مجله البيان (صفحة 1532)

نحو شعر إسلامى مبدع

البيان الأدبي

نحو شعر إسلامي مبدع

بقلم: إبراهيم بن منصور التركي

مدخل:

تفتح مجلة البيان الحوار الهادف والبناء حول ما طرحه الكاتب من آراء حول

هذا الموضوع ولاسيما من ورد ذكرهم في المقالة - وصولاً إلى الرأي الصواب

ورغبة في النهوض بالأدب الإسلامي إلى المستوى اللائق به.

- البيان -

درج الباحثون في دراسة الآداب على أن يسبقوها بالحديث عن حيوات

العصور المدروسة، فيتحدثون عن التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية

والاقتصادية التي زامنت الأدب؛ ذلك لأن الأدب - في حقيقته - انعكاس شعوري

يتأثر بما تفرزه تلك التيارات سلباً أو إيجاباً. وما اقتيات الأدب العربي المعاصر

من موائد الرطانة المستعجمة إلا شاهد إثبات حي على ما أشربته بعض المجتمعات

العربية (والإسلامية) من حب مناهج الغرب الحياتية.

إن عدم شيوع فكر إسلامي ناضج يظل الأدب في ظله ويكلؤه برعايته سبب

رئيسي وراء غربة الأدب الإسلامي. لقد نبت الفكر المعاصر على السحت حتى

أوشك الأدب أن يرتع فيه لولا بضع أيادٍ تداركت منه بعضاً.

على أن تلك الأيادي لم تخل - بحسن نية - من بعض القراءات الخاطئة،

فأدخلت في حقل الأدب الإسلامي أعمالاً بينه وبينها بعد المشرقين، لمجرد تناولها

حوادث تاريخية أو إسلامية معروفة. فلأن توفيق الحكيم يحكي قصة (أهل الكهف)

في مسرحيته المشهورة، ولأن صلاح عبد الصبور يعرض (مأساة الحلاج) !

في مسرحية أخرى، اعتُبِر عمليهما أدباً إسلامياً دون النظر إلى البعد الفكري

الذي تنطوي عليه المسرحيتان [1] رغم أن كاتباً آخر يطرح رأياً نقيضاً حول

مسرحية صلاح عبد الصبور، يرى فيه أن الحداثيين (يعتبرون رموز الإلحاد

والزندقة أهلَ الإبداع والتجاوز، وأهلَ المعاناة في سبيل حرية الفكر والتجاوز

للسائد، وألفوا في مدحهم القصائد والمسرحيات والمؤلّفات كما فعل صلاح عبد

الصبور مع الحلاج) [2] . إن مثل هذا الخطأ - غير المقصود - لم يكن ليحدث لو

أن المسرحية وقفت في محكمة الفكر الإسلامي.

بل لعل ذلك اللغط الذي يدار بين الفينة والفينة مشروعية الأدب الإسلامي

مصطلحاً وأداءً، لم يكن ليظهر لولا أن ساحاتنا الثقافية ثمُلت من ماء الفكر الآسن

المتلوث بمعميات العلمانية والقومية والعقلانية والتنوير وما أشبهها.

لقد كان في غياب الرؤية الإسلامية تناسل للرؤى الضبابية، وإثارة للزوابع

المفتعلة حول النص الأدبي الإسلامي. بيد أن مؤثرات أخرى أوغلت في فعلها

السلبي إلى داخل النص؛ إذ لا زال بعض من منظري الأدب الإسلامي ومطبقيه

يصرّ على تكبيل الشعر والحد من قدراته الجمالية، تارة بإلباسه عباءة الهدف

الأخلاقي، أو سربلته تارة أخرى في ثياب المكاسب النفعية المجردة. على أنني

لست من أرباب الفصل الحاد بين المتعة والمنفعة في تحديد وظيفة الأدب؛ ذلك أني

أعتبر علاقة المتعة بالمنفعة كعلاقة الجزء بالكل. إن تحقيق المتعة المشروعة منفعة

ملحة لا غنى للحياة الكاملة عنها، وإيجاد الجمال المشروع جانب تكميلي لا تتم

الحياة إلا به.

ومن هذا المنطلق أرى أن الفن بكل مفرداته ليس إلا عملاً غائباً ينتهي عند

تحقيق الإمتاع المشروع [3] ، يستوي في ذلك الرسم والشعر والموسيقى [4] .

تلك هي الوظيفة الأصل في مهمة الفن، وإن كان لا يخلو من وظائف طارئة

تتلبّس النفعية أحياناً دون أن تكون خالصة لها. غير أن قلب الأمور أحياناً يحيل

الطارئ إلى أصيل والغاية إلى وسيلة، وذلك عندما يتم القول بأن (الفن في الإسلام

يتخذ مسلكاً مميزاً، فهو - (كما يقول الكاتب) - وسيلة مهمة من وسائل إثراء

الحس الجمالى عند الإنسان، ولكنه بفضل منهج الإسلام السليم لا يكون غاية في

ذاته، بل هو وسيلة إلى غايات سامية) [5] .

ولا يمكن قبول ذلك على إطلاقه، فالفن - إذا شئنا اعتباره وسيلة - فليس إلا

وسيلة إلى هدف أُخروي، هو دخول الجنة، على اعتبار أن قصد المسلم في جميع

أعماله أن تقربه إلى الله زلفى. أما أن يكون الفن وسيلة إلى هدف نفعي يتحقق في

الدنيا فذلك مما اختلف مع الكاتب فيه، وإن كنت لا أريد أن أحجّر واسعاً فتغلق

أبواب النفعية في الأدب ولكني أشدد على أنها تظل طارئة وأن الأصل في الأدب

هو الجمال. إنّ فرقاً في جماليات النص يظهر واضحاً بين من يسخَّر جهده ليعلي

من أدبية النص وبين من يبتغي به وجه المكاسب النفعيّة. على أني لا أشك في أن

أرقى النصوص هو ذلك الذي يستطيع بلوغ هدفه النفعي عبر فّنّيات العمل الأدبي.

وإذا كان العالق السالف يبوء بإثم التقريرية والوضوح والخطابية في الشعر

الإسلامي فإن عائقاً آخر يأتي ليزر وازرة التخليط المستهجن. هذا التخليط الذي

يجعل بعض القصائد أمشاجاً من المعاني لا يؤلف بينها رابط، فتبدأ القصيدة بلا

إعداد مسبق لخط السير الذي ستمضي فيه [6] ، وتخبط خبط عشواء، دون أن

يكون ثمة معنى عام تمضي لتؤديه؛ مما يجعلها مِزقاً من الخواطر تنوء بالتشرذم

والشتات.

لقد وقف الناقد العربي ابن قتيبة موقف المدافع عن الشعر الجاهلي حينما اتّهم

بتشتت موضوعاته، فراح يبحث لتلك الظاهرة عن تعليل، وبرغم تعسفه في

التعليل [7] إلا أنه ذو دلالة واضحة على أن ابن قتيبة كان يرى أن الشاعر الجاهلي

يتصور عمله وحدة متصلة الأجزاء يسلم الواحد منها إلى صاحبه. وكذلك كان الناقد

ابن طباطبا يوجب جاهزية المعنى في الذهن بصورته النثرية قبل الشروع في كتابة

القصيدة [8] . وفي الوقت الذي كان فيه النقد العربي يعيب التعلق المعنوي للبيت

الشعري بما قبله أو بعده، يأتي ناقد كابن الأثير ليجيز ذلك محتجاً بوروده بين

الآيات القرآنية [9] .

إن تلك الثسذرات التراثية تأتي لتؤكد على أن ترابط القصيدة ووحدة معناها

هاجس كاد النقد العربي يركن إليه لولا أن معيار وحدة البيت شغف القصيدة العربية

حباً وملأ عليها قلبها. ومهما تكن القصيدة القديمة قد عضّت على ذلك المعيار

بالنواجذ، فإن ذلك لا يعيبها فلكل عصر مقاييسه الخاصة. غير أن الأنماط

المعيشية المنتظمة في عصرنا الحاضر توجب لوناً من التفكير المنظّم، وهو تفكير

يدفع الشاعر إلى أن يعرف سلفاً: كيف سيبدأ؟ وكيف سيستمر؟ وكيف سينهي

القصيدة؟ . ثم بعد أن يرتسم منهج القصيدة في ذهنه كاملاً يشرع في تدوين تجربته

الشعرية متحرّفاً إلى التتابع المنطقي بين معانيه.

والذي يبدو أن إمساك القصيدة الإسلامية بعِصَم التقليدية احتجزها في زاوية

ضيقة لم تخرج منها بعد. ففي الوقت الذي أثبت الشعر الحر (شعر التفعيلة) وجوده

على الساحة لازال بعض النقاد الإسلاميين يماري في مكانته [10] ، ولازال بعض

الشعراء محجماً عنه أو مقلاً منه. إننا لا نشك في أن الشعر العمودي متى ما أبدع

كان السقف الأعلى للإنتاج الشعري. بيد أن ذلك لا يمنعنا من طرق الأبواب

الجديدة، وتجريب الأشكال الشعرية المعاصرة متى توفر فيها إيقاع الشعر

وموسيقيته الشعرية.

هذا الجمود الشكلي عند بعض الأدباء الإسلاميين صاحبه جمود دلالي ظلّت

القصائد تئن تحت وطأته بلا فِكاك، ونراه يتمثل في وقوع القصيدة الإسلامية

مضغة في شدق المأساوية الدامية، لا تكاد تخرج منها إلا إلى شعر المواعظ والزهد وبرغم هذا فإن القصيدة لازالت دون المستوى المأمول في شعرها المأساوي ذاك،

فكما لَفَظَ الذوق السليم شعر الغزل الصريح لوقوفه عند معانٍ مستهلكة لا تتجاوز

الخد الوردي والشَعر الفاحم والقوام المعتدل، فقد استكره من الشعر الإسلامي

استعادته - أو سرقته على رأي النقد العربى القديم - لمعانٍ لاكها الشعر من قبل

حتى مَّجها. فلا زالت القصيدة تعيد - بتسطيح ظاهر - المعاني ذاتها التي ذكرها

أبو البقاء الرندي في نونيته قبل عدة قرون، وهي لا تتجاوز اغتصاب أنثى وتيتيم

طفل وإبادة الرجال والشيوخ.

إن تلك المآسى تحتاج إلى توظيف فني يعمّق أثرها في النفوس بتناول للمأساة

منفرد عبر مشاهد تعرضها وتكشف آثارها الخبيئة، بدلاً من جمع البيض في سلة

واحدة كما فعل الرندي.

على أني أعتب على كثير من الشعراء الإسلاميين عدم طرقهم موضوعات

شعرية أخرى غير الشعر المأساوي، فقد أَفَلَتْ شمس الشعر الوجداني وشمس الشعر

الغزلى العفيف، فلم يعد لهما وجود بينهم. إن ما يجب أن نذكره ها هنا أن طرحنا

للأدب الإسلامي يعني اعتباره الخيار الأول والأخير، وأن وجوده في الساحة يعني

رفض ما سواه، مما يوجب توسيع دائرة الأدب الإسلامي ليستوعب جميع

الإبداعات المحتمل وجودها في المجتمع المسلم، والتي لا تتعارض نصاً أو روحاً

مع الإسلام.

ومن ذلك المنطلق أرى وجوب مخاطبة الشعر الإسلامي لجميع فئات المجتمع، بحيث يتوجّه قسم منه، عبر الوسائل التعبيرية القريبة، ليحرّك وجدانات العامة

ويثير انفعالاتهم، على أن يبقى منه قسم آخر يستهوي المتخصصين في الأدب

والنقد بتقنياته الفنية العالية.

إنى لا أريد أن نقع - كما وقع الكثير من النقاد - في مزلق النظرة الأحادية

عند الحكم على النتاج الشعري، لقد ذهب بعضهم بدافع تقديس الرؤية الجمالية إلى

تفضيل شعر الغموض، وبزاوية قدرها مائة وثمانون درجة انحرف آخرون نحو

شعر الوضوح تحت ستار نفعية الأدب.

بينما ما أعتقده أن القضية لا تحتاج كل ذلك الورم التنظيري؛ فالشعر الزبد

سيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وإن كنا نتمنى أن يكون

الشعر الإسلامي قد اختار لنفسه منزلة بين تلك المنزلتين، فلا يُوغل في سماء

الغموض، ولا يُغرِق في بحار الوضوح.

ومما يلاحظ أن النقد المعاصر قد وجّه وجهه نحو تمرير الإبداع الساذج

وتبريره، فإنى أرجو أن لا تزلّ قدم النقد الإسلامي المعاصر، بعد ما رأيت الثناء

المتبادل يلفح في وجه النقد الإسلامي، مع تغييب للفعل النقدي الفاعل الذي يتلمّس

الأخطاء ويبحث سبل إصلاحها، ولعلي أرجو أن يكون ما كتبته مساهمة مفيدة في

قطع مشوار من ذلك الطريق الطويل.

والله الموفق،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015