من قضايا العقيدة
نظرة في مناهج المفكرين المعاصرين
في دراسة العقيدة
عثمان جمعة ضميرية
ألمحت في مقالة سابقة إلى بعض العوامل والمؤثرات التي آلت بكتب العقيدة
تحت مسمى «علم الكلام» إلى قليل أو كثير من الانحراف في المنهج والتعقيد في
الأسلوب، مما جعلها تبتعد عن المنهج القرآني في مخاطبة النفوس والعقول لإنشاء
العقيدة التي تؤثر في سلوك الإنسان وحياته، وكان لابد من مواجهة هذه الآثار،
فقام بعض المفكرين المعاصرين [*] باستجلاء الأساس الفكري العقدي للإسلام
وصياغته صياغة جديدة يرجى لها أن تكون مؤثرة، لأنها تربط المسلم بالمصدر
الأساس لهذه العقيدة وهو «القرآن الكريم» ، والتطبيق العملي له وهو «السنة
النبوية» ، فنشأ عندئذ البحث في «التصور الإسلامي ومقوماته» .
- 1 -
التصور الإسلامي هو: الفكرة العامة التي جاء بها الإسلام عن الوجود كله
(الكون، الحياة، الإنسان) ، ومقومات هذا التصور هي: مجموعة الحقائق العقدية
الأساسية التي تُنْشيء في عقل المسلم وقلبه ذلك التصور الخاص للوجود وما وراءه
من قدرة مبدعة وإرادة مدبرة، وما يقوم بين هذا الوجود وهذه الإرادة من صلات
وارتباطات [1] .
ولعل أول من استخدم هذا المصطلح التصور الإسلامي هو المفكر الإسلامي
المعروف أبو الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان رحمه الله
فكتب في ذلك كتابه: «الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادؤها» وكتابه: «نظام
الحياة في الإسلام» ، وأقامهما على هذه الفكرة.
- 2 -
ثم أقام الأستاذ سيد قطب كتابه المعروف: «العدالة الاجتماعية في
الإسلام [**] » على هذا الأساس، فكتب فيه فصلاً عن نظرة الإسلام للوجود ليكون
قاعدة لبحث النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ووعد ببحث مفصل عن ذلك،
وكان أن أنجز وعده، فصدر أولاً: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»
(القسم الأول: الخصائص) ، وبعد سنوات من إعدامه ظلماً رحمه الله صدر القسم
الثاني من الكتاب عن «مقومات التصور الإسلامي» في عام 1406 هـ، ويحدد
المؤلف رحمه الله منهجه في البحث فيقول:
«منهجنا في البحث عن» خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «أن
نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً وأن نستحضر بقدر
الإمكان الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر والملابسات الاعتقادية والاجتماعية
والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدي، ثم التيه الذي
ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي!
ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم أن لا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً لا
مقررات عقلية ولا مقررات شعورية من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن
ذاته نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات
السابقة.
ثم إننا لا نحاول استعارة» القالب الفلسفي «في عرض حقائق» التصور
الإسلامي «إقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة» الموضوع «وطبيعة
» القالب «، وأن الموضوع يتأثر بالقالب، وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه،
إذا عرض في قالب في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته، الأمر
المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي، والذي يدركه من تذوق
حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآني.
وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضا:
إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع
الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله، بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو
المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير» خصائص التصور الإسلامي
ومقوماته «، إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور في ذاتها كما جاء بها
القرآن الكريم كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق
هذه الفطرة وتوازنها.
ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه،
وفي صياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه منهج شديد الخطر وله معقباته في
إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم والانحراف انحراف
على كل حال! [2] .
ولعله مما يحتم هذا المنهج أن ندرك ثلاث حقائق هامة:
الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الحضارة
الإغريقية واللاهوت المسيحي وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة
وتلوينه لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً في لغة
سقيمة، مما نشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح!
الثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي
كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية
العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف
النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.
والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي تلك التي أثارت ذلك
الجدل منذ مقتل عثمان» رضي الله عنه «قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية
وبالمفاهيم الإسلامية انحرافاً شديداً، فلما بدأت المباحث لتأييد وجهات النظر
المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية بحثاً مغرضاً
في الغالب، ومن ثم لم تعد تلك المصادر في ظل تلك الخلافات تصلح أساساً للتفكير
الإسلامي الخالص الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت
في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية..» [3] .
وهذا المنهج الذي سلكه المؤلف رحمه الله يجعل النص القرآني هو الأصل
الذي يتولى تقرير الحقائق التي يتألف منها البحث، ويجعل عبارة المؤلف مجرد
عامل مساعد يجعل النص القرآني مفهوماً بقدر الإمكان للقارئ فيعقد بذلك الألفة بين
قارئ هذا البحث وبين القرآن ذاته، فيتعود التعامل مع القرآن ذاته مباشرة، ويشعر
أن في هذا القرآن غناء كاملاً وشاملاً في كل حقيقة من حقائق الوجود الأساسية [4] ، ويجب ألا ننسى مكانة السنة الصحيحة في هذا الباب لقول الرسول -صلى الله
عليه وسلم- (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أي السنة.
ومهما قلت في ذلك الكتاب الممتع، فلست ببالغ ما أريد، ولست موفيه حقه،
فحسبي هذه الإشارة إلى أهميته ومنهجه، ليكون ذلك دافعاً للقارئ أن يعود إليه
بالدراسة المتأنية العميقة، والبحث الدقيق، ليكون ذلك خطوة على طريق العمل
بهذا التصور والتفاعل مع مقتضياته ومستلزماته.
- 3 -
وأما الأستاذ محمد المبارك رحمه الله فقد قدم كتابين في هذا المجال انطلاقاً من
الفكرة السابقة، أولهما: «العقيدة في القرآن» ، وهو بحث مبتكر في العقيدة
يعرض لها على أنها نظرة شاملة مترابطة الأجزاء، ويسلك في عرضها أسلوب
العصر الحديث من حيث التعبير ومناهج البحث والاستدلال بدلاً من أن يسير في
أعقاب المتكلمين ووفقاً لطرائقهم في البحث، التي تأثروا فيها بنظريات ومفاهيم
الفلسفة القديمة، لاسيما بعد اتساع آفاق الكشف العلمي للكون أو الطبيعة. [5] .
ثم كتب أيضاً الجزء الأول من «نظام الإسلام» العقيدة والعبادة نهج فيه
المنهج نفسه، وهو أوسع من الكتاب الأول، حيث يعرض فيه لحقائق الوجود
ويضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، فهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي
التي تمد باقي أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها.
وطريقة المؤلف في بحثه تعتمد على الأسس التالية:
1- نصوص القرآن والسنة، وذلك بتتبع جميع الآيات والأحاديث التي تتصل
بموضوع من الموضوعات، مراعياً في فهم الآيات تفسير الصحابة والصدر الأول
دون التأويلات الشاذة.
2- الاسترشاد بآراء السلف الأول في فهم الإسلام، والاستئناس برأي من
جاء بعدهم في مختلف العصور.
3- الربط بين الأحكام الجزئية، وجمع شتاتها، واستخراج الأفكار العامة
والقواعد الكلية التي تنتظمها، دون التزام التصنيفات والتقسيمات التي اعتمدها
المؤلفون القدامى.
4- بذل الجهد في أن يكون تعليل الآراء وحكمة الأحكام من النصوص
الأصلية نفسها، والبعد عن التعسف في التأويل والتعليل، والبعد عن الآراء الشاذة.
5- صياغة الأفكار صياغة تتناسب مع المخاطبين في هذا العصر من حيث
طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع الحفاظ على المفاهيم الإسلامية دون
انتقاص أو تحريف [6] .
- 4 -
وهناك كُتّاب آخرون أيضاً عرضوا لفكرة جديدة أو منهج جديد في الكتابات
العقدية، ومن ذلك ما قام به الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه «فقه التدين فهماً
وتنزيلاً» (الجزء الثاني) ، ومقدمته لكتاب «تفصيل النشأتين» للراغب
الأصفهاني وضع فيها بين أيدي الباحثين مخططاً عاماً لما يمكن أن يكون بنية عامة
لمنظومة إسلامية في «الإنسان» تستمد مادتها من العقيدة الإسلامية [7] .