مجله البيان (صفحة 1737)

إنفاق العفو فى الإسلام (عرض)

قراءة في كتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

تأليف: د. يوسف إبراهيم يوسف [*]

عرض:نورة السعد

لا يقتصر مفهوم «إنفاق العفو» في الفكر الإسلامي على فضل المال فحسب، فآية البقرة [ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو] [1] لم تقيد العفو بالفائض من

المال، وإن كان المفسرون قد وقفوا بالعفو عند ذلك، بل إن السنة المطهرة قد

وردت صراحة «بإنفاق العفو» من الجهد والإمكانيات البشرية وهو ما يؤكده

الدكتور/ يوسف إبراهيم يوسف في بحثه هذا عن «إنفاق العفو في الإسلام» ،

وسوف نعرض في السطور الآتية بعضاً مما ورد فيه بإيجاز:

والعفو هو الفائض عن حاجة صاحبه من مال أو جهد أو وقت أو صحة وهو

موجود بكمية وفيرة لدى الأمة الإسلامية التي تجاوزت المليار نسمة سواءاً أكانت

تمثل العفو في الجهد البشري أم الموارد النقدية والعينية، بل إن دور «العفو» من

الجهد البشري في بناء المجتمع، وتمويل تنميته، أكبر من دور «العفو» في

المال لاسيما في معظم المجتمعات الإسلامية، التي تملك قدراً كبيراً من الاثنين غير

أن ثرواتها المادية والمالية غير مستغلة.

ويشير الكتاب إلى أن «العفو» بهذا المعنى يكمن في صور متعددة فليس

موجوداً عند الأغنياء فقط، فالغني يملك فضل المال، بيد أن الفقراء لديهم مكامن

أخرى للعفو تتمثل في الجهد والصحة والمواهب المختلفة في اللسان والجنان، ولقد

فهم الصحابة المعنى الأول من إنفاق «العفو» فاشتكوا إلى الرسول -صلى الله

عليه وسلم- قائلين: «يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور» ! ! لكن

الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحح لهم هذا الفهم فقال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة.. وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة» [2] ، حتى إذا عجزت عن أي عمل «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك» [3] .

إننا إذاً جميعاً داخلون في هذا التكليف قادرون عليه بصور متفاوتة وهذا يعني

أن الطاقات الفائضة، والإمكانات الموهوبة للإنسان لا يباح للمسلم تعطيلها أو منعها

عن خدمة المسلمين، ولا يعفى من المسؤولية من قام بتبديدها في مباح، أو وضعها

في محرم.

إننا والحال هذه مكلفون بالبحث عن ميادين وقنوات لتنفق في سبيل الله

جهودنا وأعمارنا وعافيتنا ومواهبنا، يقول الرسول ص: «من كان في حاجة أخيه

كان الله في حاجته» [4] ، ومن هنا فإن كل ما يزيد عن كفاية الشخص مما لديه

من إمكانيات يصبح محلاً للإنفاق على مصالح المجتمع (ص 68-73) ويروي أبو

سعيد الخدري رضي الله عنه: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-

إذ جاءه رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالاً فقال رسول

الله ص: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له

فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» ، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا

أنه لا حق لأحد منا في فضل [5] .

وهكذا فإن كل فضل من مال أو جهد أو فتوة أو قدرة يجب أن يستغل إسلامياً

ليصب في الصالح العام، فيرتقي المجتمع، ويبين أثر ذلك على الأفراد. إن المسلم

المخلص يترجم عقيدته في سلوك عملي رجاء ثواب الله سبحانه وتعالى وتصديقاً

بموعوده، يوم لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره، وشبابه، وماله وعلمه.

وإذا أردنا أن نقف على نوع التكليف في مسألة إنفاق العفو: هل هو فرض

عين أم فرض كفاية؟ فإن المؤلف ممن رجح المذهب الثاني الذي يوجب على كل

فرد أن يترصد بالعفو من ماله وجهده فرص التوظيف والتشغيل فإذا وجدت حاجة

في الناس بادر إلى سدها، فإذا سبقه إلى ذلك غيره جاز له أن يبقي العفو الذي لديه، ولا يكون بذلك آثماً، بيد أنه يظل يتحرى الفرص لتشغيل ما لديه.

(ص 58، 59)

ويوجب الإسلام البدء بالإنفاق الاستهلاكي على النفس، ومن تلزم نفقته فإذا

وجد «عفواً» بعد ذلك أُخْرجَتْ الزكاة بشروطها، وما بقي فوقها فإن المسلم

يفاضل في إنفاقه بين الإنفاق الاجتماعي والإنفاق الاستثماري بحسب الظروف

الاجتماعية وأحوال المسلمين من حوله، والمقصود بالإنفاق الاجتماعي هو: إسهام

المسلم في الإنفاق على مصالح المجتمع، ويعني الإنفاق الاستثماري: الإنفاق على

تكوين رأس المال، وزيادة قدرة المرء على توليد الدخل الشخصي، وهذا ما أرشد

إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث صاحب الحديقة إذ قال: «فأنا أنظر

إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد فيها ثلثه» [6] .

(ص 56، 57)

وإن في المال حقاً سوى الزكاة كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه وإن

الحديث الذي يقول: «ليس في المال حق سوى الزكاة» صحته: «في المال حق

سوى الزكاة» ، أما كلمة «ليس» فزيدت في الحديث عن طريق النساخ وشاع

الخطأ بعد ذلك، قال بهذا فضيلة الشيخ القرضاوي متابعاً للعلامة الشيخ أحمد شاكر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من واجبات المال غير الزكاة: «تجب

النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة وقضاء الديون،

ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضاً على

الكفاية ... إلى غير ذلك من الواجبات المالية» . وقال الإمام مالك رحمه الله:

«يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم ولو استغرق ذلك أموالهم» .

والخلاصة: أن في المال حقوقاً واجبة غير أداء الزكاة فإن إخراج الزكاة لا ينفي عن المال صفة الكنز، إذا منعت بقية الحقوق الواجبة فيه فيما يعود بالنفع على المسلمين من بناء الاستثمارات، وإقراض المحتاج وإطعام الجائع، وغير ذلك من ضروب التكافل بين المسلمين، والتي تعبر عن طبيعة النظام الإسلامي،

وتبني مجتمع المتقين المتكافل. (ص 94، 95، 97) ...

وتقع مهمة توجيه العفو، إلى الإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية، على

عاتق الكثير من المؤسسات القائمة في المجتمع ابتداءً من مؤسسة الدولة نفسها

بوصفها أهم مؤسسة في المجتمع، وانتهاءاً بالجمعية الخيرية التي يكونها الأفراد

لأداء واجب من الواجبات الكفائية، مروراً بالكثير من المؤسسات التي يضمها

المجتمع، والدولة بوصفها أهم المؤسسات المؤثرة على «العفو» من ناحية فعاليته

في تحقيق مصالح المجتمع، تستطيع القيام بعدة أمور:

1- أول ما يجب على الدولة في هذا الخصوص هو أن تتخذ من الوسائل

والسياسات ما يجعل الفوائض المهاجرة تطمئن إلى توطنها في بلادها وتعود من

مهجرها، وهذا يتطلب تأميناً على نفسها، وفتحاً لفرص الاستثمار والتنافس الحر

أمامها، وسعياً إلى إيقاظ الوعي الديني في نفوس أصحاب هذه الفوائض.

2- أن تضع الدولة إطاراً لتنظيم عملية استخدام العفو، يكفل انسياب

الفوائض إلى قنوات الاستثمار المختلفة، ومجالات الخدمة الاجتماعية المتعددة دون

عقبات أو عراقيل، وبما يحفظ هذه الفوائض من أن تبدد في مشروعات مظهرية

غير مجدية، أو في استثمارات لم يصل المجتمع إلى طلبها في هذه المرحلة.

(ص 104، 105)

وبعد ذلك تظهر قضية كفاءة المصارف الإسلامية، وإذا استطاعت هذه

المصارف أن تقوم بدورها المنوط بها، وأن تعمل دائماً على رفع كفاءتها وتطوير

أساليبها فإن نجاحها مرتهن بمساندة المجتمع والدولة، فالمطلوب إذاً نشر المصارف

الإسلامية في أرجاء البلاد، وإزالة المعوقات من أمامها، وإحاطتها بالتشريعات

الكفيلة باستقرارها ونموها.

ويتحقق إنفاق العفو بأكثر من صورة، وقصره على صورة دون أخرى تقييد

للمطلق بغير دليل، فكلما طابت نفس المسلم، وتفاعلت مع الهدي الذي أتاه من ربه، تمكنت من اقتحام العقبة، واختارت صورة من صور إنفاق العفو في سبيل الله،

تكون أبلغ في الدلالة على الاستجابة لأمر الله، وأول هذه الصور وأعلاها تتمثل في

تقديم العفو والتخلي عن ملكيته لصالح المستفيد منه. (وهناك صورة الوقف: وهي

خروج عن ملكية العفو وجعله ملكاً لله تعالى فلا يملكه من وقف عليه لكنه يستفيد

منه فقط) .

ومن الصور أيضاً، استخدام العفو في خدمة مصالح المسلمين مع الاحتفاظ

بملكيته، مثل بناء المشروعات الاستثمارية التي تحقق منفعة للمالك ومصلحة

للمجتمع في الوقت نفسه، وتتدرج بعد ذلك صور إنفاق «العفو» فهناك صور

كثيرة استخدمها المسلمون ثم تغافلوا عنها، وهي من هدي الرسول -صلى الله عليه

وسلم- تنضوي تحت ما يسمى بـ «المنيحة» . قال النبي -صلى الله عليه

وسلم-: «ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس، إن أجرها

لعظيم» ، فالمنيحة هي الدابة يدفعها المستغني عنها إلى من يستفيد من قوتها

ودرها، ثم يستعيدها بعد مدة مقدرة ومثل ذلك أن يبني المسلم دوراً يملكها، لكنه يخصصها لسكنى الفقراء وأبناء السبيل وينتفع بها إذا احتاج إليها، وجدير بالذكر أن عدم إنفاق فائض المال في صورة من هذه الصور أو مثيلاتها يعني تعطيل المال والجهد وإضاعتهما، وذلك أمر منهي عنه شرعاً. (ص 54، 55)

ويشير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا قدست أمة، لا يأخذ فيها

الضعيف حقه غير متعتع» [7] ، إلى هذه العلاقة الوثيقة بين حفظ كرامة الإنسان، واستحقاق الأمة نصر الله وعونه، فإن حق الضعيف في هذا الحديث ليس حقاً

معيناً، وإنما هو حق شامل عام: إنه حق في الحياة الكريمة، وفي العدالة

والمساواة والحصول على عمل دون أن يتقدمه من هو دونه، وحقه في التنقل

والملكية وممارسة حقوقه السياسية، وحقه في إبداء الرأي، وتوجيه أمور

الجماعة ... إلى غير ذلك من الحقوق التي جاءت بها الشريعة وكفلها الإسلام. (ص 12، 13)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015