوسع.. الخ، أو يكون

على أبعد تقدير بين عدة مذاهب وتوجهات تشترك كلها في الأساس العلماني

المتغرب، وتجد فيه قاسمها المشترك الأكبر، ومبررها الفلسفي وعلى هذا فإذا كان

الموقف الإسلامي يرى أن تعدد الأفكار والتوجهات يجوز داخل إطار أعم وأقوى،

فهو لا يقدم شيئاً شاذ اً كما يصور العلمانيون بل هو نفس موقفهم، تعدديتهم إذن في

أحسن حالاتها وأكثرها تحرراً لا تختلف عن التعددية التي ينادي بها بعض

الإسلاميين في المقابل، فلماذا إذن يستمر الهجوم الحاد على الإسلام بدعوى رفض

التعددية وتشعب الأفكار والرؤى؟ وهذا المفهوم للتعددية عندهم يقتصر فقط على

داخل الصف العلماني، أما خارجه، فهناك أحادية صارمة تنفي الضد الإسلامي

وتعاديه.

التعددية وتقلب المعنى:

الصورة الحقيقية التي ينبغي على الفكر المسلم أن يعيها هو أننا إزاء طرح

متقلب متعدد المستويات في هذا الموضوع، فنحن أمام دعاية ملحة حول «التعددية» لكننا إذا تفحصناها وجدناها «تعددية» مقيدة ومشروطة ومحدودة داخل تفريعات

مذهب أو إطار واحد مسيطر العلمانية الوافدة ثم نجدها في هدف الطرح «ثنائية»

جذرية عندما نتبين معناها في المجتمع المسلم، ولكننا في الممارسة الواقعية العملية

نجدها «أحادية» صارمة وشرسة في نفيها واستبعادها «للآخر» الإسلامي،

ورفضها لكل طروحاته وإصرارها على إخضاع الإسلام (بآليات التطوير والتطويع

والعلمنة والتغريب) داخل النمط اللاديني والنسق التغريبي. «التعددية» هي ورقة

الدعاية «والثنائية» هي الهدف المنشود لإثبات وحفظ الوجود داخل المجتمعات

الإسلامية في ظل صعود التيار الإسلامي، أما «الأحادية» فهي الواقع والممارسة

والهدف النهائي، ولكن الفكر الإسلامي يتعامل حتى الآن مع الشعار فقط، وعلى

مستواه السطحي دون الاختراق إلى الأهداف والغايات وواقع الممارسة والفعل

وخلفية التاريخ والأصول الفكرية النظرية، ولذلك فإن الطرح الإسلامي المضاد

الداعي للقبول بالتعددية لا يجد القبول عند أصحاب الدعوى التعددية رغم أنه كان

ينبغي أن يرضيهم لو كانت النوايا صحيحة وسليمة، ذلك لأنهم لا يقنعون برد

يجابههم على مستوى الشعار، لأن الشعار عندهم هو مجرد القناع الظاهري الذي

يخفي حقيقة «الثنائية» و «الأحادية» ، ومهما حاول الإسلاميون مواجهة الشعار

برفض التهمة وقبول التحدي، فلن يرضى العلمانيون لسبب بسيط هو أن قبول

المسلمين بالتعددية أياً كانت أبعاده يناقض استمرار توجيه التهمة ضدهم لأسباب

دعائية ويحرم العلمانيين من عريضة اتهام رابحة وورقة تشويه جيدة، كما أن هذا

القبول الإسلامي لا يتمشى، ولا يعني حقيقة «الثنائية» و «الأحادية» الكامنة

وراء شعار «التعددية» كما أراده رافعوه.

ولست بذلك أدعو للكف عن الطرح الإسلامي والتعاطي في مسألة

«التعددية» في شكل نفي التهمة وإثبات الموقف الصحيح، حتى لو اقتصر ذلك في الوقت الراهن على التعامل على مستوى الشعور، وحتى لو اقترن ببعض التعسف في التخريج والتنظير، فهذا الأمر مطلوب إبراء للذمة وتوضيحاً لمواقف الإسلام في وجه الشبهات المثارة والتي قد تنطلي على من لا يعلمون. ولكن هذا الطرح ينبغي كذلك أن يتجاوز مستوى طرح «التعددية» باعتبارها شعاراً، ليتعامل مع مستويات الدعوى المختلفة التي ألمحنا إليها فيما سبق وفوق ذلك ينبغي على هذا الطرح الإسلامي للقضية أن يتجاوز مستوى الردود الدفاعية ليناقش المشكلة برمتها مناقشة واعية متأنية متدبرة، وهو ما لا نجده عند طروحات العلمانيين التي تتسم كما قلنا في بداية المقال بالانفعالية والتشنج.

أسئلة تحتاج إلى أجوبة:

إن هناك أسئلة تحيط بفكرة «التعددية» لا تجد إجابة في الطرح العلماني

لكنها تبقى ملحة على ضوء الطروحات لتحقيق خير أكبر وأعم، شأنها في ذلك شأن

«الديموقراطية» ؟ أي هل «التعددية» هي هدف نهائي يتحتم على المجتمع أن

يصل إليه، أم أنها أسلوب قد يطبق في مواقف معينة للتعرف على أفضل الآراء

والاتجاهات، ولتحقيق أنجع أداء في مجال معين؟ وهل نقف عند التعددية في

المواقف والاتجاهات والآراء كأمر حتمى، أم أننا نسعى إلى تجاوز ذلك صوب

رأي محدد واحد لاسيما إذا أدى هذا التعدد والتشعب إلى التشتت والتمزق بل

والصراع؟ وعلى أي مستوى يكون طلب التعددية وتكريسها وفي أي مجال؟ هل

هي في مجالات الاقتصاد والإنتاج والعلوم أم في مجالات القيم والأخلاق والعقائد؟

ولماذا تضفى على «التعددية» في حد ذاتها قيمة مطلقة بحيث تصبح خيراً محضاً

في جوهرها وفي مجرد وجودها، بينما يصبح توحد الرأي (حتى ولو كان أمراً

طبيعياً نابعاً من الموقف دون قسر) أمراً مستقبحاً في ذاته ومرتبطاً بالدكتاتورية أو

الفقر الفكري؟ وهل يصبح هذا التصور في كل المواقف أي هل ينطبق في

المواقف الاقتصادية الإنتاجية مثلاً كما ينطبق على المواقف العقائدية؟ ثم هناك

السؤال الأهم: هل طرحت «التعددية» باعتبارها قضية لمجرد التقليد لأن الغرب

قد طرحها في السنوات الأخيرة داخل مجتمعاته لظروف وأسباب مختلفة؟

منطلقات التعددية العالمية:

إن طرح مسألة «التعددية» جرى في بعض بلاد أوروبا الشرقية وما يسمى

بالعالم الثالث مؤخراً على المستوى السياسي البحت، طلباً لتعدد الأحزاب السياسية

في مجتمعات ظلت عقوداً طويلة لا تعرف سوى نظام الحزب الواحد. ولكن في بلد

غربي رائد ومؤثر كأمريكا طرحت المسألة في سياق اجتماعي ثقافي سلوكي مع

ارتفاع صوت فئات متعددة عرقية (الزنوج وذوي الأصل الأمريكي الجنوبي

والآسيوي) ولغوية (أسبانية) وسلوكية (جماعات ما يسمى بتحرر المرأة وحقوق

الشواذ وأنصار البيئة و «الأصولية المسيحية» ) ، لتطالب بوجود متوسع، ونفوذ

قوي لها داخل المجتمع الواحد، وهنا اتخذت قضية التعددية أبعادها المحددة التي

وصلت إلى حد التبشير بالتعددية في أنماط الزي والطعام والسلوك الشخصي، لكنها

لم تصل إلى إسقاط الإطار الموحد العام الذي يربط أشتات المجتمع الأمريكي، فهذه

التعددية مثلاً لم تتسع أو تشمل دعاة إقامة مجتمع ديني «أصولي» ، ولا دعاة

إقامة نظام نازي مما يسمى باليمين الجديد المتطرف.

والحديث عن «التعددية» في بعض بلدان أوروبا الغربية كفرنسا وألمانيا

وإلى حد أقل إنجلترا، بدأ فقط تحت ضغط وجود تجمعات كبيرة ومتزايدة من

المهاجرين الأجانب، مما فتح احتمال الثنائيات بل والتعدديات اللغوية والعرقية

والدينية (وأبرزها الإسلام) داخل البلد الواحد، لكن مفهوم التعددية في هذه البلدان

جرى تحجيمه في الحال، بحيث أصبح على أحسن الأحوال لا يتجاوز مجرد

السماح لبعض هذه الفئات بحقوق محدودة، للتعبير وببعض الخدمات الاجتماعية مع

كف أذى أصحاب البلاد عنها.

الخلاصة:

من الواضح أن أنماط طروح التعددية هذه تخالف تماماً النمط الذي طرحه

العلمانيون في البلاد العربية، والمخالفة في الشكل واضحة، لكنها أوضح ما تكون

في الغرض والهدف من الدعوة كما ظهر مما سبق، ويجب على الفكر الإسلامي أن

يضع هذه الفروق الجوهرية في الاعتبار عند تصديه لمناقشة هذه الفكرة، لكن «

التعددية» في طرحها المحلي تبقى كما أسلفنا «تكتيكاً» فكرياً دعائياً يحقق أهدافاً

متعددة أبرزها كسب المشروعية للفكر العلماني الوافد والاحتفاظ له بمكانة مقننة

داخل المجتمعات الإسلامية في وجه صعود الالتزام بالإسلام، ثم الهجوم الدعائي

على الفكر الإسلامي وتشويه صورته وإشغاله بالدفاع الاعتذاري عن النفس، مع

تحسين صورة النخبة العلمانية الساقطة وإضفاء طابع الحرية والانفتاح عليها، وهو

أبعد ما يكون عن حقيقتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015