أهل السنة
يعرفون الحق ويرحمون الخلق
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين.
... أما بعد:
إن من القضايا الملحة التي ينبغي الاعتناء بها علماً وعملاً موضوع الصفات
السلوكية والأخلاقية عند أهل السنة والجماعة. فإن الناظر إلى واقع كثير من دعاة
أهل السنة يرى ما هم عليه من تفرّق وخصومة وتناحر بل ربما تجاوز ذلك إلى حد
التضليل والتفسيق.
ويبدو أن من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى هذا الواقع المحزن الغفلة عن
الالتزام بالصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، فأنت ترى أن أولئك الدعاة على
توجه واحد، ومنهج واحد في الاستدلال، ومع ذلك كله فلا اجتماع ولا وئام، بل
تشرذم وتناحر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد اعتنى السلف الصالح بالجانب السلوكي الأخلاقي علماً وفقهاً، كما حققوه
عملاً وهدياً، بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة
في ثنايا كتب العقيدة، وعلى سبيل المثال فهذا قوام السنة إسماعيل بن محمد
الأصبهاني (ت 535هـ) يقول:
«ومن مذهب أهل السنة التورّع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرز
من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحاب في الله عز وجل، واتقاء الجدال
والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم،
والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وغضّ الطرف عن
الريبة والحرمات، ومنع النفس عن الشهوات، وترك شهادة الزور وقذف
المحصنات، وإمساكُ اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم
الغيظ، والصفح عن زلل الإخوان، والمسابقة إلى فعل الخيرات، والإمساك عن
الشبهات، وصلة الأرحام، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله، والشفقة على
خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة القرآن، والبدار إلى أداء الصلوات [1] .
والحديث عن تلك الصفات السلوكية حديث طويل، ولكن حسبي في هذه
المقالة أن أشير إلى إحدى تلك الصفات المهمة، ألا وهي أن أهل السنة يعلمون
الحق، ويرحمون الخلق، فإنهم أصحاب هدى واتباع، وأرباب عمل واقتداء،
ومن ثم كانوا أعلم الناس بالحق، وأحرص الناس على تبليغ الدين والدعوة إليه،
ومنابذة أهل الأهواء والبدع، وفي الوقت نفسه فإنهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم
الخير والهدى، ولذا كانوا أوسع الناس رحمةً وأعظمهم شفقة، وأصدقهم نصحاً.
يقول ابن تيمية في هذا المقام:
» وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة،
فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة ويعدلون على من
خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تَعالَى: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ويرحمون الخلق،
فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم،
وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق « [2] .
ويقول ابن رجب في هذا الصدد:
» كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون
إلى تعظيم نفوسهم البتة، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية،
ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده.
وكانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله ويتحملون في
تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون بل راضون بذلك، كما كان
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول لأبيه في خلافته: «إذا
حُرِص على تنفيذ الحق وإقامة العدل يا أبت لوددت أني غَلَتْ بي وبك القدور في
الله عز وجل» وقال بعض الصالحين: «وددت أن جسمي قُرِّض بالمقاريض،
وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل» ومعنى هذا أن صاحب ذلك القول قد
يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله، وأحب أن يقيهم من عذاب
الله بأذى نفسه، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته، وما يستحقه من الإجلال
والإكرام والطاعة والمحبة، فود أن الخلق كلهم قاموا بذلك، وإن حصل له في نفسه
غاية الضرر « [3] .
إن التزام أهل السنة بالعلم والعدل أورثهم هذه الخصلة الرفيعة، فمسلك أهل
السنة قائم على العلم والعدل، لا الجهل والظلم، حتى كان أهل السنة لكل طائفة من
المبتدعين خير من بعضهم لبعض» بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض
الرافضة لبعضهم، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا
ينصف بعضنا بعضاً لقد تلقى أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخلق
العظيم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام - أعلم
الناس بالحق، وأعظم الناس رحمة ورأفة، فمن أجل إظهار الحق بلّغ الرسالة،
وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، ومن أجل نصرة الحق نجده -صلى الله
عليه وسلم- يغضب أشد الغضب، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب،
وكل ذلك حين رأى بعض أصحابه - رضي الله عنهم - يتخاصمون في القدر، ثم
قال: «مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم
الكتب بعضها ببعض: إن القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، وإنما نزل يصدق
بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» [4] .
ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، قال تعالى:
[لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «قالت: ما خير رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان
إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، إلا
أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» .
وتأمّل - أخي القارئ - ما لقيه -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الأذى في
سبيل دعوته ونصحه للخلق، ولما سألته عائشة -رضي الله عنها قائلة: «يا
رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد» فقال: «لقد لقيت من قومك
وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد
كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا
بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك
ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال وسلّم علىّ ثم قال: يا
محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك لتأمرني
بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به
شيئاً» ، أخرجه الشيخان.
ولقد سار سلف الأمة على ذلك، فهذا أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه -
يقول الحق، ويرحم الخلق، فإنه لما رأى سبعين رأسا من الخوارج، وقد جزت
تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، فقال رضي الله عنه إعلاماً بالحق:
«سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت
ظل السماء» .
ثم بكى قائلاً: «بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام» [5] .
وهذا الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله - يثبت على كلمة الحق
لا يخشى في الله لومة لائم، فيقول بكل يقين: القرآن كلام الله غير مخلوق،
ويصبر الإمام على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة -
آنذاك -، ومن تبعهم من خلفاء كالمأمون، والمعتصم، والواثق.
«ولما جاءه أحدهم وهو في السجن فقال: يا أبا عبد الله عليك رجال، ولك
صبيان، وأنت معذور - كأنه يسهل عليه الإجابة -، فقال الإمام أحمد: إن كان
هذا عقلك فقد استرحت [6] .
ومما قاله الإمام الذهبى - رحمه الله - في شأن محنة الإمام أحمد:
» الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز
عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملاً، فهو صدّيق، ومن
ضَعُفَ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا
بالله « [7]
لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلاً ليناً، لكن لما رأى الناس يجيبون
ويعرضون عن الحق، عندئذ ذهب ذلك اللين، وانتفخت أوداجه، واحمرت
عينا [8] .
ومع ذلك البطش والجدل والسجن من قبل أولئك الخلفاء إلا أننا نجد هذا الإمام
يقول:
كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم-
في حل ورأيت الله يقول:» وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم «
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بالعفو في قصة مسطح - ثم قال - وما
ينفعك أن يعذِّبَ الله أخاك المسلم في سبيله؟» [9] .
وهاك مثالاً ثالثاً لأئمة أهل السنة، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يقرر عقيدة السلف الصالح، ويجاهد بلسانه وسنانه طوائف الزيغ والانحراف،
فيرد على أهل الكتاب ويقمع أكاذيب الباطنية، ويناظر الصوفية وأهل الكلام ...
وكل ذلك من أجل بيان الحق وتبليغه.
وفي الوقت نفسه فقد كان -رحمه الله- من أعظم الناس شفقة وإحساناً، وإليك
المشاهد الدالة على ذلك:
يقول ابن القيم: «جئت يوماً مبشراً له (أي لابن تيمية) بموت أكبر أعدائه،
وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت
أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا
وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له» [9] .
ولما مرض ابن تيمية - مرض الوفاة - دخل عليه أحدهم، فاعتذر له،
والتمس منه أن يحلله، فأجاب الشيخ: «إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا
يعلم أني على الحق، وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، كونه فعل ذلك غيره ... » [10] .
وقال أحد خصومه (ابن مخلوف) : «ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه
فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا» [11] .
وأخيراً أدعو إخواني إلى ضرورة معرفة الحق ورحمة الخلق، وأن نهتم
بتحقيق العلم والعدل في هذا الشأن، وأن نسعى جادين صادقين إلى تحقيق منهج
أهل السنة عقيدة وسلوكاً، والله المستعان.