في إشراقة آية
د. عبد الكريم بكار
قصّ الله - تعالى- علينا في كتابه العزيز نبأ لقاء موسى بالعبد الصالح
الخضر -عليهما السلام-، وما جرى بينهما من إخبار الخضر لموسى بعدم صبره
على ما سيراه من أعماله، وتعهد موسى بالسمع والطاعة وعدم العجلة حتى يكون
الخضر هو الذي يخبره بكنه ما يراه وعواقبه، كما تضمنت القصة عدم
تمكن موسى -عليه السلام- من الصبر الذي التزم بمكابدته. وفي ثنايا هذه الواقعة
عبر ودروس عديدة نجلوها في النقاط التالية:
1- أراد الله -تعالى- أن يُعلّم موسى وجوب تفويض ما لا يعلمه إليه؛ فقد
ورد في الصحيح أن رجلاً سأل موسى على ملأ من بني إسرائيل: هل تعلم أحداً
أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إليه: بل عبدنا خضر أعلم منك [1] . وفي هذا
إرشاد لأولي النهي أن يقفوا الموقف المنهجي مما لا يعرفونه؛ فنبي الله موسى كان
رسولاً من أولي العزم، وهو كليم الله ومبلغ رسالته، ومع هذا بين الله له وجوب
تفويض ما لا يعلمه إليه؛ فهو لم يجتمع بكل البشر، ولم يعرف مقادير ما خصَّ الله
به من شاء من عباده.
وفي هذا الزمان تشعبت العلوم، وتفرغت حتى صار من العسير على الواحد
منا أن يحيط بفرع من فروع المعرفة فضلاً أن يحيط بها جميعاً. وأمانة العلم
تقتضي التريث بالفتوى والتحرز من التطاول على ما لا نحسن حتى لا تجتاحنا
الفوضى العلمية..
2- في هذه الرحلة المباركة وقف موسى موقف المتعلم، ووقف الخضر في
موقف الأستاذ، مع أنه لا خلاف في أن موسى أفضل من الخضر، وهذا يدل على
أن الأفضلية العامة لا تقتضي التفوق في العلم، وهذا يحثنا على أن نرجع لأهل
الاختصاص في اختصاصاتهم، وألا نرهق أهل الفضل بالسؤال عما لا يعرفونه،
ولا يحسنونه فيسقطون من أعيننا لعدم معرفتهم، أو يسقطون ويُسقطوننا معهم إذا ما
هم قالوا بغير علم! ورحم الله الإمام مالكاً حين كان يقول: (إن من شيوخي من
أطلب منه الدعاء، ولا أقبل روايته) .
3- التزم موسى - عليه السلام - في البداية بالصبر على ما يراه وعدم
العصيان حين قال: [سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً]
[الكهف 69] . وهذا الالتزام كان بناء على ما يعرفه من نفسه من الحرص على طلب العلم ومعرفة الخير. وكان تأكيد الخضر له أنه لن يصبر معه على ما يراه لما يعرف عنه من الحرص والالتزام بما شرع الله من حرمة الأنفس والأموال، وكانت النتيجة إنكار موسى على الخضر، كما توقع الخضر. وموقف موسى كان على النهج العام الذي ينبغي على المسلم سلوكه، وهو إنكار ما خالف الشرع وعدم السكوت عليه ما دام ذلك ممكناً، ولا يعكر صفو هذا خصوصية الموقف
والحادثة [2] .
وقد أنكر موسى على الخضر مع علمه بقدره وعلمه لأن المنهج فوق
الأشخاص أياً كانوا. وقد ابتليت هذه الأمة في تاريخها المديد بأقوام أصيبوا بداء
تقديس الأشخاص وإقامة البراهين على خيرية ما يفعلونه وتسويغ ما يرتكبونه من
مناكر ومخالفات قطعية التحريم لما يعتقدونه فيهم من الصلاح! .
وأدى ذلك إلى غبش عظيم في الرؤية، وقد حطوا من قدر المنهج المعصوم
على قدر ما رفعوا من شأن من يعظمون! وما زال هذا مستمراً إلى يوم الناس هذا
والله المستعان.
4- كان الخضر موقناً بعدم صبر موسى على ما يراه منه، وعلل لذلك بقوله: [وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] [الكهف 68] . وهذا يشير إلى ظاهرة
ثابتة في حياة البشر، هي عدم الصبر على رؤية أحداث وأعمال تخالف ما استقر
عندهم من الأعراف والمعايير، أو على بذل جهود لا يرون لها نتائج تنسجم معها.
وقد وقف الصحابة - رضوان الله عليهم - موقفاً مشهوراً من شروط صلح الحديبية
التي كانت في ظاهرها مخالفة لمصالح المسلمين، ولولا أن الذي ارتضى تلك
الشروط النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بالوحي لكان هناك شأن آخر. لكن
الله - تعالى - جعل فيها من الخير والبركة ما حمل أكثر المفسرين على القول: إن
المراد بالفتح في قوله - سبحانه -: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح 1] صلح
الحديبية [3] . وسبب ذلك الموقف أن الصحابة ما كانوا قادرين على إبصار مآلات
تلك المعاهدة ونهاياتها.
واليوم نجد رغبة جامحة لدى كثير من الدعاة والعاملين في حرق المراحل
والقفز فوق الحواجز بدافع من الصدق والإخلاص، والسبب في ذلك أنهم ما أحاطوا
خُبْراً بجوانب العملية التغييرية الكبرى التي يتصدون للقيام بها. ونجد ذلك بشكل
واضح لدى الشباب الذين يغلي في دمائهم حب هذا الدين والغيرة على هذه الأمة.
وسبب الاستعجال عند الشباب يعود - في أكثر الأمر - إلى أن كثيراً من قادة
الدعوات يوهمون الشباب بأن التمكين في الأرض وبسط سلطان الدين هو قاب
قوسين أو أدنى، وذلك رغبة في كسبهم وإغرائهم بالعمل الدعوي، حتى إذا مرت
السنين تلو السنين أدرك أولئك الشباب أن الطريق أطول بكثير مما قيل لهم، فيؤدي
ذلك - عند أية هزة - إلى الإحباط والانزواء والسلبية أو إلى تسفيه القيادات
واتهامها بالقصور وتجاوز المرحلة لها ثم الاندفاع خلف قيادات شابة تفتقر في أكثر
الأوقات إلى الحكمة والخبرة والعلم والنتيجة معروفة!
وسبب ذلك أن الشيوخ ما بصَّروا الشباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه
ومشاقه، مع أن النصوص، الواردة في ذلك كثيرة جداً.
أما الجوانب التي لم نحط بها خُبْراً فهي عديدة، نذكر منها ما يلي:
أ- المنهج الرباني الذي نحمله، منهج مشتمل على أجزاء صلبة راسخة لا
يجوز أن تتطور أو يُغض الطرف عن شيء منها كي تؤدي وظائفها في الهداية
والإصلاح، وفيه أجزاء مرنة تقبل شيئاً من الموازنة لتحقيق خير الخيرين ودفع
شر الشرين؛ وكل أجزاء المنهج خير، ومطلوب التحقق بها؛ لكن الظرف هو
الذي يعطي الأولوية لبعضها على بعض؛ فأعمال الخير كثيرة جداَ لكن الحال
المعاش يرجح شيئاً على شيء، فإذا كانت في المسلمين مجاعة كان مجال إطعام
الطعام أولى بالبذل من مجال التنفل بالحج والعمرة، وإذا اجتاح العدو بلاد المسلمين
كان تجهيز المقاتلين أولى من بناء مسجد أو تأثيث مكتبة عامة وهكذا.. وإذا كان
المريض الذي نعالجه يشكو من أمراض عديدة وجب أن نبدأ بالأخطر منها كالنزيف
مثلاً.
ب - ومما لم نحط به خُبْراً على الوجه المطلوب الواقع الذي نتحرك فيه،
وهو واقع مفعم بالمؤثرات المختلفة حيث صار من غير الممكن معالجة أية قضية
من قضايانا الكبرى على أنها شأن محلي خاص، فوسائل الاتصال العجيبة المتاحة
وتشابك المصالح وتداخلها ونفوذ الثقافة العالمية، كل أولئك يجعل ما نظنه داخلياً
خاضعاً لاعتبارات دولية وإقليمية إلي جانب الاعتبارات المحلية. وفهم تلك
الاعتبارات ما عاد ممكناً عن طريق التأمل والشفافية، وإنما عن طريق الدراسات
المتقنة والصلات والعلاقات والمعايشات الداخلية.. وفهم طريقة التفكير لصانعي
الخيارات والقرارات.
ج - ومما لم نحط به خُبْراً الإنسان موضع الدعوة، وهذا الإنسان صار
يخضع لمزيج كبير من المؤثرات الثقافية المتضادة - في كثير من الأحيان - مما
يجعل تفكيره مختلفاً عن تفكيره في القرن الماضي، ومفاتيح اهتمامه أيضاً تبدلت،
والطريق إلى حفز مشاعره صارت أكثر التواء. ولم يصاحب ذلك التعقيد كله ما
يحتاجه من الفهم العميق القائم على معرفة النفس البشرية والسنن الإلهية التي
تحكمها. وآية ذلك جمود خطاب كثيرين منا دون أدنى تحسين أو تحوير.
د- ومما لم نحط به خُبْراً سنن الله - تعالى - في تغير المجتمعات، ذلك
التغير الذي لا يتوقف أبداً لكنه لا يخرج عن الأحكام والأنظمة الإلهية التي تسيره،
وهو تغير أساسه الحركة البطيئة التي إن تسارعت لم تصل أبداً إلى حد الطفرة
المناقضة للفطرة. وبما أن عمر الإنسان قصير فهو متشوق أبداً إلى معرفة نتائج
أعماله ومجهوداته قبل أن يرحل عن هذه الدنيا لكن سنن الله - تعالى - لا تخضع
للرغبات والأهواء، ومن ثم فإن الله - تعالى - قال لنبيه: [وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الَذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ] [الرعد 40]
وإذا كان الوقوف على مفاتيح شخصية الفرد صار معقداً، فإن الوقوف على
مفاتيح شخصية المجتمع أكثر تعقيداً؛ لأن أبناءه ينتمون إلى شرائح متعددة وكل
شريحة منها تخضع لمؤثرات مغايرة، وهذا يجعل التعامل معه غاية في التعقيد!
إن الحل الوحيد لحالات الاستعجال على قصف الثمار قبل نضجها هو
الإحاطة المبصرة بكل جوانب التغيير المنشود وآلياته، وإلا فإن كثيرا من الجهود
ستكون جهاداً في غير عدو، بل ستكون أخطر على الدعوة من أعدائها!
إن فقه التحرك بالمنهج أشق من فقه المنهج نفسه؛ لأنه يقوم على ركائز
عائمة، وتراكم الخبرة فيه ضعيف لتنوع أحواله وكثرة خصوصياته. ولله الأمر من
قبل ومن بعد.