مجله البيان (صفحة 1685)

ادخلوا فى السلم كافة

في إشراقة آية

[ادخلوا في السلم كافة] [*]

د. عبد الكريم بكّار

إن المراد بـ «السّلم» هنا: (الإسلام) على ما رجّحَه عدد من المفسرين وإن (كافّة) حال من (السّلم) على ما نرجحه، ويكون المراد آنذاك: الأمر بالأخذ بتكاليف الإسلام جميعها: ما تميل إليه النفس منها، وما يخالف هواها.

وتصرح الآية الكريمة بأن في عدم الأخذ بالإسلام كاملاً نوعاً من اتباع

الشيطان، حيث إن المنهج الرباني يباين السبل الأخرى في فلسفتها العامة، وإن

التفريط بشيء من ذلك المنهج سيكون فيه اتباع (آلي) لسبيل الشيطان حيث لا يوجد

خيار ثالث.

ويمكن أن نستبصر في إشراقة هذه الآية المباركة المفردات التالية:

1- إن المنهج الرباني يتسم بسمتين أساسيتين هما: التكامل والتفرد فهو نظراً

لتكامله لا يفسح المجال لعناصر أخرى منافية لجوهره، وأما تفرده عن المناهج

الأخرى فإنه يمنحه نوعاً من الحساسية الخاصة التي تجعل أي انحراف عنه أو به

عن مقاصده وغاياته بالغ الضرر على أدائه وإصلاحه للشأن الإنساني كله، فالصفاء

الكلي ليس مطلباً من مطالب الإيمان النظري، ولكنه مطلب من مطالب توظيف

المنهج ورسم دوائر حيويته وفاعليته، وذلك نظراً للعلاقة الجدلية بين النظرية

والتطبيق، فسلامة الإيمان على مستوى الاعتقاد تتأثر إلى حد بعيد بالأخذ الجزئي

للإسلام على مستوى التطبيق! .

وقد حذّر القرآن الكريم النبي-صلى الله عليه وسلم-من مطاوعة المشركين في

الإعراض عن بعض المنهج الرباني حين قال: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا

تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك] [1] .

2- إن خصال الخير في هذا الدين كثيرة، وعلى مقدار ما يأخذ المسلم منها

يكون كمال إيمانه وإسلامه، لكن بما أن العمر محدود والطاقات محدودة فإن على

المسلم إذا أخذ بعُمُد الإسلام، واهتدى بهديه العام، وقبس من كمالاته، أن يبحث

عن المجال الحيوي المناسب لاستعداداته وظروفه وطاقاته كي يتخذ منه محراباً

لتعبده وتقربه إلى الله تعالى، حتى نحفظ للمجتمع الإسلامي توازنه ونسد ثغراته.

ومن هنا فإن عبادة طالب العلم محاولة النبوغ، وإتقان التخصص حتى نحقق

للأمة الاكتفاء الذاتي ولو في حده الأدنى على الصعيد العلمي والفني وعبادة علماء

الشرع القيام بالتبليغ وإحياء السنن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجديد

وظائف التدين والتبصر في واقع الأمة، وإن عبادة الحكام إقامة العدل، ورعاية

شؤون الأمة، وحماية البيضة، والتعفف عن الأموال العامة ونشر الدعوة، وعبادة

الجندي دوام التمرس بفنون القتال، واستيعاب الأسلحة الجديدة واستشراف الشهادة،

والاستعداد الدائم للبذل والفداء، وإن عبادة الأغنياء وذوي الجاه سد حاجة الفقراء

ومساعدة الضعفاء على حل مشكلاتهم والوصول إلى حقوقهم، والبذل في تشييد

المرافق العامة، وهكذا ...

وإن خروج كل واحد من هؤلاء عن مجاله الحيوي سيحرمه، ويحرم الأمة

من خير عظيم، بل قد يؤدي إلى أضرار بالغة وخيمة العواقب، فإذا صار هم

العالم امتلاك المال بنية إعمار المساجد مثلاً تقلصت جهوده في ميدانه الحقيقي الذي

ينبغي عليه المجاهدة فيه، وإذا انشغل الحاكم بأعمال خيرية أو أداء النوافل عن

واجباته الأخرى، لم يكن ذلك موضع مدح ولا نفع ذي شأن للأمة المسلمة،

وهكذا ...

وهذا كله يحتاج إلى نوع من البصيرة النافذة بغية وضع الأمور في نصابها.

3- إن أنظمة الإسلام يكمل بعضها بعضاً، كما يفعّل بعضها بعضاً ومن ثم

فإن أي خلل أو ضعف في نظام من تلك الأنظمة يؤثر بالسلب على أداء باقيها،

وهذا يعود إلى ما ذكرناه آنفاً من ميزة (التكامل) التي يمتاز بها المنهج الرباني،

ونظراً لأهمية هذه المسألة وضعف الإدراك لها سنفيض القول فيها عسى أن نشعر

أننا نقف على أرض صلبة.

وفي البداية فإن مبادئ الإسلام ومنظوماته المختلفة تنضوي تحت رؤية واحدة

مما يجعل التخلي عن أي منها هدماً لجزء من الرؤية الكونية الإسلامية ويستوي

حينئذ على الصعيد العملي على الأقل الجهل بذلك الجزء مع تجاهله أو جحده،

والنتيجة واحدة، وهي غبشٌ في الرؤية على المستوى النظري، واختلال في

التوازنات العميقة على مستوى الشعور، واضطراب أنظمة الحياة الإسلامية على

مستوى الفعل والواقع المُعَاش، وسنضرب العديد من الأمثلة لجلاء هذه الحقيقة.

أ- الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي، وعدم القيام بهذه الشعيرة

يؤدي إلى عدم كفاءة النظام الاقتصادي، كما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالنظام

الاجتماعي والأخلاقي أيضاً، فالمقدار المفروض من الزكاة في الأموال وعروض

التجارة هو 2. 5%، وهذا القدر كاف لسد العديد من حاجات المجتمع الإسلامي

على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة، لكن ذلك سيكون في الأحوال العادية والطبيعية

وفي غير الأحوال الطارئة كما في حالات الزلازل والفيضانات، وذلك أيضاً فيما

إذا التزم أغنياء المسلمين بإخراجها، وإذا استمر ذلك الالتزام حقبة مناسبة من

الزمن، فلو قدرنا أن 10% من الأغنياء أخرجوا الزكاة وأن التزامهم بأدائها في

مجتمع ما لم يمض عليه سوى سنتين، فإن الزكاة آنذاك لا تقوم بمهامها على الوجه

المطلوب، حيث إن الحالتين اللتين ذكرناهما تجعلان الفقر يتراكم ويتفاقم إلى الحد

الذي لا تفي أموال الزكاة بالتخلص منه.

ثم إن نظام الزكاة يؤدي مهامه في ظل فعالية الأنظمة الأخرى، فإذا كانت

موارد القطر شحيحة جداً، أو كان النظام السياسي فيه مختلاً، وأدى ذلك إلى

انتشار البطالة والعطالة عن العمل، فإن نظام الزكاة بالتالي لا يوصلنا إلى الأهداف

المنشودة منه.

وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام الاقتصادي الإسلامي، فإنها أيضاً لا تؤدي

وظائفها إلا بفاعلية النظام الذي تنتمي إليه، فمثلاً: (القرض الحسن) جزء من ذلك

النظام، وإعراض الدولة أو الشعب عنه يؤدي إلى نوع من تعطيل حركة المال

وتداوله، وبالتالي إلى ضعف حركة التنمية والاستثمار مما يفضي أيضاً إلى قلة

فرص العمل وكثرة الفقراء والمعوزين.

ومرة أخرى فإن فاعلية نظام الزكاة ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من

ضمان الحد الأدنى من المعيشة للفقير بالقدر الذي يحفظ كرامته، ويجعله في وضع

منتج مثمر، فإذا عجزت الدولة عن ذلك أو قصرت فيه، فإن آلية (نظام السوق)

ستوجد شريحة واسعة من المحتاجين الذين لا يمكن أن تقوم بهم أموال الزكوات

والنذور والكفارات ... وينفعل كل ذلك ويتأثر بقوة النظام القيمي وفاعليته، فإذا كان

نشطاً اندفع الناس إلى التطوع بكثير من الأعمال الخدمية واندفع كثير من الفقراء

إلى العمل والحركة مع حسن التدبير والتعفف عن أموال الآخرين مما يخفف من

غلواء الحاجة.

ب- الضبط الاجتماعي في الإسلام يقوم على ركنين أساسيين: الأسرة

والمجتمع العام بما فيه من وسائل تثقيف وتعليم ورقابة ... وإن الخلل في أي من

هذين الركنين سيؤدي إلى شيوع الخلل في أداء الركن الآخر. وواضح أن مهمة

الأسرة أن تصقل الفرد من داخله بما تغرسه من قيم وآداب وبما تخطه في ذهنيته

ومشاعره من خطوط عميقة، كما أن مهمة المجتمع الأرحب القيام بالرقابة على

تشجيع القيم الإيجابية وحماية أفراده من السقوط فيما يعتبر أعمالاً مشينة أو مُخلة.

والحالة النموذجية في هذا تتجلى في عموم الإيمان بالقيم والنظم، وتوحد

التربية الفردية مع معايير الضبط الاجتماعي على مقتضى ذلك الإيمان، فإذا ما

افترضنا الاختلاف بين القيم الأسرية والقيم التي يبثها الإعلام أو تلقنها المدرسة أو

يشيعها الشارع، فإن النتيجة هي تمزق شخصية الطفل بين مختلف هذه المؤثرات،

وحينئذ فإن التربية الأسرية تتعرض للخطر من قبل المجتمع الأوسع أو يأتي الخطر

مما تواضع عليه من قبلها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطفل يُخفي في

البيت ما تلقفه من المدرسة أو الشارع، ويُخفي فيهما ما لُقنه في البيت، والنتيجة

هي الازدواجية والحيرة وانطفاء الفاعلية، أي إجهاض عمل الجهات التربوية

المختلفة، وترك الناشئ لموجات الظروف.

ج- الحدود في الإسلام وسائل للردع، وهي بمثابة العمل الجراحي الذي يأتي

ترتيبه في التطبب متأخراً، وتؤدي الحدود مهماتها في مجتمع تعمل فيه باقي

الأنظمة بكفاءة من نحو الاستقرار والعدل وتوفر فرص العمل المناسبة وانعدام

المغريات بالفاحشة وانسجام التربية البيتية مع معايير الضبط الاجتماعي وانتشار

العلم ... وإذا ما فرضنا وقوع خلل فيما سبق أو بعضه، فإن كفاءة الحدود في توفير

الأمن للمجتمع سوف تتراجع على مقدار القصور الحاصل في الأنظمة الأخرى،

وهذا كله يجعل مسؤولية أمن المجتمع واستقراره مسؤولية عامة يتحملها كل فرد في

المجتمع، كما تتحملها الدولة على مقدار المكنة والتخصص.

4- إذا كانت أنظمة الإسلام متفردة في رؤيتها الكونية وفي منطلقاتها وأهدافها، فإن مما يضر بتماسكها الداخلي إدخال العناصر البعيدة عن طبيعتها عليها، وهذا

ما يمكن أن نسميه بـ (التلفيق) ، وإن الثقافة الإسلامية تقبل من الجديد ما ينشط

وظائفها، أو يوظف مبادئها، أو يملأ فراغات وهوامش أوجدتها خاصية المرونة

فيها، فإذا تجاوز الأمر ذلك إلى الجوهر والأنظمة الأساسية، فإن النتيجة هي

ضرب التوازنات العميقة لتلك الثقافة مما يجعلها تنكمش كما هو الكائن الحي حين

يُهاجَم وتفرز نوعاً من العطالة الضرورية كيما تحافظ على وجودها وانسجامها.

وإن ثقافتنا الإسلامية تمر بمرحلة عصيبة لا سابق لها في تاريخها المديد حيث

يمتلك زمام تثقيف الأمة أناس كثيرون يجهلون ثقافة الأمة، بل إنهم رضعوا لبان

الثقافة المعادية، ولسنا هنا بصدد بيان ذلك ولا أسبابه، لكن ما نشاهده اليوم من

عمليات التلفيق والتهجين الثقافي كان حصاد مراحل الركود الفكري والحضاري

بصورة عامة، وإذا كان التجديد سنة من سنن الكائن الحي فإنه إذا لم يتوَل التجديد

أهله تولاه غيرهم، فالإنسان بطبعه لا يصبر على طعام واحد، وهو يستهلك

الشعارات والأفكار والنظم الصغرى، فإذا لم نقم بإثراء ثقافتنا بالدراسات والخبرات

وتجديدها وتحريرها من عوادي الانحراف والجمود والتقليد فعل ذلك من لا يُحسنه،

وصار الانسجام والتجديد عبارة عن سمات ظاهرة جوفاء، أما الجوهر فيشوبه

التناقض والتآكل الداخلي.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015