الافتتاحية
التحرير
والآن، أسفر صباح الحقيقة، وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في
مستقبل قضية فلسطين، واستسلمت كل الرايات، ورضي رئيس منظمة التحرير
أن يبيع كل شيء، التاريخ، والحق، والعدل، ودماء الشهداء، ومستقبل الأجيال، والقدس، مقابل أن ينصبه إسحق رابين رئيساً لبلدية (أريحا) ، وفوقها (غزة)
مجاناً، إذ من المعلوم أن إسرائيل قد عرضتها مجاناً لمن يقبل منذ أشهر، لولا
تدخل بعض الوسطاء بطلب التأجيل حتى لا تقع في يد الأصوليين. إذن لقد نُكست
الرايات جميعها، الوطنية، والشيوعية، والاشتراكية، والقومية، والثورية عدا
بعض الجهات اليسارية المعارضة، وموقفها ظل لموقف إحدى الدول العربية،
والمتوقع تغييرها له بتغير رأي تلك الدولة نفسها، وبقيت راية واحدة تعلن الرفض، وتتمسك بثوابت التاريخ والحق، وتفي وتحمل الأمانة إلى الأجيال القادمة، تلك
هي راية الإسلام، وأولئك هم أبناء الصحوة الإسلامية المجاهدة في فلسطين وفي
أرض الله الواسعة كذلك.
ومما هو جدير بالتذكر الآن، أن هذه الرايات المنكوسة، هي ذاتها التي
حاربت راية الإسلام على مدى نصف قرن، وقهرت كل من حاول رفعها في العديد
من ديار الإسلام، وذلك باسم (قضية فلسطين) ، (ولا صوت يعلو فوق صوت
المعركة) ، ومنذ ذلك التاريخ، وفلسطين تضيع قطعة قطعة، حتى أتى (آخر
الثوار) ليسلم رايته مقابل (عزبة) ! .
إن الغضب الإسلامي مشروع ولا ريب.. الغضب لله ولدينه ولحرماته
ولمسجده الأقصى، ولكن الذي ينبغي الحذر منه، أن يصبح الغضب فورة عاطفة،
وانفلاتة أعصاب ومشاعر، دون أن تقنن هذه العاطفة وتلك المشاعر في خطط
جديدة طويلة الأمد، ندير من خلالها صراعنا الجديد/القديم مع اليهود، ونظام الظلم
العالمي الجديد.
إن ما حدث أخيراً، هو مفتتح جديد للتاريخ، بالقدر نفسه الذي يمثل نهاية
مرحلة وتاريخ، وهذا التاريخ الجديد، يتحمل فيه الإسلاميون -وحدهم - عبء
المواجهة، وتبعات الجهاد الأكبر، وفي الصفحة الأولى من صفحات التاريخ الجديد، نقرأ المعالم التالية:
أولاً: إن قضية فلسطين ليست - كما يدعي الساقطون اليوم - شأناً فلسطينياً
مجرداً، وذلك ليقطعوا فلسطين -حكماً- عن الإسلام وعالمه ومجاهديه، بعد أن
قطعوها عملياً عنه، بل إن (فلسطين) شأن كل مسلم، والإثم يلحق الأمة بأسرها إذا
فرطت فيها.
ثانياً: إن قضية فلسطين ليست قضية جيل من الأجيال، يبيع فيها ويشتري،
وإنما هي ميراث أجيال مضت، وحقوق أجيال قادمة، وإذا عجز جيل عن الوفاء
بحقها، فحسبه أن يعلن عجزه، ويخلي السبيل لغيره من الأجيال الجديدة، فالعجز
ليس - دائماً عيباً، طالما استنفذت الجهود، وأدى المؤتمنون الأمانة، وإن العيب
كله أن يأبى العاجز، إلا أن يفرض عجزه وهزيمته على الأجيال كلها، سابقها
ولاحقها.
ثالثاً: إن شيئاً كبيراً من الجهاد المتعلق بفلسطين، لا بد أن يتوجه إلى العقول
والمشاعر، لكي تظل رسالة الجهاد والتحرير في خواطر الأجيال لأن (الخطر)
ليس في الهزيمة على الأرض، أو ضياع جزء منها في زمان ما فهذا كله من
عوارض المواجهة، وتداول الأيام، وإنما الخطر كله أن تصبح الهزيمة في النفوس
والعقول والأفكار، فهذا هو الضياع وهذا هو (القبر) الحقيقي لقضية فلسطين.
إن التجبر الذي بلغه (يهود) الآن، واستعلاءهم في الأمة، والأوضاع التي
آلت إليها موازنات القوى في العالم اليوم، بما في ذلك المنطقة العربية، يؤذن
بصعوبة المهمة، وجسامة التحدي، وأيضاً - وهذا هو المهم - يؤذن بأن (الوقت)
هو سلاح جوهري في هذه المواجهة، فالواضح حتى الآن، أن الأمر سيطول،
وصاحب النفس الأطول هو المؤهل لكسب السباق، وقصر النفس واستعجال
النصر واستصعاب المسافة، كلها مورِّثات للعجز، ومثبطات للعزائم، وعجز
العاجزين ينتهي -عملياً- إلى ذات النتيجة التي ينتهي إليها فجور الفاجرين.
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: «كيف أنتم إذا انفرجتم عن
دينكم، كما تنفرج المرأة عن قُبُلها لا تمنع من يأتيها» ، قالوا: لا ندري! ، قال:
«ولكني والله - أدري - أنتم يومئذ بين عاجز وفاجر» [1] .
نسأل الله البراءة من عجز العاجزين، وفجور الفاجرين.
رابعاً: إن الثقة بنصر الله، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي
زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق زاد
الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة،
وتبقى (لحظة النصر) و (بشارة التمكين) حية شاخصة في رؤى المجاهدين
ومشاعرهم، وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن
تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها، [مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن
يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ] . [2]