مقال
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وتثبيت الأمن بمفهومه الشامل
فهد بن ناصر الجديد
تمهيد:
الدعوة السلفية بنجد التي يرميها شانئوها زوراً الوهابية بقصد التنفير منها
وادعاء أنها دعوة مبتدعة، هي دعوة إصلاحية، ودعوة لتصحيح العقيدة الإسلامية
التي انحرفت عن النهج الحق بفعل الاتجاهات الصوفية والبدعية بوجه عام،
وبخاصة في القرون الأخيرة، ومما يؤسف له أنه مازالت بعض الاتجاهات البدعية
تناصب هذه الدعوة العداء بدون وجه حق، لكن الحق أبلج وأكبر من أن تقف في
وجهه المعوقات، فقد بُينت حقيقة هذه الدعوة وكتب عنها، وقرظها الكثير من
العلماء على مستوى العالم الإسلامي منهم (مسعود الندوي من الهند والشيخ بهجت
الأثري من العراق، والشيخ رشيد رضا من مصر، والشيخ علي الطنطاوي من
الشام وغيرهم) ، وهذه المقالة تتحدث عن جزئية خاصة من الآثار الإيجابية لهذه
الدعوة.
-البيان -
يعتبر الأمن من العناصر الأساسية التي تستقر عليها الدول، وتقوم عليها
الحضارات، ولا يمكن أن يتحقق الأمن بمفهومه الشامل إلا عندما تتحقق عبودية
الإنسان لربه، يقول الله تعالى: [ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت
صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراْ] [1] .
والجزيرة العربية وهي مهبط الوحي ومبعث الرسالة الخالدة، لا يمكن أن
تقوم بها حضارة إلا في إطار من الشريعة الإسلامية، ولا يمكن لأهلها أن ينعموا
بالأمن والاستقرار إلا تحت راية التوحيد.
ومع إشراقة العصر الحديث ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قلب
الجزيرة العربية، واستطاع بفضل الله أن يوحدها تحت قيادة إسلامية واحدة؛ لذا
جاء الاهتمام بدراسة هذه الدعوة المباركة وأثرها في جانب من أهم جوانب الحياة
الأساسية ألا وهو الأمن، وقبل البدء في هذا الموضوع لابد من ذكر لمحة موجزة
عن الحالة الأمنية قبل تلك الدعوة، ومدى ما وصلت إليه الحال من التدهور
والاضطراب آنذاك.
الحالة الأمنية قبل الدعوة:
اضطربت الحالة الأمنية في الجزيرة العربية بسبب انهيار وانحراف
الحالةالعقدية «فكانت البلاد تعيش في ظلام دامس بين عدو يأخذها بالقهر وبين
صديق يأخذها بالغزو» [2] ، ولمعرفة ما وصل إليه الحال يمكن ذكر المثالين
التاليين:
المثال الأول: ذكر المؤرخ ابن بشر عن أحداث سنة 1120هـ قوله «وفيها
قتل حسين بن مفيز صاحب (التويم) البلد المعروف في ناحية سدير، قتله ابن عمه
فايز بن محمد وتولى بعده في (التويم) ، ثم إن أهل حرمه ساروا إلى التويم، وقتلوا
فايزاً المذكور وأمروا في البلد فوزان بن مفيز [3] ، ثم غدر ناصر بن حمد بفوزان
فقتله، فتولى في (التويم) محمد بن فوزان، فتمالأ عليه رجال وقتلوه منهم المفزع
وغيره من رؤساء البلد وهم أربعة رجال، فلم تستقم ولاية لأحدهم فقسموا البلد
أربعاً كل واحد شاخ في ربعها» أي صار شيخاً [4] .
المثال الثاني: ما جرى لبلدة العيينة عندما أصابها المرض الخطير في عام
1139هـ وأفنى الكثير من أهلها، ومات أميرها عبد الله بن معمر، وتولى بعده
حفيده محمد بن أحمد، فاجتمع كلٌ من أمير الدرعية زيد بن مرخان وفايز السبيعي
ومعهم أربعون رجلاً، وليتهم قرروا تقديم المساعدة لتلك البلدة المنكوبة، لكنهم
قرروا الهجوم عليها ونهب خيراتها، فلما علم أميرها الجديد أرسل إلى زيد بن
مرخان قائلاً: «ما ينفعك نهب البوادي وغيرهم لنا، وأنا أعطيك وأرضيك وأقبل
إلى أكلمك من قريب وأناجيك» [5] . فلما قدم زيد ورجاله وجلسوا إذا برصاصة
تستقر في جسمه بتدبير من ابن معمر، فمات من فوره، وتفرق رجاله داخل البيت.
دعائم توطيد الأمن:
لقد سار الشيخ وبمؤازرة الأمير محمد بن سعود على النهج الذي سار عليه
السلف الصالح في توطيد الأمن بمفهومه الشامل في المجتمع فلم يحصر معالجة
الخطأ على الانحراف الشخصي للفرد، وإنما امتد الإصلاح إلى انحراف المجتمع
الذي مهد لانحراف الفرد؛ لذلك جاءت دعائم الأمن مرتكزة على ثلاثة أسس [6] لا
مناص عنها، وهي:
*تربية الفرد.
*إصلاح الأوضاع القائمة.
*إقامة الحدود.
تربية الفرد:
اهتم الشيخ بأن يتكون في الفرد وازع ديني يحول بينه وبين الوقوع في
الجريمة، فكان التوحيد الخالص من شوائب الشرك أول أمر دعا إليه حتى تتحقق
عبودية الفرد لربه، فإذا علم الإنسان أن الله هو الخالق الرازق (توحيد الربوبية) فلا
يفكر في الحصول على مغنم بوسائل غير مشروعة، وإذا تيقن الإنسان أن الله هو
المعبود بحق (توحيد الألوهية) فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجه العبادة من
دعاء أو استعانة أو استغاثة أو ذبح أو نذر إلا لله وحده، وإذا علم الإنسان أن الله
العليم الخبير المطلع على سرائر الأمور (توحيد الأسماء والصفات) فلا تراوده نفسه
الإقدام على الجريمة، لذا قام الشيخ بتأليف كتابه المشهور «كتاب التوحيد» [*] .
ولم تكن التربية قاصرة على طبقة دون أخرى، بل شملت كل طبقات
المجتمع حتى كبار السن والعامة، حيث قام بتأليف رسالة موجزة في العقيدة تعرف
بالأصول الثلاثة جاءت على طريقة الحوار وهي مفيدة جداً.
وأما في مجال التربية بالقدوة فقد حرص الشيخ على التأسي بهدي المصطفى-
صلى الله عليه وسلم-في جميع أفعاله، فقام باختصار كتاب «زاد المعاد في هدي
خير العباد» لابن القيّم، مع إبراز العبر والعظات، كما قام باختصار السيرة
النبوية وربط المعتقدات الباطلة في عصره بالجاهلية الأولى.
وقد حرص الشيخ على ضرب الأمثلة بذكر قصص السابقين لما للقصة من
أثر بالغ في التربية كما ذكر في كتاب «التوحيد» قصة الرجلين الذين قدم أحدهما
قرباناً لصنم قوم عندما مروا عليهم فخلوا سبيله، وامتنع الآخر فكانت حياته ثمناً
لامتناعه فدخل الجنة، وكذلك قصة الأقرع والأبرص والأعمى.
وقد أكد الشيخ على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد المعرفة
والفهم «لأن الإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار
معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله» [7] ، ومما قال أيضاً في ذلك: «وأهل العلم
يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاثة أمور: أن يعرف
ما يأمر به وينهى عنه، وأن يكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، صابراً على ما
جاءه من الأذى» [8] .
ومن وسائل التربية ما يلي:
* بعث الدعاة والعلماء إلى البلدان التي انضمت إلى رحاب الدعوة، مثل
إرسال الشيخ محمد بن صالح إلى بلدة منفوحة، والشيخ عيسى بن قاسم إلى بلدة
الرياض، والشيخ أحمد بن سويلم إلى بلدة ثادق والشيخ حمد العريني إلى بلدة
اليمامة، وجمع من العلماء إلى منطقة الإحساء، والشيخ عثمان أبا حسين ثم الشيخ
قرناس بن عبد الرحمن إلى بوادي حرب.
* إرسال الرسائل إلى بعض البلدان لتوضيح حقيقة دعوته، مثل رسالته إلى
أهل القصيم، ورسالته إلى فاضل بن مزيد رئيس بادية الشام، ورسالته إلى
عبد الرحمن السويدي أحد علماء العراق، ورسالته إلى البكيلي صاحب اليمن،
ورسالته إلى أهل المغرب.
* إقامة المناظرات العلمية مع علماء المسجد الحرام في مكة المكرمة عندما تم
إرسال كل من الشيخ عبد العزيز الحصين في عام 1184هـ والشيخ حمد بن معمر
في عام 1211هـ.
* تدريس كتاب «كشف الشبهات» [**] في بيت الله الحرام (بعد دخول
السعوديين مكة المكرمة) في عام 1218هـ.
إصلاح الأوضاع القائمة:
لقد فطرالله الكائن البشري على صفات عديدة منها أنه لا يمكن أن يعيش
مستقلاً بذاته، بل لابد له من العيش بين أفراد ومجتمعات، فإذا كانت تلك المجتمعات غير صالحة، فلا يمكن للفرد مهما بلغ صلاحه أن ينعم بالأمن في ظلها، لذا حرص الشيخ على إصلاح الأوضاع القائمة حتى يحافظ الفرد على صلاحه،
ومن الأوضاع التي تم إصلاحها ما يلي:
إصلاح الوضع الاجتماعي.
إصلاح الوضع السياسي.
إصلاح الوضع الاقتصادي.
إصلاح الوضع الاجتماعي:
حرص الشيخ على تقوية الترابط الأسري في المجتمع ببيان حقوق كل من
الرجل والمرأة حتى يسود الأمن الاجتماعي بينهما، فقد وجد في بعض المجتمعات
النجدية آنذاك من ينظر إلى المرأة نظرة ازدراء وتنقص، فيوقفون أوقافاً يتحايلون
بها لمنع المرأة حقها الشرعي في الميراث، ويزعمون أن ذلك قربة إلى الله، ومن
ذلك ما ذكره الشيخ في بعض رسائله قائلاً: «من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر
تغيير شرع الله ودينه والتحايل على ذلك بالتقرب إلى الله، وذلك مثل الأوقاف
هذه.. إذا أراد الرجل أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله أو يزيد أحداً أكثر مما فرض الله أو ينقصه من ذلك يريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف ووجوب عودته وقسمته حسب ما قسم الله ورسوله أكثر من أن
تحصر» [9] .
إصلاح الوضع السياسي:
كانت المنازعات على السلطة بين أفراد الأسر الحاكمة من الأمور المتفشية في
بلدان الجزيرة العربية، وكان غالباً ما يصل الأمراء إلى الحكم عن طريق القوة
والاغتيال، وقليل من يصل سليماً [10] كما أسلفنا.
لذا تعين لدى الشيخ أن السياسة الشرعية في بناء البيئة الإسلامية وهدم البيئة
الجاهلية تقتضي البحث عن أمير [11] يقتنع بصحة الدعوة ويجاهد لأجلها. كما
اقتضت السياسة الشرعية لدى الشيخ أن يتم تعيين الأمير كما يتم تعيين الإمام
للصلاة لكل بلدة تنضم إلى رحاب الدعوة، ومن ذلك ما ذكره مؤرخا الدعوة ابن
غنام وابن بشر:
* تعيين مبارك بن عدوان أميراً على بلدة حريملاء في عام 1168هـ.
* تعيين دخيل بن سويلم على بلدة ثادق في عام 1170هـ.
* تعيين سليمان بن عفيصان أميراً في بلدة الدلم في عام 1190هـ.
* تعيين عبد الله بن جلاجل في منطقة سدير عام 1191هـ.
* تعيين زيد بن عريعر في منطقة الإحساء عام 1204هـ. ...
* تعيين هادي بن قرملة رئيساً على بوادي قحطان.
* تعيين كلاً من عبد الوهاب بن عامر وفهاد بن شكبان وطامي بن شعيب أمراء
في منطقة الجنوب.
* تعيين الشريف عبد المعين أميراً في مكة المكرمة عام 1218هـ، ثم تعيين
الشريف غالب في عام 1220هـ.
إصلاح الوضع الاقتصادي:
تأكد لدى الشيخ أن وقوع الجريمة ليس دائماً بسبب الفرد كما يبدو ظاهراً
وإنما هناك سبب حقيقي دفعه إلى اقترافها، «والمصادر المتوفرة عن تلك الفترة
توحي بأن الظلم كان الصفة العامة لأمراء البلدان» [12] .
لذا اهتم الشيخ بالإصلاح الاقتصادي حتى يسود الأمن الاقتصادي في الأمة،
وأعظم ما قام به في ذلك المجال المعاهدة أو البيعة التي تمت بينه وبين أمير
الدرعية (محمد بن سعود) ، حيث نص البند الثاني على التخلي عن خراج الثمار
الذي كان يؤخذ من أهلها [13] ، ولقد أثبتت الأحداث الجسام بعد تلك البيعة اقتناع
أمير الدرعية بالدعوة ودفاعه المستميت عن مبادئها
إقامة الحدود:
إن الهدف الأساسي من إقامة الحدود قائم على أساس حماية الضروريات
الخمس التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، وهي: الدين، والنفس، والعقل
والعرض، والمال، فبعد تأمين الحاجز الداخلي لدى الفرد بالتربية الصالحة، وبعد
تأمين الحاجز الخارجي المحيط بالفرد المتمثل في إصلاح الأوضاع القائمة، تأتي
المرحلة الثالثة في حماية المجتمع، وذلك بإقامة الحدود، وعلى هذا الأساس يتبين
أن العقوبة ليست قائمة على التشفي والانتقام، وإنما على الردع والزجر، يقول
رسول الله-صلى الله عليه وسلم- (حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها
أربعين صباحاً «رواه ابن ماجة) [14] ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:» وهذا
لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة
فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله حصل الرزق
والنصر « [15] .
ومن الحدود التي تم تنفيذها رجم الزانية في بلدة العيينة في عام 1157هـ.
ولم تكن الحدود مقتصرة على الأفراد فحسب بل امتدت إلى الجماعات ومن
ذلك ما ذكر ابن بشر:
* أرسل الأمير سعود على رأس قوة عسكرية إلى منطقة الإحساء في عام
1210هـ لإقامة الحدود على المخلين بالأمن.
* أرسل الأمير سعود قوة عسكرية في عام 1219هـ إلى بوادي الظفير بعد
أن تأكد تهاونهم عن الصلوات المفروضة، إضافة إلى إيوائهم لبعض المبدلين لدين
الله.
ثمار الدعوة من الناحية الأمنية:
لقد جنى أهل الجزيرة ثمار تلك الدعوة المباركة في توطيد الأمن بمفهومه
الشامل، واطمأن الناس على سلامة عقيدتهم من الأفكار المنحرفة المنتشرة في كثير
من أنحاء العالم الإسلامي، وأمنت قوافل الحجيج القادمة من مختلف بقاع العالم
الإسلامي، وكان إيراد عمال الزكاة وأخماس الغنائم الذين يقدمون إلى الدرعية،
يتخذون تلك الأموال أطناباً لخيامهم إذا جن الليل عليهم لا يخافون إلا الله [16] .
وقد اتخذ الإمام عبد العزيز بن محمد رعية إبل لحفظ الضوال منها فمن وجد إبلاً
ضالة في أي بقعة من الجزيرة أتى بها إلى الدرعية وأخذ المكافأة المعدة له [17] ،
وعلى من ضاعت له إبل أن يقدم إلى تلك الرعية فإذا عرفها أتى بشاهدين أو شاهد
ويمينه ثم يأخذها، وربما يأخذ الواحدة اثنتين بسبب التناسل والتكاثر [18] ، وذات
مرة حاول نفر من الأعراب وهم جياع أن يأخذوا عنزاً ضالة ويذبحوها ويأكلوها،
فلم يتقدم لها أحد، وعندما ألحوا على أحدهم أجاب قائلاً:» والله لا أنزل إليها،
ودعوها فإن عبد العزيز يرعاها « [19] .