مجله البيان (صفحة 1451)

أخطار النزعة المادية في العالم الإسلامي

نقد كتابات جودت سعيد

(?)

عادل التل

«تهدف هذه الدراسة إلى تحديد المعايير الثابتة وبيان المقاييس الدقيقة لحصر

وتمييز أصحاب الاتجاه المادي، من المفكرين الذين ينطلقون في اتجاههم هذا من

خلال العمل في حقل الدعوة الإسلامية، والذين يلجؤون إلى تفسير النصوص

الشرعية وفق النزعة المادية، كما تهدف ومن خلال رؤية معاصرة إلى إبراز منهج

أهل السنة والجماعة، وعرض طريقة السلف الصالح في مواجهة التحديات

الاعتقادية المعاصرة» .

رصدت في المقالة السابقة أفكار الكاتب جودت سعيد، من خلال نصوص

مختارة من كتبه ورسائله. وسيكون بحثنا هذا حول الحجج التي يعتمدها الكاتب -

والماديون من قبله - في تقديم المعرفة الصادرة عن المادة، وسنبحث في موضوع

السنن.

اتكأ الكاتب - في تقديمه المادة - على مفهوم مراتب الوجود السائدة عند

الفلاسفة والمشهور في الفلسفة، أن الصراع قائم فيها بين منهجين:

ا- المنهج العقلي (المثالي) الذي يقوم على الاعتقاد بأن الفكر هو السابق في

الوجود على المادة، ومن ثم يجب تقديم المعرفة الصادرة عن الفكر في كل شيء.

2- المنهج المادي (الوضعي) الذي يقوم على الاعتقاد بأن المادة هي أقدم من

الفكر في الوجود، ولذلك يجب تقديم المعرفة الصادرة عن المادة على كل شيء..

وهذه الأفكار التي يتبناها جودت سعيد، ويدعو إلى التمسك بها تشبه الأفكار

الماركسية، وإذا كان الموقف النقدي الشامل يدفعنا لأن نأخذ الجانب التاريخي لهذه

الآراء بالحسبان، فإننا نلمح - وبصورة جازمة - أن تلك الأفكار ترجع في

جذورها التاريخية إلى:

ا- منهج الفلاسفة وطريقتهم في الاستدلال.

2- منهج القدرية المعطلة - نفاة القدر - الذين وقفوا إلى جانب الفكر المادي

الأرسطي بعد انتقال العدوى في الصراع إلى علم الكلام في ديار الإسلام، وقالوا

بنفي الصفات - الذي قالت به المعتزلة والرافضة - وهؤلاء المعطلة يعتبرون

أسلافاً لأصحاب الفكر المادي المندسين بين المسلمين.

3- علم الاجتماع الغربي، القائم على المذهب الوضعي، والذي نشأ في

عصر النهضة الأوربية، وهؤلاء يعتبرون أرسطو وأصحابه أسلافاً لهم.

أولاً: تقديم المادة على العقل والنقل:

اهتم جودت سعيد بتعريف كل مرتبة من مراتب الوجود، وبيان خصائصها [*] ليجعل هذا الأسلوب في الاستدلال ذريعة لتقديم المادة على العقل والنقل، وبعد

أن استعرض هذه المراتب انتهى إلى القول [1] : (فالوجود الخارجي - المادي -

هو الثابت الذي كلما اختلفنا في تفسيره رجعنا إليه؛ ودققنا النظر والبحث والتعامل

معه لنصحح الصور الذهنية) . ومنه فإن كل شيء خارج الواقع - المادة - فهو

عنده قابل للزيادة والنقصان [2] ولا يجوز الاعتماد عليه، ويشمل هذا المفهوم

النصوص الشرعية (كتاباً وسنة) . ويقول في رسالة اللغة والواقع: (ولكن البدء في ...

الدراسة من كتاب الله دون أن يعترف للواقع، أنه هو الذي في النهاية سيشهد بمعنى

الكتاب وصدقه) [3] .

ثانياً: تقديم العقل على النقل:

يحرص جودت سعيد على تقديم المادة (الواقع) على العقل والنقل - كما رأينا

- إلا أنه يقدم العقل على النقل أيضاً، لأن هذا التقديم ينسجم مع مفهوم مراتب

الوجود الذي اعتمده في تقدم الصور الذهنية - العقلية - على اللفظ والكتابة، وقد

أكثر من النقل عن أبي حامد الغزالي، وتبني منهجه، وخاصة قول الغزالي في

المنطق اليوناني: (هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بعلوم

أصلاً) ..

ونلاحظ أن جودت سعيد قد حذف كلمة (المنطق) [4] من كلام الغزالي لإبعاد

الشبهة عن نفسه في متابعة الفلاسفة والمناطقة الإغريق، والاستمداد من أفكارهم،

والمعروف أن تقديم العقل على النقل يمثل منهج الأشاعرة والمعتزلة، ومن أجل

ذلك بدّل جودت تلك المصطلحات بألفاظ معاصرة، وتُمَثل هذه الفعلة عملية خداع

وتمويه خطيرة.

ثالثاً: مصدر المعرفة:

إن قضية مصدر المعرفة في الإسلام محسومة، وهي لا تتفق مع منهج طريقة

الفلاسفة ولم مع أسلوبهم، فأهل السنة والجماعة يقدِّمون القرآن الكريم والسنة

النبوية عند التنازع، ولا يقدمون ما يتوصل إليه عن طريق الحس ولا عن طريق

العقل. ولابن تيمية كلام مهم في بيان منهج أهل السنة في موضوع العلم حيث

يقول: (طرق العلم ثلاثة: الحس والعقل، والمركب منهما، كالخبر، فمن الأمور

ما لا يمكن عمله إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر

المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ويمتنع أن يقوم

دليل صحيح، على أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر ولهذا كان

أكمل الأمم علماً المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذًّب بطريق منها

فاته من العلوم بحسب ما كذب من تلك الطرق) [5] .

وكثيراً ما يحاول جودت سعيد أن يذكر ابن تيمية في موضوع مراتب الوجود، مما يوهم القارئ أن رأيه في هذه القضية يتطابق مع رأي ابن تيمية، ولكن

الحقيقة غير ذلك على الإطلاق، لأن ابن تيمية وأهل السنة جميعاً لا يقدمون على

الشرع شيئاً، فهم يعارضون المعتزلة وغيرهم في تقديم العقل على النقل وكذاك

يعارضون تقديم الحس على النصوص، ولا يبحثون المسألة مع الفلاسفة أصلاً،

ولا من خلال مراتب الوجود، كما أراد جودت سعيد أن يبعث هذا الأسلوب من

جديد. ولابن تيمية رأي واضح في هذا المقام ونحتاج أن نذكره لقطع طريق

التدليس والنقل المبتور الذي اعتاد جودت أن يستخدمه في مثل هذه المواضع،

يقول ابن تيمية: (وهو سبحانه عَلِمَ ما في الأذهان، وخلق ما في الأعيان وكلاهما

مجعول له، لكنّ الذي في الخارج جعله جعلاً خلقياً، والذي في الذهن جعله جعلاً

تعليمياً..) [6] .

ولابن تيمية كلام صريح في رد القضية التي يعتمدها جودت سعيد وغيره من

الفلاسفة والمتكلمين من خلال مراتب الوجود حيث يقول [7] : (والطريق المشهور ...

عند المتكلمين هو: الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام، وقد بينا

الكلام على هذه في غير موضع، وأنها مخالفة للشرع والعقل..) . والذي نصل

إليه من هذه المقارنة أن طريقة جودت سعيد في تحديد مصدر المعرفة تَتِّمُّ وفق

أسلوب الفلاسفة وعلماء الكلام وتخالف منهج أهل السنة والجماعة.

مفهوم السنن

بينا - في الحلقة السابقة- أن جودت يجعل السنن في مقابل النبوة حيث يقول: ... (من هنا بدأ الاهتمام بالوقائع والتفاهم مع الله بواسطة سننه، توقفت النبوة لأن

النبوة مرحلية وانتهت) [8] !

ما هي هذه السنن التي استبدلها بالنبوة؟

يقول الكاتب: (والناس لا يعرفون السنة إلا في الطبيعة، ولا يعترفون بها

في الأنفس، ويعتبرون عالم الأنفس خارج الثبات، أو خارج السنة وهذا مناقض

لمنهج القرآن، بل لمناهج المسلمين السابقين - ولقد جاء إلى العالم الإسلامي قصر

معنى العلم على الآفاق من المفهوم الغربي) [9] .

يفهم من خلال هذا النص أمراً محدداً: أن الكاتب يعتبر مجال السنن:

1- في المجتمع.

2- في الأنفس.

3- في الطبيعة.

والذي يبحث في القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة لا تظهر له

جميع هذه المجالات، التي ذكرها الكاتب. قال تعالى: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا

مِن قَبْلُ وكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً] [الأحزاب 38] ، أي حكم الله فيها. وقال

سبحانه أيضاً: [سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ]

[غافر: 85] .

وفي كل آية جاء فيها لفظ السنة، كان يدل على أحد جوانب الدين، ويكون

فيها دعوة للاتباع أو موعظة للاعتبار. وأما في مجال الطبيعة، وفي الدلالة على

أحداثها، كان القرآن يطلق على مثل هذه المواضيع لفظ (الآيات) مثل قوله تعالى: [وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ] [يس: 37] ، وإن ما فعله الكاتب من تعميم

مفهوم السنن ليخرج عن إطاره الشرعي، ويقوم بالغاء النبوة والتعامل مع السنن،

فإن هذا يعتبر خروجاً عن المنهج القرآني ومناقضاً له. وإدراك هذا الأمر من

الأهمية بمكان كبير، ولو كان الأمر سيبقى مجرد اصطلاح فحسب، ولا تقوم عليه

نتائج أخرى، لما نشأ عليه أي اعتراض. ولكننا نتعامل مع كاتب يؤمن بالمنهج

المادي ويعتقد بانتهاء النبوة، وانحسار أهميتها ومن هنا ندرك خطر الخلط في

موضوع المصطلحات، وأثرها في تعطيل الآيات في كتاب الله، وتحريفها عن

معانيها، واستبعاد العمل بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم - وإخضاعها

للسنن، فعندما يذكر مثالاً للتفريق بين الواقع والقرآن يقول: (القرآن يقول عن القلوب أنها التي تفقه، أي أن القلب هو عضو الفهم، ولكن الواقع، أي التعامل مع الواقع كشف أن القلب ما هو إلا مضخة، ولا علاقة له بالفهم، وإنما فقط هذه المضخة تشتغل بسرعة أو ببطء حسب الأوامر التي تصدر إليها، وليس هي التي تصدر الأوامر) [10] . وهكذا ندرك خطر هذا التوجه، وسوء هذا التصرف. ماذا ... حدث له حتى تجرأ على تكذيب القرآن بهذه الطريقة المزرية؟ إن القرآن لم يقل إن عضو الفهم هو العضلة التي تضخ الدم - كما يزعم - وإنما هذا افتراء من جودت سعيد، وتطاول على كتاب الله لا يتصور. إن الآية التي ألمح إليها هي قوله تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] [الحج 46] . إن ما صدر عنه في تفسير الآية يعتبر خروجاً على أصول التفسير وإغفالاً لمفهوم اللغة التي نزل بها القرآن، ولو أنه عاد - قبل أن يصدر تفسيره الجائر - إلى معاجم اللغة العربية لوجد أن معنى القلب فيها (خالص الشيء وشريفه) ، وقد جاء في لسان

العرب بأنه قد يعبر بالقلب عن العقل. وقد عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- في

بيانه بين القلب والفؤاد حين قال: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين

قلوباً» [11] . وإن كنا غير معنيين الآن في بحث مفهوم القلب والعقل إلا أنه من

الضروري كشف عملية التضليل التي يمارسها أصحاب الاتجاه المادي في كتاب الله، من جهة الفصل بين اللغة وآيات الكتاب، ومحاولة إيجاد التناقض بين الكتاب

والواقع وقد قال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا

كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ

عَذَابَ الحَرِيقِ] [الحج: 8-9] .

الوجود السنني

يربط الكاتب بين القدر وبين مراتب الوجود فيقول [12] : (وإن الوجود

الخارجي-المادي - الذي اعتبرناه أساس مراتب الوجود راجع إلى هذا الوجود

السنني -القانون-) ، أي أن القانون هو القدر.

وقد عبر الكاتب عن القدر - الوجود السنني - بأسلوب آخر حيث يقول:

(هذا الوجود السنني، هو نوع آخر من مراتب الوجود، وربما يكون مدخلاً لتصور

الروح، والله تعالى له الأمر والخلق، والروح من أمر الله، [قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ

رَبِّي] [الإسراء 85] ، وأمر الله وكلمة الله وسنة الله، ألفاظ متقاربة في مدلولها،

ولكن سنة الله توصف بأنها لا تتبدل ولا تتحول) [13] .

يفهم من هذا النص أن الكاتب يجعل السنن في مقام كلام الله وتعبيراً عن قدر

الله وأمره في الخلق، وكأن الله ليس له تدخل في الكون إلا من خلال السنن التي

قدرها قبل الخلق، وهذا يتفق مع مفهوم المذهب الوضعي الذي يجعل قوانين

الطبيعة وسننها المصدر الأساسي للمعرفة، وهذا ما تبناه الكاتب ودعا إليه من خلال

فكرة مراتب الوجود. وبما أن السنة قابلة للكشف والمعرفة، والروح من أمر الله،

فإن الروح سيكون قابلاً للمعرفة والتصور، وسيكون - حسب هذا المفهوم - كشف

حقيقة الروح قريباً بمتناول الذين وصلوا في مجال العلوم إلى مرحلة الانطلاق وهم

- كما يزعم الكاتب - محور موسكو - واشنطن، وهذا التصور يقود إلى انتهاء

مفهوم الغيب من الحياة.

وهذه مفارقة كبيرة، وانحراف عظيم في التصور الاعتقادي، أن نجمع بين

أمر الله وكلمة الله وسنة الله ليكون الجميع في متناول المعرفة البشرية - كما

يصورها الكاتب - في موضوع الوصول إلى معرفة الروح، فإن ذلك ينسجم مع

مفهوم المذهب الوضعي المعاصر، بإخضاع كل شيء للمنهج التجريبي كما ينسجم

أيضاً مع مفهوم القدرية، وذلك بالإشارة إلى استنباط آخر يقوم على هذا التصور،

وهو أن الله يتفاهم مع البشر بواسطة السنن - الأنبياء من البشر - وأن الله لا يتكلم

إلا من خلال السنن، وهذا هو التعطيل الذي كانت عليه القدرية، الذين ينفون

الصفات عن الله تعالى [14] .

ونستطيع أن نختزل رأيه من خلال معادلة رياضية..

كلام الله = قدر الله = الوجود السنني «المادي» = القانون

كلمة الله = أمر الله = سنة الله!

وبما أن سنة الله قابلة للكشف عنده، فلا غيب بعد ذلك..! !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015