دراسات في الأصول
هيثم الحداد
من خصائص هذه الشريعة وميزاتها صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو ما
يُعبّر عنه أحياناً بالشمولية.
فأدلتها الأساسية وهي نصوص الكتاب والسنة، وما ثبت من الإجماع - الذي
هو بمثابة النصوص أيضاً - محصورة، لكنها مع ذلك صالحة للاستدلال على
الوقائع المتجددة، التي لم تكن جزءاً من الواقع عند تنزل النصوص.
ولقد بذل علماء هذه الأمة جهودا عزّ نظيرها في خدمة هذا الدين، وإن من
أعظم جهودهم في ذلك استقراءهم نصوص الكتاب والسنة، وإعمال النظر فيها،
فألفوا بين النصوص ذات الدلالات المتشابهة، وخرجوا بقواعد كلية، تنتظم تحتها
جملة من الفروع الفقهية، فإذا صحت هذه القواعد على ما وقع، فإنها تصح كذلك
على ما يقع، سواء أتى النص بحكمه أم لا.
ومن هذه القواعد، قاعدة «سد الذرائع» وهي قاعدة عظيمة، لها تطبيقات
عديدة، سيما في عصرنا الحاضر، حيث كثرت نوازله، وتعقدت مسائله، فهي
جديرة بالبحث.
* تعريف «الذرائع» لغة:
الذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة، والسبب إلى الشيء، أصلها لغة من
ذرع [1] .
ف «سد الذرائع» لغة: سدّ الطرق حتى لا تؤدي إلى نتائجها وآثارها،
بصرف النظر عن كون هذه الآثار محمودة أو مذمومة [2] .
* تعريف «الذرائع» اصطلاحاً:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الذريعة هي الوسيلة، لكنها
أصبحت في عرف الفقهاء عبارة عمّا أفضى إلى فعل محرّم» [3] .
وعرفها القرطبي - رحمه الله - بقوله: «عبارة عن أمر غير ممنوع في
نفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع» [4] . وهذا من أرجح ...
التعريفات [5] .
وعلى هذا فالذريعة بالمعنى الاصطلاحي هي أحد أفراد الذريعة بالمعنى
اللغوي، يؤكد ذلك ما قاله القرافي رحمه الله: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها
يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة
المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج. وموارد الأحكام
على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة المصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل،
وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم، وتحليل،
غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسائل إلى أفضل المقاصد أفضل
الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة» [6] .
فللذريعة - إذن - ثلاثة أركان، هي:
الوسيلة، والمتوسَّل إليه، والواسطة بينهما، أو إفضاء الوسيلة إلى المتَوسَّل إليه.
ومثال ذلك: بيع العنب، فهو وسيلة غير ممنوعة في نفسها، واستخدام هذا
العنب في صناعة الخمر هو المتوسَّل إليه، ودرجة الإفضاء هو قوة ثبوت استخدام
هذا العنب الذي بيع في صناعة الخمر، ولهذه درجات متفاوتة.
وعلى هذه الأركان تُبنى جلّ مباحث الذرائع: تقسيماتها، وأحكامها، بل حتى
تعريفها، ولذلك فإن دراسة كل ركن من هذه الأركان على حدة من الأهمية بمكان.
الركن الأول: الوسيلة:
وهي الأساس - الذي تقوم عليه الذريعة، فبوجودها توجد باقي الأركان.
والتعبير عن هذه «الوسيلة» بأنها «أمر غير ممنوع في نفسه، يدخل
المباح، والمندوب، والواجب، ويُخرج ما كان ممنوعاً في نفسه، كشرب الخمر،
فهو ذريعة للفرية، والزنى، فهو ذريعة لاختلاط الأنساب، لكنهما محرمان في
أنفسهما، حتى ولو لم يؤديا إلى تلك المفاسد..
الركن الثاني: المتوسَّل إليه:
ولابد أن يكون أمراً ممنوعاً، إذ لو كان أمراً جائزاً، لانتقلنا من الحديث عن
الذريعة بالمعنى الاصطلاحي إلى الذريعة بالمعنى اللغوي.
ويُفهم من عبارات العلماء إرادة مطلق المنع أو التحريم، ولم يحددوه بدرجة
معينة؛ إذ المنع تختلف درجاته - كما هو معلوم -، فيتبع ذلك اختلاف قوة منع
الوسيلة المفضية إليه، فما كان المنع منه أقوى كالاعتداء على الضروريات الخمس، كان المنع من الوسائل المفضية إليه أقوي، فالشريعة - مثلاً - جاءت بسد أى
وسيلة تؤدي إلى المساس بالدين، سواء أكان بالابتداع فيه، أو التساهل في أمره،
ولو كان في المحافظة عليه ذهاب الأنفس والأموال، لأنه أهم الضروريات.
الركن الثالث:
إفضاء الوسيلة إلى المتوسل إليه؛ وهو الذي يصل بين طرفي الذريعة:
الوسيلة والمتوسل إليه.
والبحث في هذا الركن يكون في قوة الإفضاء هذه، فهناك وسائل يكون
إفضاؤها إلى المحذور ضعيفاً، كزراعة العنب مطلقاً؛ فإنه وسيلة إذ قد يتخذه
بعض الناس لصناعة الخمر، فهل تُمنع زراعته؟ وإذا بيع لمن يصنع منه الخمر،
فإنه يصبح ذريعةً إفضاؤُها إلى المتوسل إليه قوية.
وضابط هذا الركن من أهم أسباب الخلاف في تعريف العلماء للذريعة؛ لأن
قوة الإفضاء تختلف، ودرجاتها ثلاثة: ضعيفة، وقطعية، وما بينهما.
وعلى هذا فالمقصود بسدِّ الذرائع شرعاً:» حسم مادة الفساد بقطع
وسائله [7] .
أقسام الذريعة وأحكامها:
بالنظر إلى التعريف السابق للذريعة، وإلى حال كل ركن من أركانها على
حدة نحصل على الأقسام الآتية:
القسم الأول:
وضابطه أن قوة الإفضاء فيه نادرة، سواء أكانت الوسيلة:
أ - واجبة؛ كالذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد لسامع النداء؛ إذ قد
يتعرض بيته وماله إلى السرقة.. وهكذا.
ب - أو مندوبة؛ كالصدقة على عموم المسلمين الذين لا يُدرى ما حالهم.
ج - أو مباحة؛ كالتجاور في البيوت؛ فإنه يفضى نادراً إلى الزنى.
وحكم هذا القسم الجواز في صوره الثلاث؛ لأن النادر لا حكم له.
القسم الثاني:
وهو أنواع، تشترك في أن قوة الإفضاء: إما قطعية، أو غالبة، أو كثيرة
ولكن ليست بغالبة، فيحصل لدينا ثلاثة فروع:
1 - وسيلة مباحة تؤدي إلى محرّم، كالسفر إلى البلاد التي تكثر فيها
المنكرات، وارتياد الأماكن العامة إذا أدى ذلك إلى رؤية المنكرات وعدم إنكارها أو
أدى إلى النظر إلى العورات. وكقيام ذي الهيئة الذي يُتخذ في الناس قدوة بفعل
مباح على وجه يسئ الجاهل فهمه، فيعتقد حل محرم أو تحريم حلال، ومن ذلك
تولي الولايات في الجهات أو المؤسسات التي يلتبس أمرها على العامة، فإن رأوا
فيها الدَّيِّنَ الثّقة، ظنوا صلاحها وشرعيتها.
أما حكم هذه الذريعة فهو السدّ؛ لأنها تؤدي إلى مفسدة أكبر من المصلحة
المترتبة على فعلها..
2- وسيلة مندوبة تؤدي إلى محرّم، كالسفر إلى الحج النافلة، أو إلى الدعوة
غير الواجبة إذا كان ذلك يؤدي إلى تضييع حق الأولاد، أو يغضب الوالدين.
وحكم هذه الذريعة المنع أيضاً؛ لأن مفسدتها أعظم من مصلحتها.
3- وسيلة واجبة تؤدي إلى محرم، وهذه موطن رحب للاختلاف، وإعمال
الاجتهاد، فمن العلماء من يرى منعها مطلقا، تغليبا لجانب الخطر على الإباحة.
والأمر يحتاج إلى نوع تفصيل، يعتمد على القاعدة الأساس في الحكم على
الذرائع، وهي: «إذا تعارضت مفسدتان دُفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما» .
ومن صور هذا الفرع، إذا كانت الوسيلة واجبة ضرورية متعلقة بفرد واحد،
تؤدي إلى متوسَّل إليه ممنوع متعلق بأمر ضروري أيضاً، لكنه متعلق بمجموعة،
فما الحكم؟
والأمثلة الواقعية على ذلك كثيرة، وكل مسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة حسب
ظروفها، وملابساتها، وما يحيط بها.
* تحرير محل النزاع بين العلماء في سد الذرائع:
تنقسم الذرائع من حيث الحكم عليها إلى ثلاثة أقسام:
أ- قسمٌ أجمع العلماء على سده، بصرف النظر: هل يُعتبر من باب
«الذرائع» أم لا؟ فبيع العنب لمن يتخذه خمراً، وإلقاء السُّمِّ في أطعمة المسلمين،
ونحوهما من الأعمال ممنوعة سواء أسميت «ذرائع» أم لا، وسواءً أكان
الاستدلال على منعها بقاعدة «سد الذرائع» ، أو بقواعد شرعية أخرى، كاستدلال
ابن حزم - وهو ممن لا يرى العمل بسد الذرائع - على حرمة ما ذُكر بقاعدة تحريم
التعاون على الإثم والعدوان.
فالخلاف المتعلق بهذا القسم خلاف لفظي لا ثمرة له، ومنشأ الاختلاف مبسوط
في كتب الأصول.
ب - قسم أجمع العلماء على عدم سدّه، سواء سمي ذرائع أم لا، وذلك مثل
زراعة العنب مطلقاً، فلا تمنع خشية أن يستخدمه بعض الناس لزراعة الخمر.
ج - القسم الثالث هو موطن النزاع، الذي وقع فيه خلاف حقيقي، والخلاف
فيه بالتحديد في صورتين:
الأولى: ما هي درجة الإفضاء التي يحكم عندها بمنع الوسيلة، هل هي
الدرجة القطعية، أم الظنية ظناً غالباً - وإن لم يكن كثيرا -، أم الدرجة الكثيرة؟
بمعنى هل يُلحق الكثيرُ غيرُ الغالب، بالغالب، فيأخذان حكم القطعي؟ الظاهر -
والله أعلم - أنهما يلحقان بالقطعي، فيحكم عندئذ بسد الذرائع، وذلك من أجل
الاحتياط، ولأن كثرة وقوع المفاسد مع قابليتها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع، ثم إن
الشرع ورد بتحريم أمور كانت في الأصل مباحة؛ لأنها تؤدي في كثير من الأحيان
إلى مفاسد، حتى وإن لم تكن غالبة [8] .
الثانية: هل العبرة في العقود بمجرد الظاهر - كما يرى ذلك الشافعية - أو
أن للقصد تأثيراً في الحكم على الذريعة؟ بمعنى: هل يمنع الفعل الذي يؤدي إلى
ممنوع حتى وإن لم يقصد صاحبه ذلك الممنوع؟ كمن يسب آلهة المشركين أمامهم،
غيرة على دينه، مع أن ذلك يؤدي إلى سب الله - تعالى - الذي لا يقصده مسلم.
الراجح أن القصد ليس له تأثير في الحكم على الذريعة، خصوصاً قبل الفعل،
فالكلام في المنع الذي يكون قبل الفعل، لا في التأثيم الذي يبحث فيه بعد الفعل،
وذلك حتى لا يفتح الباب لفعل ذلك مرة أخرى، وحتى لا يتساهل الناس في ذلك،
أو يظنوا حِل ذلك الفعل [9] .