المسلمون والعالم
التحرير
في الوقت الذي كان «جنين» السلام الذي سمى «بغزة، وأريحا: أولا»
يخرج إلى النور ويرى الحياة، كان أبواه يمهدان لحفلة القدوم بطريقة مختلفة.
الأب الإسرائيلي هو الطرف الأقوى والأغنى والأقدر على رسم خريطة
الأحداث وتضاريسها، بينما كانت المنظمة الأم - كالعادة - تتقن فن الوقوف في
الجانب الخاسر 000، المنظمة/ الأم كانت تضع آمال القضية المركزية الأولى
للعالم العربي وتاريخها وعرق الأمة ودمها وفداءها على طاولة المباحثات السرية
حيث أنها تحلم «بطفل، بعد أن شارفت على بلوغ سن اليأس، وهي التي تعد
الجميع بالمولود في كل عام، ومع كل مناسبة، لكن عوارض سن اليأس قاسية
واضحة مؤلمة، وهذا ما دفع الأصدقاء قبل الأعداء إلى التهامس بأن السيدة /
المنظمة عاقر.. عاقر.. عاقر....
حتى أشد التقدميين الماركسيين لم يستطع أن يخفي تشاؤمه وحنقه، فكتب
خطاب استقالته إلى الزعيم، وأرفقه بقصيدتين تقول إحداهما:
» لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا
والنهاية تمشي إلى السور واثقة من خطاها « [1]
نعم الجميع يتحدث عن اليأس، وسنه، ومظاهره وأعراضه، وحتى يحافظ
الزعماء التاريخيون على مناصبهم ومسؤولياتهم، فقد خرجوا بحل عبقري لم يسبقوا
إليه.
هذا الحل يقول: لابد من إنجاب طفل حتى ولو كانت ملامحه إسرائيلية
صارخة، وهكذا ولد العار في صيف لافح، وفي ليالي أغسطس الخانقة، وتسربت
أنباء الوليد/ الفضيحة، الذي اعتبرته الأم دليلاً على عنفوانها، وعنوانا لقدرتها
على البقاء حية، حتى ولو سفكت في سبيل ذلك سبب بقائها، وأُس وجودها:
قضية الشعب الفلسطيني. أما الولد المتعجرف فقد كان يتحدث بلهجته المعتادة شاتماً
إياها مهدداً بوأدها أسلوبه الرديء ... ومع أن المنظمة/ الأم أخذت في كيل الثناء
والمدح، ورسم صورة مشرقة باهرة زهرية عن الغد القادم في ظل حراب صهيون، فإن إسحاق رابين قد أفسد عليهم متعة الاحتفال، وها هو يصرخ، فيقول:
» كثيرون حاولوا أن أعترف بالمنظمة قبل هذا الاتفاق، لكني أقول لهم الآن: إن المرء لا يبيع قبل الحصول على الثمن، وقد حصلنا عليه. إننا وقعنا اتفاقا لن يزال بموجبه أي مستوطنة إسرائيلية، وسنصر على إبقاء «القدس» عاصمة أبدية لإسرائيل، ثم إنه في حالة تدهور الأوضاع ستعود الأمور على ما كانت عليه! !
إننا لن ندفع الثمن الذي دفعته ليكود في اتفاقيات كامب «دايفيد» وأضاف
في كلمة ألقاها في 4سبتمبر 1993 في عهد وايزمال للعلوم وبعيد إعلان الاتفاق
الإسرائيلي - الفلسطيني: «إن على اليهود أن يصيغوا السلام مع الأعداء،
وأحيانا مع أعداء سفلة» [2] .
وفى ظل الحديث عن علاقة وتعاون ومشورة طفح بها اتفاق خروج الجنين
إلى النور بدا واضحا من هو الطرف العاجز المستسلم، بل الخائر القُوَى الذي
يصف جلاديه وقاهريه ومهينيه بأنهم شجعان وأصدقاء ومتفهمون للأوضاع وبين
الطرف الآخر في هذه العلاقة المثيرة للجدل، والذي يصف شريكه بالسفالة،
والنذالة، والهمجية ...
سفر الانهيار أم أُم الاتفاقيات؟ :
قبل الدخول في متاهات الاتفاق، وتفصيلات الاتفاقية، هناك حقائق ثابتة
ناصعة، لا يستطيع الفريق المؤيد أو الفصيل المعارض للاتفاقية أن يحجبها، أو
يلغيها من الاطار التاريخي الواقعي والتحليلي للقضية الفلسطينية، وهذه الحقائق
والمعطيات لن يستطيع أحد أن يشكك فيها، أو في أهميتها. ولعل المرتكز الأول
الذي يصلح مدلفا للموضوع، ومفتاحا له هو أن يعي الجميع - مؤيدين ومعارضين - أن العدو الذي نتحدث عنه لم يهبط علينا فجأة من سطح المريخ، أو تجاويف
المشترى، إنه عدو حدثنا عنه رب الأرباب، وخالق الأرض والسماوات، عدو
شاء المولى - عز وجل - أن يواجهه أهل هذا الدين، وهو في بداية مساره، ثم
واجهوه مرة بعد مرة، وأثبتت كل هذه المواجهات حقائق صارخة، لا تجدي معها
تصريحات الساسة، أو نخاسة السلام، أو المتاجرين بالأوطان. حدثنا المولى عنهم
فقال: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليهود والَّذِينَ أَشْرَكُوا] ، وصدق الله، فقد أرانا إحدى آياته البينات الواضحات في هذا العصر حينما أذاق الله أمة
الإسلام الشاردة ألوانا الهول والذل على أيدي الصهاينة اليهود، الذين طردوا
المستضعفين وحرقوا الديار، وجزروا الآمنين، واستولوا على بيت المقدس،
وحرقوا المزارع، وشردوا الأحرار، وظهر حقدهم وعداؤهم لهذا الدين وأهله، كما
أبانت الآيات أن المكر يجمع أهل الكتاب، ولذا جاء النص القرآني المعجز جامعاً
لهذين الفريقين معاً، وهي آية أخرى تحققت في هذا العصر، حيث لم ير تاريخ
البشرية تعاوناً وتنسيقاً بين اليهود والنصارى كما نرى اليوم، وصدق الحق القائل:
[يا أيها اللذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن
يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] .
أمام هذه الآيات المزلزلة ينبغي أن نعرض القضية برمتها:
- قضية الحلف اليهودي النصراني، الهادف إلى تجريد الأمة من هويتها
ومعتقدها ...
- ومصير المسارعين إلى أعدائهم، يقدمون رقابهم، لتجز في سلوك
هستيري، يرى النار جنة، والهلاك نعيماً، والموت حياة سرمدية ...
- ومصير الصابرين العاملين بصمت، لتحقيق وعد الله بفتح من عنده.
ثم على ضوء ما نستعرض حقائق قائمة، تحمل تفاصيل المشهد التحليلي:
أولاً: إن الكيان الصهيوني على الأرض المحتلة يشكل أبشع عملية استعمارية
في تاريخ العالم المعاصر، حيث وظفت القوى الصهيونية والغربية المشاعر الدينية
والاستعمارية في سبيل إقامة كيان لا يمت إلي المنطقة وثقافتها وهويتها بصلة، في
سبيل إضعافها، وفرض السيطرة الصهيونية الصليبية عليها. ورغم مرور ثلاثة
أرباع القرن على هذه الإشكالية، وبالرغم من نيل كثير من الشعوب المستضعفة
والمستعمرة حقوقها - وآخرها الشعب الأسود في جنوب إفريقيا - فإن مأساة الشعب
الفلسطيني ظلت خلال الحرب الأولى والثانية، والحرب الباردة وما تلاها تأخذ
نفس النمط: دعم المشروع الصهيوني بلا نهاية من قبل الدول الغربية - لا سيما
بريطانيا وأمريكا وروسيا - بطريقة تدل على أن المخطط المرسوم لا يتأثر حتى
بأهم المعطيات الدولية والإقليمية.
ثانياً: إن شعبا قد طرد من أرضه وسلبت ممتلكاته في ظل المخطط
الصهيوني وإن ثقافة يهودية توراتية عنصرية قد أزاحت ثقافة عربية إسلامية،
وأخذت تعمل يد التغيير في كل شيء انطلاقا من صراع حضاري بين اليهودية
المدعومة بفهم ورؤية إنجيلية، وبين الإسلام الذي كان يعيش فترة تراجع رهيبة في
بداية القرن ... هذا الصراع الحضاري انتهى في جولته الأولى بانتصار اليهود بلا
شك، وذلك لضعف المسلمين وشتاتهم، وبعدهم عن دينهم، فكان طعم الهزيمة
والانكسار يملأ الأفق: ضُيعت يافا وحيفا، وانتصبت تل أبيب رمزاً يهودياً موحياً، وكانت الفاجعة أن سقطت القدس بنصفها الغربي، ثم سقطت كاملة بعد أقل من
عشرين عاماً ...
ثالثاً: إن المجتمع الدولي بأدواته الهزيلة المضحكة قد أدان دولة الصهاينة
أكثر من مرة، وبدا واضحا أن هذا المجتمع لا قيمة له ولا وزن إذا كان الأمر
يتعلق بجزاري الشعوب الإسلامية، واتضح للشعب الفلسطيني أنه لا سبيل لاستعادة
حقوقه سوى بانتفاضة شعبية، ترتكز على معاني الجهاد، ومنطلقات الإسلام ليس
إلا.
رابعاً: صادف بروز الانتفاضة في عام 1987م إفلاس الحلول العلمانية،
الوطنية والتلفيقية. لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية المثال الأوضح لحالة
الإفلاس العلماني، البعيد عن خط الإسلام، ما شكلت حالة إدانة واضحة للواقع
السياسي في العالم العربي، الذي يشكو من الاغتراب الفكري والسياسي، والتبعية
للقوى الخارجية، وسوء القيادة، وقصر نظرها.
خامساً: لأول مرة منذ بدء الصراع يتبنى الشعب الفلسطيني - لا سيما في
قطاع غزة - حلاً إسلامياً للمشكلة ورؤية عقدية للصراع. ومن السخرية أن دماء
شباب الانتفاضة وجهادها شكل الوقود الحقيقي للحل السلمي المطروح، فالجميع
يعرف أنه لولا الانتفاضة لما فكرت إسرائيل في طرح الحل السلمي، بل ولما نادت
بالانسحاب من غزة دون شروط.
إذن فهذه المعطيات السابقة تدلل بصورة قاطعة على وجود هوة عميقة بين فهم
إطار المشروع الغربي/ الصهيوني المثقل بأنهار الدم وضحايا قنابله العنقودية،
وعجرفته العسكرية، وآلته الصماء، التي امتدت آلتها من تونس حتى المفاعل
النووي في العراق، وبين المقاومين من رجال المنظمة، الذين نجحوا في تحويل
القضية إلى قضية السيادة على نظافة المدن: وحصص الدراسة! وملاحقة
المجاهدين! اللذين يرون في الصراع سلسلة حلقات الصراع الحضارى، الذي
يتحدث الغرب ومنظروه عنه بلا حياء أو موارية، ويركز على أمور معينة بإيحائية
شديدة، تصل إلى حد المباشرة، كما يحدث الآن في الحديث عن القدس، التي
تشكل رمزا للماليزي، كما تشغل بال السنغالي المسلم، والتي جعلها الاتفاق سلعة
كاملة للتفاوض في مرحلة لاحقة، بينما يصرح الجانب الأقوى في وجه اللاهث
عرفات: «القدس عاصمة أبدية لإسرائيل» !
لقد وصف أحد مساعدي عرفات الاتفاقية بأنها أم الاتفاقيات «اقتباسا من
القطب العلماني والصديق الحميم لعرفات: صدام حسين، بينما كان أشد المقربين
من عرفات يشهدون - والحق ما شهد به حاشية عرفات الماركسية - بأن الاتفاق
جزء من سفر يكبر يوما بعد يوم هو (سفر التنازلات) ! :
» من سيُنزل أعلامنا: نحن أم هم
ومن سيتلو علينا معاهدة الصلح ... «
والجواب إنه المناضل الختيار الأراجواز أبو عمار، الذي يخاطبه زميله في
التيه مضيفا:
» لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك فاحمل النعش كي تحفظ
العرش يا ملك الانتظار.
إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار « [3]
- يا سقى الله الكامب الأول!
ما بين الكامب الأول (كامب ديفيد) والكامب الثاني (كامب أريحا) هناك فاصل
زمني يقارب الخمسة عشر عاما، كما أن هناك مساحة عريضة من التنازلات
والاستسلام، تجعل من (كامب ديفيد) إنجازا بكل المقاييس عند مقارنته بالاتفاق
الأخير ... ، وبالطبع فإن عرفات وجوقته قد غيروا من إيقاع نشيدهم المبحوح،
فبعد الهجاء، والشجب، والاستنكار، والنواح، واللطم، والتخوين غدت الخيانة
إنجازا، والهجاء مدحا، والشجب احتفالا، والنواح» دبكة «!
الكامب الأول الذي رفضوه عادوا ليقبلوا بمعشاره أو أقل، وهناك أسباب لا
يمكن إغفالها، تدعو المنظمة وقيادتها المعزولة للقبول بهذه الاتفاقية، وأهمها ضعف
المنظمة، وابتعاد الشارع الفلسطيني عنها، بل وصل الأمر إلى القمة، حيث
استقال الشيخ السائح، ثم هدد ثلاثة من الوفد المفاوض بالانسحاب، ثم استقال
محمود درويش، وشفيق الحوت: عضوي اللجنة التنفيذية، للمنظمة مما دفع مجلة
الأيكونمست البريطانية للقول:» لو لم يعقد عرفات هذا الاتفاق اليوم فإنه حتما لن
يكون المتحدث باسم الفلسطينيين بعد عام واحد من الآن، حيث أن شعبية المنظمة
آخذة في التبخر «.
وفي الجانب الإسرائيلي فإن الاتفاق يحل لها العديد من المشكلات الخانقة،
كوجود مناطق توتر مكتظة كغزة التي شكلت بؤرة صداع مستمر لإسرائيل، وربما
شكلت المناطق الجديدة» أرضا لإلقاء العناصر المشاغبة، بدلا من طردهم للبنان،
حيث يضر هذا بسمعة إسرائيل، التي تريد مأمورا فلسطينيا كعرفات، يقوم بدور
تأديب أعداء السلام «.
ولا شك أن الوضع المالي المتأزم للمنظمة ساهم في إسراعها إلى عقد صفقة
يخرج بها فريق عرفات بأقل الخسائر، وفي الوقت ذاته يرى بعض الفلسطينيين -
لاسيما النافذين في المنظمة - أن عرفات أوجد هذه المشكلة طمعا في تركيع الشعب
الفلسطيني، وتجويعه للقبول بأي حل يكفل زعامته! انطلاقا من الحكمة التي تؤمن
بها الزعامات العربية منذ العصور الجاهلية» جوع كلبك يتبعك «.
لكن التركيع بهذه الصورة لن يأتي بالنتائج المطلوبة، خصوصاً إذا عرفنا أن
الشعب الفلسطيني مسيَّس، وصلب العود، لا سيما في السنوات الأخيرة.
إن الاتفاقية التي وقعت تترجم مرحلة جديدة يُراد للمنظمة وعرفات أن تشارك
فيها، من أجل خنق الخيار الإسلامي، وهذا ما صرح به المسؤولون الإسرائيليون
الذين وضعوا الاتفاق كمخرج لتضاؤل عرفات وجماعته، حيث العدو المشترك (كما
يصورون) للمنظومة العلمانية والصهيونية يزداد ظهورا وشعبية. لقد رضي
عرفات - الجائع للزعامة - بقبول دولة ال 400 كم 2 المسلوبة السيادة، والبعيدة
عن القدس والتي أججت من حدة الخلافات في البيت الفلسطيني، وامتدت لتشغل
التفاعل الغاضب في قلب كل مسلم يتعبد الله بحب بيت المقدس ومسرى المصطفى
-صلى الله عليه وسلم-.
لقد لخص شيخ فلسطيني هذه المأساة بقوله:» إن مصير المسلمين في
فلسطين سيكون مشابها لمصير مسلمي البوسنة ... «وإحقاقا للحق فإن علي عزت
بوجوفتش يرفض حتى الآن اتفاقية الدويلة الممسوخة، التي تشكل إنجازا بجانب
دويلة أريحا، حيث إن غزة مغرم ولست مغنما.
وهذا ما دفع إدوارد سعيد المفكر النصراني الفلسطيني الأمريكي للقول:» إن
المرء يتساءل: لماذا هذا الضعف أمام المشروع الإسرائيلي الذي يتطلب نوعا من
السجود المطلق أمام الإسرائيليين والأمريكيين إلي هذه الدرجة؟ ونحن شعب
مقاتل ... «
إنها مأساة القيادة المتعبة المريضة المضطربة، المنحرفة البعيدة عن نبض
شعبها، التي خاطبها أحد قيادتها في لبنان قائلا:» إذا كنتم تعبتم من النضال
فتنحوا لغيركم أو أتركو النضال لغيركم «