مجله البيان (صفحة 1635)

المسلمون والعالم

يهود.. وصريعان

(ثم ينقضون عهدهم في كل مرة)

د/ عبد الله عمر سلطان

هدأ الضجيج والصخب وجاء وقت الاستحقاق.. اختفت الابتسامات البلهاء

المريضة، وجاء دور اتساع الأحداق أمام الحقيقة المزعجة. تلاشت أغصان

الزيتون التي كان يرشق بها «أزلام» المنظمة والحالمون بسلامٍ مع يهود جنود

الصهاينة، وظهر الحجر والسكين بدلاً عنها! .

بعض الحوادث والقصص تلخص الواقع القائم بكل تفاصيله، كما لا تفعل

المقالات المدبجة والقصائد العصماء والخطب المجلجلة.. وإليكم مختصراً لقصة

موحية لهذا الواقع المطل برأسه.. إنها قصة أحمد خالد أبو الريش، هذا الشاب

الذي لم يتجاوز العشرين من العمر، كان أحد الناشطين في حركة فتح التي وقعت

اتفاق المبادئ مع الصهاينة قبل أشهر.. وحين عودته من رحلته التاريخية تاريخية

فعلاً من باب حجم الذل والانكسار صرح ياسر عرفات أن عدوه هو عدو السلام،

وأن الاتفاق هو أضخم مكسب حققه الفلسطينيون على مدى تاريخهم..!!

وصدّق أحمد خالد أبو الريش تصريحات زعيمه، أوليس هذا «الياسر» هو

رمز القضية و «راهبها» الثوري؟ !

أوليس هو القائد الذي «يفهم» ما لا يفهمه كل من اعترض على اتفاقه مع

يهود أو فكر في مناقشة بنوده؟ !

ولأن خالداً «منضبط» ، وقبل ذلك «رقم» مطيع كبقية العناصر الذين

يُضحى بهم في سبيل «النصر» الذي تسعى إليه قيادة تونس، فقد شجع قرار

«صقور فتح» (الجناح العسكري للمنظمة في المناطق «الفتحاوية» ) المحتلة الذي أوصى بإلقاء السلاح وإيقاف كل العمليات العسكرية بعد تسعة أيام فقط من توقيع اتفاق عرفات / رابين، وذلك بعد صدور قرارات زعيم السلام وعدو ... الإرهاب، الذي قال لشعبه بأن الإرهاب يضر بصحتهم؛ لذا فعليهم أن يمتنعوا عنه بناءً على نصيحة طبيب صديق اكتشفه «أبو عمار» في شارع بنسلفانيا في واشنطن يسمى «بيل كلنتون» ، لقد وصف تجربته معه بقوله: «لقد اكتشفت صديقا لنا في واشنطن» . صحيح أن العبارة «ملطوشة» من تصريح لرئيسة الوزراء اليهودية السابقة «جولدا مائير» ، لكن هل يغص الذي ابتلع دماء القضية الفلسطينية وثوابتها بعبارة مأخوذة من النبراس اليهودي الصديق؟ !

المهم أن المشكلة الوحيدة التي واجهت أحمد خالد أبو الريش، هي ملاحقة

السلطات الإسرائيلية؛ له بسبب ماضيه السابق، وضلوعه في عمليات عكرت أمن

المستوطنين الصهاينة في قطاع غزة، ولدى أول فرصة سانحة سارع أحمد خالد

أبو الريش لتسليم نفسه إلى سلطات العدو الصهيوني، وسلم سلاحه أيضاً، تعبيراً

عن «حقبة السلام» التي يهدد بتعكير صفوها مجموعة «المتطرفين الأصوليين»

الذين هم «العدو المشترك» لطرفي الاتفاق: علمانيي المنظمة ويهود إسرائيل!.. وبعد ساعات قليلة من احتجاز أحمد أبو الريش خرج محمولاً على الأعناق في

مظاهرة صاخبة طافت شوارع (خان يونس) معبرة عن بدء عصر جديد وصفحة

أخرى تقول «العهد السلمي» بدأ.. وهذا أول الغيث! ! .

وفي اليوم التالي بدأ أحمد يتصدى لكل من يشكك في «حجم الإنجاز» أو

«استسلام القيادة» أو «طبيعة يهود» التي لا ترعى العهود والمواثيق.. ولم يمضِ أسبوع واحد على تسليم أحمد خالد أبو الريش لنفسه وسلاحه إلى قيادة اليهود حتى باغته جنود الوحدات الخاصة لجيش الاحتلال فأردوه قتيلاً يتخبط في

دمه! !

صدّق خالد أن ليهود عهوداً.. وآمن أن السلام ممكن.. فدفع ثمن هذا دمَه

وروحَه.. التي رهنها بيد قيادات العجز المتهاوية، وعلى بعد آلاف الأميال هناك

في حمام الشط كان القادة الكبار يستقبلون الخبر ببرود، فدم خالد وأمثاله قربان

بسيط لا يستحق أن يزعج «آباءُ النضال» أنفسهم به؛ لأن السلام أثمن وأعظم

من أن يعكر صفوه دم شهيد آخر! ! فالشهادة في سبيل الطين والتراب ترخص أمام

حياة الأباطرة التي يتمتعون بها، وروح (درزينة) أخرى من الشهداء قدر الثورة

التي أصبحت ثروة يتمتعون ويتقلبون في أجواء الترف بسببها.

ثم هناك أمر آخر أكثر خطورة من خبر تافه كهذا: إن القوم مشغولون في

الإعداد للحل والترحال بين العواصم الإسكندنافية، وإيجاد مسالك لائقة لمقامهم في

أريحا.. فسرير الرئيس الذي أعد بعد يوم واحد من توقيع الصك دليل دامغ على أن

«النعش» الوطني هو القنطرة الوحيدة لإقامة «العرش» الذي صنعه يهود

بمواصفات دولية فائقة المواصفات دقيقة التفاصيل.

مشكلة أحمد خالد أبو الريش وأمثاله أن عليهم أن يدفعوا ثمن العرش دماً

وروحاً وجراحاً في أكفان متتالية لا تثير قيادات الدم البارد، التي تُهيئ نفسها لطور

الدولة/ الكانتون! !

قد أنبأهم ربهم:

الذين يتحدثون عن نقض بني إسرائيل للعهد لا يتحدثون من فراغ، ولا

ينطقون إلا بآيات محفوظة.. فيهود من خلال تعاملاتنا معهم منذ اليوم الأول قوم إذا

بحثت عن أبرز صفة لهم برز لك «نقض العهد» كأول معلم لتلك الأمة وهذا أول

ما يقفز إلى الذهن، الذهن النظيف واليقين المطمئن.

لقد تولوا منذ أن بعثت الرسالة فيهم: [وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا

تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناْ وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس

حسناْ وأقيمو الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاْ منكم وأنتم معرضون] [1] .

لقد كانت هذه الطبيعة ملازمة لهم عبر العصور، ورذيلة صارت طبعاً

وسلوكاً.. إنهم الذين صدق قول الله فيهم وقوله الصدق: [أوكلما عاهدوا عهداْ نبذه

فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون] [2] .

ولما كان قول الحق جل وعلا قرآناً يتلى.. ووعداً يتحقق.. جاءت الأحداث

بكلكها مرة أخرى ترسخ يقين المسلم في هذا العصر القلق، بأن اصبر وصابر

ورابط.. فبصرك ثابت وبصيرتك نافذة بحول الله!

هل رأيتم كيف يتحقق وصف يهود أمام الأنظار مرة بعد أخرى؟ . لقد جاء

موعد الانسحاب المزعوم من الأرض التي لا تساوي 3 % من مجموع ما اغتصبه

يهود من أرض فلسطين.. فإذا هم يتراجعون عن هذا الإنسحاب الطفيف التافه

ويؤكدون غدرهم وخيانتهم، فلا وفاء ولا أمانة كما هو العهد بهم.. إنهم أمة لا

تحترم قداسةً ولا تصون ميثاقاً.. كما نطق رابين بعد يوم واحد من موعد الانسحاب

فقال: «قلت قبل عشرة أيام وأكرر القول: لا موعد مقدس» .. نعم بهذا اللفظ لا

موعد مقدس.. ولا عهد مقدس! !

قال ابن جريج: (لم يكن في الأرض عهد يعاهدون إلا نقضوه.. يعاهدون

اليوم.. وينقضون غدا) [3] .. نعم عاهدوا قبل شهور ثلاثة ثم عادوا ينقضون دون

خجل أو حياء.

ولم يخفِ يهود نياتهم الخبيثة المبيتة بنقض العهد، كما هو دأبهم، فهذا

(موشي شاحال) يصرح لإذاعة جيش إسرائيل: بأن الاتفاق الإسرائيلي/ الفلسطيني

سيكون لاغياً إذا فاز المعارضون للاتفاق في انتخابات الحكم الذاتي! !

وصدق الله القائل: [أوكلما عاهدوا عهداْ نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا

يؤمنون] [4] .. هذه الآيات الرائعة تقف أمام حجج المهزومين الذين يروجون لهذا

الحل العبقري! ! حين يتحولون إلى «حرس حدود» يقوم بحفظ أمن دولة

الصهاينة وهم يراهنون أحياناً على العناصر المعتدلة و «الحضارية» ، كما

وصفها عرفات في وجه المتشددين أمثال رابين ومن أبرز هؤلاء (شمعون بيريز)

الذي شارك عرفات احتفال الأسبان في غرناطة بخروج المسلمين من الأندلس..

(ما أعظمه من احتفال ومن ذكرى تلقي بظلالها على مصير أهل فلسطين اليوم) ،

لكن بيريز من خلال كتابه الجديد «الشرق الأوسط الجديد» يؤكد جذوره اليهودية

الناقضة للعهود والمواثيق التي يوقعها مع شراذم العلمانية العربية المفلسة، ففي

حديثه عن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم يقول: «لن نسمح مطلقاً بعودة اللاجئين

الفلسطينيين إلى ديارهم بغض النظر عما يثيره الجانبان من حجج.. ليس هناك

فرصة لقبول ذلك الآن.. أو في المستقبل..» .

وما أصدق من قال: «اليهود موسومون بنقض العهد وبالغدر، ولقد أخذ الله

تعالى الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- فلم يفوا ... » .

لقد برز المراهنون على صدق اليهود وحسن نياتهم عارين تماماً إلا من

الوقاحة ومفلسين إلا من الدجل، وهذه الحقائق النافرة تثبت مرة بعد أخرى كذب

اليهود وغشهم وخداعهم، وهذا أمر مستقر في النفوس، تحركه الأيام وتثبته الوقائع، ويصدقه الحديث النبوي الشريف.

يا يهود قد أنبأنا الله بكم.. فهل تملك مناخل إعلام التطبيع حجب الحقيقة

الساطعة؟ !

والقادم أحلك:

هنا اليوم معادلة لها طرفان: طرف يزداد قوة وتجبراً، وطرف آخر يزداد

ضعفاً وتراجعاً لتظل محصلة طرفي المعادلة متساوية: كلما ازداد طرف قوة.. كان

على طرف المعادلة الآخر أن يتراجع.. وإلا اختفى نهائياً.

لقد أبرزت مهلة الثلاثة أشهر التي أعقبت الاتفاق أن الصهاينة يهدفون إلى

تحقيق أكبر قدر من المكاسب والتنازلات أمام قيادة معزولة عن شعبها، بل وحتى

عن حلفائها التاريخيين..، ولا يستبعد المراقبون أن هذا يتم عمداً حتى تحترق

أوراق المنظمة وقيادتها، ليتم استبدالها فيما بعد بقيادة تستلم هذا الحمل الثقيل الذي

لا يمكن لأحد أن يصنعه سوى القيادة الحالية.

إن نقض الاتفاق بالإنسحاب من غزة وأريحا يؤدي إلى هذا الهدف المباشر،

كما أنه يكشف عن مطالب إسرائيل وطلباتها والتي كشفت عنها الصحافة العربية

مؤخراً، وهي تتمثل في:

1- الكشف عن كافة مخابيء الأسلحة الفلسطينية في إسرائيل وقطاع غزة

والضفة الغربية، والكشف عن أسماء المشرفين عليها وبصورة خاصة في أريحا

وخان يونس وأيضاً بيان طرق إدخالها إلى تلك المناطق، وأسماء التنظيمات

الفلسطينية التي ساهمت فيها.

2- الإعلان عن حل جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحركة فتح

وإعلانها حركة سياسية غير مسلحة.

3- إطلاق سراح عميل الموساد (عدنان ياسين) وتسليمه لدولة أوروبية يتفق

عليها مقابل إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين البارزين.

4- عدم المطالبة بالسيطرة الفلسطينية على المعابر والجسور.

5- الموافقة بالإبقاء على النشاط العسكري للقوات الإسرائيلية والأمن

الإسرائيلي في منطقة الحكم الذاتي.

6- الموافقة على التنسيق بين قيادة الشرطة الفلسطينية وجهاز الأمن

الإسرائيلي في كافة الأمور الأمنية.

7- الكشف عن أسماء المسؤولين عن 14 عملية قامت بها حركة فتح في

إسرائيل والضفة الغربية والقطاع، وقتل فيها إسرائيليون، ولم يتم إلقاء القبض

على مرتكبيها.

كل هذا يتم «قبل» أن يتم أي انسحاب فعلي.. فما هو ثمن أي خطوة في

طريق الانسحاب الشامل؟ !

لقد تبخرت شعارات «الواقعية» ودخولنا «مرحلة جديدة» ؛ لأن الجانب

الإسرائيلي وحلفاءه من خلال ممارستهم التفاوضية يجذرون في الأمة الصورة

الحقيقية للأمة الملعونة، التي لم تعرف سوى الغدر والخيانة.. كما أنها تمزق آخر

الأوراق الشفافة التي يتحصن بها عرابو الاتفاق المشؤوم والذي يزداد بشاعة مع

مطلع كل يوم، وظهور الحقيقة ساطعة أمام الأمة.

هذه الأمة عليها أن تستلهم مسار قدوتها، النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-

حينما خاطبه ربه بقوله: [الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم

لا يتقون] [5] .. وحين تصل إلى اليقين برسالتها ستختفي كل الخفافيش التي

تتكاثر في الظلام.. ويختفي وقت الاصباح..، وحينها لن تمر بتجربة ساذجة

ومرة، كتجربة أحمد أبو الريش الذي دفع ثمن ولائه لقيادة «الزعيم» دمه وروحه.. بلا مقابل..، وبثمن بخس في الوقت الذي سقط فلسطيني آخر برصاص الغدر

الصهيوني بعد أن ثمّن رابين سقوطه بأنه «نصر لإسرائيل» وأعني به (عماد

عقل) أحد مجاهدي سرايا عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية

(حماس) .

وهنا بالتحديد يفترق الطريق.. وتتباين الشعب طريق يستلهم الرشد من كتاب

ربه ويعد الشهادة مغنماً وطريق سَلّم بوصلة القيادة ليهود تهوي به نحو هوة سحيقة.. لا محالة.

مرة أخرى تبرز المعادلة الجديدة في قصة الصريعين (عماد وأحمد) كلاهما

سقط برصاص الغدر الصهيوني.. أحدهما يعلن أن طريقه مسدود وبلا منافذ

والآخر يرسم للفجر خيط ضوء وحزمة شعاع تقول إن المعركة ببطلها الأصيل قد

أطلت.. فويل ليهود من فجر قد اقترب..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015