المسلمون والعالم
البوسنة على مفترق طرق
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
منذ بدء المأساة البوسنية اجتهد الغرب في أن يفك الحلف بين المسلمين
والكروات، الحلف الذي اعتبره الغرب غير طبيعي، لأنه موجه ضد الصرب
الذين يلتقون مع الكروات في عبادة المسيح! ، وكانت الخطة الإنجليزية الخبيثة «
بتطميع» الكروات في أراضي المسلمين عبر خطة (فانس، أوين) هي إحدى
الوسائل التي انتهجها الغرب لفك هذا الحلف، وقد انقض الكروات بعد هذه الخطة
يحاصرون موستار وترافنيك وغيرهما من المدن الآهلة بالمسلمين؛ لأن الخطة
المجحفة أعطتها الكروات.. وبعد برهة أعلن الغرب أن الخطة فشلت وأن
(الملاذات الآمنة) هي الحل الوحيد الذي بقي للمسلمين في البوسنة!
ثم كرت الشهور، وقاتل المسلمون ببسالة الخونة الكروات والمعتدين الصرب، ... بل قاموا بعمليات هجومية ناجحة ضدهم، ودحروا الكروات بخاصة في عدة
مواقع، وأنزلوا بهم هزائم فادحة، وتدخل جيش كرواتيا النظامي في محاولة يائسة
لوقف التقدم الإسلامي، فلم يفلح.
وكان الموقف الغربي إزاء هذه الأحداث المصيرية في حياة المسلمين موقف
المراقب المتوتر الأعصاب، فتارة يشجب الاعتداء الصربي، وتارة يستنكر تدخل
كرواتيا، ويلوح بالعقوبات ضدها، وبين هذين الموقفين يدعو إلى عقد مفاوضات
سلام فارغة لتقنين الظلم وتكريس العدوان.
بيد أن المسلمين خيبوا آمال المعتدين وحلفاءهم الغربيين، وسيسجل التاريخ
أن أهل البوسنة المسلمين صمدوا صمود الأبطال في معركتهم الشريفة ضد القوى
الظالمة ومن وراءها الحضارة الغربية المتخلفة، وأنهم قاتلوا بعدة زهيدة صنعوها
بأيديهم جيوشاً مدججة بالسلاح، وأنهم نجحوا سياسياً وعسكرياً في إفشال مؤامرة
الإجهاز على الإسلام في قلب أوروبا.
أقول: ظل الغرب يرقب الأحداث وقد أذهله صمود المسلمين وتقدمهم إلى أن
حدثت مذبحة السوق في سراييفو يوم الخامس من شباط (فبراير) الماضي فعمقت
الشعور بالحرج لدى العالم الغربي، وأكدت الحاجة إلى عمل ما لوقف المأساة التي
لم يستطع الصرب والكروات حسمها، وقد لخص هذا الشعور الذي كان سائداً لفترة
طويلة قبل مذبحة السوق قول «مارتن وولاكوت» في صحيفة «الجارديان» أن
«رفض الضحايا المسلمين لقبول الهزيمة والموت قد حطم أسوأ الخطط
الغربية» [1] .
إستراتيجية جديدة:
بُعيد المذبحة سلكت السياسة الغربية محورين جديدين هما: محاولة احتواء
المقاومة البوسنية المتصاعدة، والسعي لإقامة فيدرالية بين المسلمين والكروات،
وقد ساهم في إحداث هذا التغير عوامل مهمة ظهرت على الأرض أبرزها تنامي
القوة العسكرية البوسنية، وقد نشر «بول بيفر» مؤلف كتاب (تقويم الأمن
الإقليمي للبلقان) مقالاً في صحيفة «الوول ستريت جورنال» الأمريكية بعنوان (ما
وراء القوة الجديدة للجيش البوسني) ذكر فيه أن هذا الجيش يتلقى الآن إمدادات
عسكرية وأسلحة حديثة، وأن جنوداً مدربين من خارج المنطقة قد انضموا إليه،
وأضاف «بيفر» أن الجيش يتكون من (80. 000) مقاتل، وينقسم إلى ستة
فيالق (كل فيلق 10. 000) ، ولواءين (كل لواء 20. 000) ، جنود اللواءين هم
الذين يقاتلون بضراوة ويحققون انتصارات حاسمة، أحد اللواءين كما يقول «
بيفر» يتألف من (إسلاميين أصوليين متطوعين) ، والآخر يتألف من لاجئي
منطقة «كرايينا» التي احتلها الصرب في كرواتيا [2] .
ويحصل الجيش على أسلحته من مصانع السلاح التي أعاد تشغيلها في وسط
البوسنة، وقد بدأ بإنتاج مدافع من عيار (105ملم) في مدينة «زينكا» [3] ، كما
يحصل على السلاح من غنائم المعارك سيما مع الكروات وتصل إليه أسلحة من
تركيا [4] ، ويذكر «مارتن دولاكوت» كاتب صحيفة «الجارديان» أن البلاد
الإسلامية تزود البوسنة بالسلاح بشكل غير مباشر حيث تقوم بتحمل أعباء مالية
معينة للحكومة البوسنية، فتقوم هذه الحكومة بتوجيه كل مواردها للمقاومة [5] .
ومن العوامل المهمة التي أحدثت تغييراً في السياسة الغربية تجاه البوسنة فشل
الكروات في تحقيق نصر على المسلمين، بل إن النصر كان بفضل الله حليف
المسلمين في معظم المعارك التي نشبت بينهم وبين الكروات، كما إن الصرب
فشلوا في اقتحام «سراييفو وتوزلا وجوراجدة وبيهاتش وماجلاي ... » ويقول
«مارتن وولاكوت» أن الذي تغير في البوسنة هو أن المسلمين رفضوا أن يؤدوا دور (الضحية) الذي خصصه الغرب لهم، واختاروا المقاومة ولذا فإن «الاستراتيجية الغربية أفلست وانهارت» [6] (تأمل!) .
ويبقى العامل الأخير والأهم لتغير الاستراتيجية الغربية في البوسنة هو
الخوف القديم الجديد من ظهور دولة إسلامية خالصة وقوية في أوروبا تقض
مضاجع الكفر وأهله، ولذلك اعتمد الغرب كما أسلفت محاولة احتواء المقاومة
الإسلامية والسعي لإنشاء اتحاد فيدرالي في البوسنة بين المسلمين والكروات يرتبط
لاحقاً باتحاد كونفدرالي مع كرواتيا.
احتواء المقاومة:
وكانت الخطوة الأولى التي قام بها الغرب في استراتيجيته الجديدة هي توجيه
إنذار بُعيد مذبحة السوق بشأن شن غارات جوية على مواقع الأسلحة الثقيلة في «
سراييفو» ، ولم يكن الهدف من هذا الإنذار ردع العدوان الصربي والكرواتي، فقد
تحدث فقط عن سراييفو، وأغفل معاناة المسلمين في الأماكن الأخرى مثل «توزلا
وماجلاي وبيهاتش» ، ولم يطلب الإنذار إنهاء حصار «سراييفو» ، ونص فقط
على سحب المدفعية الصربية مسافة (20كم) ، مع أن الصرب يملكون مدافع يتجاوز
مداها هذا الرقم، كما أنهم يملكون أسلحة أخرى فتاكة كالرشاشات والمدافع الخفيفة
وبنادق القنص، وطالب الإنذار الجميع بتسليم أسلحتهم الثقيلة مما يؤكد استمرار
الغرب في معاقبة الضحية ومكافأة وإرضاء المعتدي.
وقد اتضحت ملامح مؤامرة جديدة بانتشار بضع مئات من الجنود (الروس)
على جبال سراييفو [7] بالرغم من اعتراض الحكومة البوسنية الشرعية على
قدومهم بدعوى أن روسيا غير محايدة في الصراع، إلا أن بطرس غالي أكد موافقته
على ذلك، ولم يعر اهتماماً لاحتجاج الحكومة، كما اقترحت فرنسا وضع «
سراييفو» تحت إدارة الأمم المتحدة غير عابئة بسيادة حكومة البوسنة وقد سارع
(البطرس) إلى إبداء موافقته على الاقتراح حتى قبل مناقشته من قبل الاتحاد
الأوروبي ومجلس الأمن [8] ، ويتساءل «أنتوني لويس» كاتب «النيويورك
تايمز» قائلاً: «هل وقف البوسنيون أمام اعتداءات الإبادة خلال العامين
الماضيين ليحكمهم في النهاية» بطرس بطرس غالي «وبيروقراطيته
الحمقاء؟ !» [9] .
ولقد صُممّ الإنذار ليخدم مصالح الصرب، فالمسلمون لابد أن يسلموا أسلحتهم
الثقيلة حيث لا يوجد مكان ينسحبون إليه، والصرب سلموا مئة مدفع قديمة من بقايا
الحرب العالمية الثانية وسحبوا (400) استعلموا بعضاً منها مؤخراً في قصف «
بيهاتش وماغلاي» ، وقد صرح مسئول بوسني بأن القضية كلها «خدعة» قائلاً:
«الأمم المتحدة موجودة هنا لتساعد الصرب، فبينما يتركز الاهتمام على سراييفو
يحاول الصرب أخذ بيهاتش، إنهم يحاولون وصل كينين ببانيالوكا» [10]
إن فكرة وضع سراييفو تحت إدارة «بطرس غالي» ليست أصلاً فكرة
فرنسا بل هي فكرة الصرب، وقد صرح «يوفان زاميتيشا» أحد مستشاري
المجرم «رادوفان كاراجيتش» أن «سحب الصرب أسلحتهم أو وضعها تحت
إشراف الأمم المتحدة لم يكن نتيجة للإنذار، إن وضع سراييفو تحت الإدارة الدولية
كان مبادرة صربية طرحت قبل مذبحة السوق بوقت طويل، اهدموا سراييفو
واجعلوها نموذجاً صالحاً لبقية البلاد، هذه كانت فكرتنا» [11] .
في الحقيقة إن إبعاد المدافع الصربية (20كم) وانتشار الروس على الجبال
يعني استمرار حصار سراييفو، ولكن على بعد (20كم) بدل (5 كم) كما كان الحال
سابقاً، إنه يعني تجميد الحصار وتقنينه رسمياً من قبل الأمم المتحدة، كما يمثل
مدخلاً لتقسيم المدينة.
وإذا تم نقل هذا النموذج إلى المدن المسلمة الأخرى المحاصرة كما دعا إلى
ذلك بعض السياسيين والصحفيين الغربيين، فإنها دعوة لاحتواء المقاومة البوسنية،
وتكريس المكاسب الصربية، وتقسيم البلاد أو دعوة لخنق الشعب المسلم في
البوسنة «بخيط أزرق رفيع» وجعله فقط «سعيداً بقوافل الطحين» [12] .
الاتحاد الفيدرالي:
لقد أدرك الغرب أخيراً أنه لا مفر من قيام كيان إسلامي في البوسنة، كما
أدرك أن المسلمين لن يتخلوا عن خيار القتال حتى تتوفر لكيانهم المنتظر أسباب
البقاء والحياة، ويرى بعض المحللين مثل «سعيد عكاشة» أن أوروبا ليست على
استعداد لتحويل مسلمي البوسنة إلى مهاجرين في شتات أوروبي يتوقع توحيده في
غضون سنوات، كما يذكر أن بعض مفكري أوروبا يرون أن تشتت مسلمي
البوسنة «سيصبح دعماً لروح التمرد على الحضارة الغربية التي يقودها مهاجرو
العالم الثالث في الغرب في الآونة الأخيرة» ، ولذلك يخلص «عكاشة» إلى
القول: إن الخوف الأوروبي من القضاء على الكيان الإسلامي له ما
يسوغه [13] .
غير أن واقع الأمر يشير إلى أن الغرب لم يفكر بهذا الذكاء منذ البداية بل
دفعه الحقد الصليبي إلى محاولة إبادة الشعب البوسني وتذويبه، وهو الآن يبدو
مرغماً على الاعتراف بوجود سياسي حقيقي للمسلمين في البوسنة، بعد أن فشلت
محاولة الإبادة وصمد الشعب البوسني في ميادين القتال، وعاد بعض أبنائه إلى
(الأصولية) كما يقولون، ولم يبق أمام الغرب بعد فشل التحالف الكرواتي الصربي
ضد المسلمين إلا السعي لإقامة اتحاد فيدرالي بين الكروات والمسلمين يتحد بعد ذلك
كونفدرالياً مع كرواتيا، ويهدف الغرب من ذلك إلى عدم قيام كيان إسلامي خالص،
بل مقيد داخلياً بالفيدرالية وخارجياً بالكونفدرالية، وقد أشار «فرانيو توجمان»
رئيس كرواتيا إلى أن أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا «بذلوا جهوداً مهمة في
سبيل التوصل» إلى هذا الاتفاق وصرح أن السبب في ذلك هو أن «هذه الدول
تريد أن يتوجه المسلمون نحو النمو والتطور حسب الحضارة الأوروبية بعيداً عن
الأفكار الإسلامية الأصولية» [14] ، وهذا الكلام يدل على عدم وجود خلافات
جوهرية بين الدول الغربية فيما يتعلق بمسألة البوسنة، فالكل متفقون على مكافأة
العدوان الصربي وعلى عدم قيام دولة إسلامية.
وقد ضغطت الولايات المتحدة على الحكومة البوسنية لتقبل بهذا الاتفاق
ووعدتها بما وعدت به كرواتيا من مساعدات اقتصادية وامتيازات دبلوماسية
وانضمام إلى برنامج الشراكة من أجل السلام، كما حذرتها من أنها إذا رفضت
توقيع الاتفاق فإن أمريكا «لن تتدخل لإيقاف تدمير ما تبقى من البوسنة» . من
جهة أخرى اقتنع الكروات بأن سياسة (كرواتيا الكبرى) جلبت فشلاً ذريعاً وهزيمة
ساحقة وكارثة (علاقات عامة) في الخارج، كما جاء التلويح بالعقوبات والوعد
بالمساعدات ليحمل كرواتيا على القبول بالاتفاق، وربما يرى الكروات أن الاتفاق
فيه مصلحة مرحلية لهم فيؤجلون مشروع (كرواتيا الكبرى) إلى حين وتتساءل مجلة
«الإيكونومست» : هل يدعهم الأمريكان يفعلون ذلك ويتخلون عن
وعودهم؟ [15] ...
تجدر الإشارة إلى أنه حتى كتابة هذه السطور [*] لم يتفق الطرفان المسلم
والكرواتي على بعض النقاط الأساسية كالدستور وتقسيم الأراضي وموعد تطبيق
الكونفدرالية، على أية حال يبقى المشروع غير عادل في حق المسلمين الذين كانوا
يشكلون (44%) من مجموع سكان البوسنة والهرسك قبل الحرب وربما كان قبول
الحكومة البوسنية به كخيار تكتيكي يحقن دماء المسلمين ويهيئ قاعدة لحلول
مستقبلية أفضل، ولنا أمل في وعي مسلمي البوسنة الذي أفشل كثيراً من المؤامرات
السابقة، وقبل ذلك نحن موقنون بوعد الله بالنصر لدينه والتمكين لعباده: [إنهم
يكيدون كيداْ، وأكيد كيداْ، فمهل الكافرين أملهم رويدا]
[الطارق: 15-17] .