مجله البيان (صفحة 1610)

التجرد فى الحوار

من قضايا المنهج

التجرد في الحوار

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

تمهيد:

الحوار: من المصطلحات التي تتردد كثيراً في هذا الوقت، وترددها أطراف

متعددة، والمرددون لهذا المصطلح قد اختلفت مشاربهم، وتباينت أفكارهم وتنوعت

أهدافهم، فأراد منه بعضهم أعظم الحق، وأراد منه آخرون أعظم الباطل، والأصل

في ذلك هو منهج الرجل وطريقته وسيرته العلمية والعملية.

والمحاورة أو المجادلة بالتي هي أحسن وسيلة مهمة من وسائل تبليغ الحق

والهدف منها الوصول إلى الحقيقة، وهي في إطار الحركة الإسلامية أداة التصحيح

والبناء والتقويم الذاتي، فالحوار أداة وعي مشتركة تتحدد فيها الآراء وتُستعرضُ

فيها المسائل ويستخلص منها ما دل عليه الدليل الشرعي أو النظري وهو وسيلة من

وسائل الشورى والتناصح والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو طريق النضج

وسبيل الكمال، ولن يتم تصحيح الأخطاء وتدارك النقص وتقويم المسيرة الشرعية

والدعوية إلا إذا اتسعت صدورنا معشر الدعاة إلى الحق للحوار، وروضنا أنفسنا

على قبول النقد والمراجعة وعندها تكون حواراتنا حوارات تربوية منهجية، تثري

الساحة الإسلامية بالدراسات الشرعية والطروحات العلمية.

وقد أصبحت الصحوة الإسلامية بعثاً عاماً يشمل معظم طبقات الأمة.. فلم تعد

حكراً على أحد، ومن حق الأجيال على الحركة الإسلامية أن تقدر عقولها وتوقر

قدراتها، وتوضح لها حقيقة المسيرة الدعوية سلباً أو إيجاباً فليست القضية أن ندافع

عن مواقف اتجاه من اتجاهات العمل الإسلامي أو علم من أعلامه، ثم نحاول

تسويغ الأخطاء وكتمانها، وإنما القضية أعمق من ذلك وأخطر، وطلائع الصحوة

الإسلامية تتطلع إلى المنهج الرباني بصفائه ونقائه بعيداً عن الكدر والشوائب،

ومنهج الله أبقى وأغلى من كل أحد، وليس عيباً أن ننتقد عالماً أو نخطئ تجربة،

ولكن العيب الكبير أن نخادع أنفسنا والأجيال التي وثقت بنا.

والطريف أن لدينا إقداماً عنترياً على ذكر معايب الناس، وشجاعةً على نقد

الآخرين، لكننا جبناء أمام أنفسنا نضع رؤوسنا في الرمال، وننظر بأعين مغلقة،

ولا نحب مواجهة الحقيقة، فنسخر لقاءاتنا للتمادح، واستعراض الإنجازات

وتفخيمها ولو كانت وهمية، وإذا تجرأ أحدنا على النقد فهو يتكلم باستحياء وخجل،

ولهذا أصبحت قدراتنا على التصحيح والبناء هشة هزيلة بل أصبح المحاور الذي

يريد إظهار الحق يُعدّ عند بعضهم مشاغباً، يشغل نفسه في تفاهات ثانوية، ويريد

أن يجر غيره إليها، وبرعماً مريضاً يجب اجتثاثه من أصوله.! !

ومن ثم أصبحت الأجيال الجديدة من أبناء الصحوة الإسلامية تجتر أخطاء

الآخرين، وتتوارثها بآلية ساذجة، وتتبنى أفكاراً مستعارة مستنسخة، تفكر بعقل

غيرها، وتتحدث بلسان من عداها، وتعيش على منجزات الآخرين ومكتسابتهم،

ولازالت بعض الاتجاهات الإسلامية تعتمد على مناهج حركية وقوالب فكرية، تأسر

نفسها في دوائرها، وقد مضى عليها زمن ليس بالقصير مع أن التجربة الإسلامية

تجاوزتها بمراحل.

فبغياب الحوار والمراجعة ظهر في العمل الإسلامي أكثر من هوة، وأكثر من

شرخ، أضعف من صلابته وتماسكه من جهة، ومن سلامته وصفائه من جهة

أخرى.

فغياب الحوار الجاد ما هو إلا انعكاس آلي لضعف البنية العلمية والفكرية في

العمل الإسلامي، وأرى أن مما يعين الأمة الإسلامية على الخروج من هذا المأزق، وإقامتها من هذه الكبوة، فتح أبواب الحوار والشورى، وتربية أبناء الصحوة

الإسلامية على قول كلمة الحق، صريحة بينة ولو خالفت من خالفت لا يخشون في

ذلك لومة لائم، فالمناصحة هي روح الأمة وعرقها النابض.

قال الله تعالى [والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا

الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر] [1] .

وأي عمل بشري جاد فضلا عن العمل الإسلامي يحتاج إلى دراسة وتخطيط،

ثم إلى دقة في الإنجاز والتنفيذ، وفي أثناء هاتين المرحلتين وبعدهما يحتاج هذا

العمل إلى مراجعة وتقويم يساهم فيهما كل قادر على ذلك.

إن الحوار الجاد المطلوب ما هو إلا دعوة إلى تقليب أوراق العمل الإسلامي

المعاصر، وإعادة النظر بكل تجرّد في مناهج التفكير المطروحة والوسائل الدعوية

المستهلكة، إنه كسر لطوق الرتابة والارتجال السائدين في أوساط العمل الإسلامي،

وهو دعوة إلى تحرير الأمة الإسلامية من الفلسفات الكلامية، والبدع الخرافية،

والتمزق المنهجي، والتوجهات الحزبية، والشطط الفكري بشتى ألوانه وصوره،

ثم إعادة بنائها وصياغتها من جديد، وفق الأسس والضوابط العلمية المبينة في

كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-على منهج السلف الصالح

رحمهم الله.

ونحن جميعاً نتحرك في سفينة واحدة في بحر متلاطم الأمواج، وتزداد

خروق هذه السفينة يوماً بعد آخر، وقد يسهم الحوار في ترقيع هذه الخروق وحماية

هذه المسيرة المباركة من العقبات والمصاعب التي تواجهها، فالحوار تفاعل دائم

بين أطراف العمل الإسلامي وعناصره المختلفة، وتدافع الأفكار والاجتهادات

بالموازين العلمية سيضمن استقامة العمل على الصراط المستقيم.

التجرد في طلب الحق:

إذا كان التأصيل العلمي والمنهجي في الحوار ذا أهمية كبيرة، فإن الجانب

السلوكي والتربوي له أثر كبير جداً في هذا الباب، إذ إن الممارسة الناضجة

والتخلق الكريم بأخلاق القرآن العظيم، هما الترجمان الحقيقي والأثر الحي الصادق

للعلم الصحيح، فليست المشكلة في قضية الحوار علمية فحسب وإن كان لها أثر

كبير وإنما هي تربوية ونفسية كذلك.

والتجرد في طلب الحق يُعين في الوصول إليه، والهوى داء خطير يعمي

بصيرة الإنسان، فلا يرى حقاً إلا ما وافق هواه، والعلم وحده لا يكفي في ساحة

الحوار، بل لابد معه من الإخلاص والتجرد، فقد يضل المرء على علم والعياذ بالله

كما قال تعالى: [أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم] . [2]

وعلى المحاور الصادق أن يقصد بمحاورته وجه الله تعالى وحده لا شريك له، فلا يرجو الغلبة والانتصار، كما لا يرجو ثناء الناس أو حمدهم، فما عندهم ينفد

وما عند الله باق، قال الله تعالى: [فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً

ولا يشرك بعبادة ربه أحداً] . [3]

قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ذكر آداب الجدل والمناظرة:

«ويخلص النية في جداله بأن يبتغي به وجه الله تعالى ... وليكن قصده في مناظرته إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم» . [4]

فصاحب الهوى ليست له قواعدمطردة، أو موازين منضبطة، يعتمد عليها

في البحث عن الحق، بل تراه يدور مع هواه حيث دار، وحينما يتصف المحاور

بهذه الصفة فلا يمكن أن يصل المتحاوران إلى النتيجة المرجوة بحال.

ومن مقتضيات التجرد في طلب الحق:

أ -أن يدخل المرء ساحة الحوار باحثاً عن الحق، حتى لو كان عند خصمه،

ولا يتردد أبداً في أن يتراجع عن رأيه إذا تبين له صحة رأي غيره، قال الله تعالى: [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين] . [5]

وينبغي أن يكون المحاور كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:

«كناشد ضالة لا يُفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ أو أظهر له الحق» . [6]

ولهذا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: «ما ناظرت أحداً قط

فأحببت أن يخطئ» [7] ، وقال أيضا: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق

ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بَيّنَ الله الحق على لساني أو

لسانه» . [8]

وقارن هذه النفس المخبتة الصادقة، التي تعلو على الأهواء ولا تتطلع إلا إلى

الحق، بتلك النفوس المريضة التي تراوغ هنا وهناك حتى لا يظهر ويعلو إلا قولها، سواء أكان ذلك حقاً أو باطلاً.. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: «فانظر

إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به، وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته، وكيف يذم من أفحمه

طول عمره..؟ [9]

وقد تؤثر على المحاور أحياناً اتجاهات فكرية ونفسية غير مرئية تعوقه عن

الوصول إلى الحقيقة العلمية التي طرحها صاحبه: فبعض الناس غفر الله لنا ولهم

يتقنع بقوالب فكرية معدة مسبقاً، ويدخل ساحة الحوار لا للبحث عن الحق، ولكن

لتقرير الرأي، والمدافعة عنه، والتعصب له، فليس عنده الاستعداد أبداً أن يتنازل

عن رأيه، حتى ولو تبين له خطؤه.

والثقة بالنفس خصلة حميدة، لكنها لا تعني الشعور بالعصمة والكمال وليس

عيباً أن يعترف المرء بالخطأ، ويسلم لمناقشه، بل هذا دليل الكمال والورع

والرجل المؤمن الصادق لا يقف ضعيفاً عاجزاً أمام نفسه، حينما يتبين له الخطأ ولا

تصور له خيالاته المريضة، أنه قد ينقص قدره أو يضعف وزنه إن اعترف بخطئه

بل يسارع جاداً إلى الأخذ بزمام الحق، ويعض عليه بنواجذه، ويعتقد جازماً: أنه

برجوعه إلى الحق أنقى وأكمل، ويحتاج ذلك بلا شك إلى عقيدة إيمانية وقوة نفسية، تتلاشى أمامها حظوظ النفوس والإحساس بالكمال وتقديس الذات.

ودعونا نتأمل في حال من حولنا؛ لنرى كيف يجر التعصب للرأي وتقديس

الاجتهادات إلى تصدع الجسور الهشة التي تربط بين المتحاورين.. وكيف يؤدي

ذلك إلى تآكل الأواصر الأخوية بين الدعاة، حتى لا يبقى منها إلا شعارات باهتة لا

حقيقة لها..؟ !

قال الفاروق عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري

رضي الله عنهما:» ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك،

فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة

الحق خير من التمادي في الباطل « [10] .

ب -أن يذكر ماله وما عليه من الحجج والأدلة والبراهين: فامتياز المنهج

الإسلامي يظهر جلياً بهذا التوازن الشامل والعدل الكامل، فلا يجوز أن يُحجب

شيء من الحقيقة، أو يدفن شيء من الأدلة التي تدعم قول المخالف فهذه صفة

ذميمة تدل على حب الذات وقلة الإنصاف والورع، ونزاهة المحاور وموضوعيته

محور أساس من محاور المنهج العلمي، وهي التي يُعبّر عنها في الاصطلاح

الحديث: بالأمانة العلمية.

وقد ذم الله سبحانه وتعالى اليهود لأنهم يتصفون بكتم الحق وتلبيسه بالباطل.

قال الله تعالى: [يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم

تعلمون] . [11]

وقال الله تعالى: [ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون] [12]

وأخذ بعض المبتدعة هذه الصفة الذميمة من اليهود، ولهذا قال الإمام وكيع بن

الجراح رحمه الله تعالى:» أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا

يكتبون إلا ما لهم «. [13]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً منهج المبتدعة في الاستدلال:

» فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الإيمان من قلبه «. ويبين رحمه الله أن هذا ليس خاصاً بالمبتدعة، بل هو أيضا عند طالبي العلو والرئاسة، حيث قال:» وطالب الرئاسة ولو بالباطل ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه، وإن كانت باطلاً، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقاً والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل، ويبغض الكذب والظلم «. [14]

ويرسم شيخ الإسلام في موضع آخر المنهج العلمي الواجب اتباعه في ذلك

فيقول:» وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون به بمجرد موافقة ما

يعتقدون، بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي -صلى الله عليه

وسلم- وأمته وأصحابه، فيردونها لعلمهم بأنها كذب، ويقبلون أحاديث كثيرة

لصحتها، وإن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه: إما لاعتقادهم أنها منسوخة أو لها

تفسير لا يخالفونه، ونحو ذلك «. [15]

وقال أيضا:» يجب أن يكون الخطاب في المسائل بطريق ذكر دليل كل قول، ... ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته «. [16]

وقال أيضا:» فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال

في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف

وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة من ورائه، فيشتغل به عن الأهم،

فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد

يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من

الأقوال فهو ناقص أيضاً.. «. [17]

وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى: [الذين

إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون] [18] » دلت

الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب أن يعطيهم كل ما

لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات، فإنه كما

أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج،

فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة

خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من

تعصبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه «. [19]

وتبين التطبيقات اللطيفة في هذا المبحث: أن ابن تيمية رحمه الله كان من

أعظم الناس نصراً لمنهج السلف الصالح، ومن أعظمهم رداً على المبتدعة بمختلف

مللهم ونحلهم، إلا أنه لتمام اتزانه وسلوكه المنهج العلمي الحق، انتقد بعض

تصرفات جهلة أهل السنة المخالفة لذلك المنهج المشار إليه آنفاً فها هو يقول:

» وفيهم نفرة عن قول المبتدعة، بسبب تكذيبهم بالحق، ونفيهم له فيعرضون عما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه، أو يكذبون به، كما قد يصير من بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيهم، بل إن بعض المسلمين يعرض عن فضائل موسى وعيسى بسبب إعراض اليهود والنصارى عن فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى يُحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب وعن بعض الجهال أنه قال:

سُبوا علياً كما سبوا عتيقكم ... كفرٌ بكفر وإيمان بإيمان [20]

وهذا انحراف لا يليق بمسلم صادق الإيمان.

ج وينبني على ما تقدم: قبول الحق من كل من قاله كائناً من كان حتى من

المبتدع، بله الكافر لأنه إن رد قوله فقد رد الحق، والإنصاف في المحاورة من

صفات الربانيين الذين لا يرجون إلا الحق، وفي هذا الباب أمثلة عديدة، أذكر منها

مثلاً واحداً فقط:

عن قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت: أتى حَبرٌ من الأحبار رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون، فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله وماذاك!» . قال: تقولون إذا حلفتم

والكعبة. قال: فأمهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، ثم قال: «إنه قد

قال، فمن حلف فليحلف برب الكعبة» . قال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم

تجعلون لله نداً. قال: «سبحان الله وما ذاك!» قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قالت: فأمهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-شيئاً، ثم قال: «إنه قد قال،

فمن قال: ما شاء الله، فليفصل بينهما ثم شئت» . [21]

وفي هذا الباب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والله قد

أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، أمرنا بالعدل والقسط، فلا

يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه،

أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق» . [22]

قال الإمام العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسير

قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن

قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما

تعملون] [23] : ... بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم، فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم

للحق «. [24]

طور بواسطة نورين ميديا © 2015