محمد العبدة
لابد أن تكون الدعوة في بدايتها قوية مندفعة، تُبذل في سبيلها طاقات تحتمل
أكثر مما كانت تحتمل، وترتفع فيها درجة الإيمان والسمو الأخلاقي حتى يستطيع
الفرد تحقيق ما يعجز عنه أمثاله، بل عشرات أمثاله من الآخرين. هذا هو الذي
يعجل بالانطلاقة، حتى تدور رحى الإسلام كما دارت أول مرة، وكما سطع نوره
في كل فترات التجديد.
وفي مثل هذه الأجواء يتغلب المثل الأعلى على كل جواذب الأرض، ويعيش
المؤسسون الأوائل ومن يلتفّ حولهم ظروف التفاني والإخلاص، وتكون علاقاتهم
الاجتماعية في ذروة التآخي والتلاحم، هكذا نحجت الدعوة الإسلامية الأولى وهكذا
ارتفع المهاجرون والأنصار فوق العصبية القبلية والإقليمية والقومية، كما ارتفعوا
فوق الأنانيات الشخصية، ولم يحْتَجْ المسلمون - وهم مضطهدون في مكة ولا حتى
عندما قامت لهم دولة في المدينة - إلى قضاة أو محاكم لفض خصوماتهم، وأقصى
ما يفعلونه أن يشتكي أحدهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسبب كلمة أو
هفوة قِيلت في حقه، أو يعترف هو للرسول -صلى الله عليه وسلم- بذنبه ليقيم
عليه الحد كما في قصة ماعز والغامدية، وذلك لأن الوازع كان من داخل أنفسهم،
وكان ميزان الشرع هو الميزان الوحيد الذي يتعاملون به، وعاش العالم الإسلامي
دهراً بتأثير تلك الاندفاعة العظيمة.
يطلب المسلمون اليوم نجاحاً للدعوة، ولكنهم يمارسون أعمالاً ويسلكون سلوكاً
أدنى بكثير مما يُطلب للإحياء والتجديد، ويذكرون الخلافة الراشدة في أحاديثهم
وكتبهم، ولكن تصرفاتهم ليست قريبة من تلك الصورة الوضَّاءة.
كانت الرعية تقدم الطاعة لأبي بكر عن رضا وطواعية ودين، وليس عن
رهبة أو رغبة، لا طمعاً في مال أو منصب، ولا لأنه من قبيلة معينة، وكان
الخلفاء الراشدون يعاملون الرعية بمثل ذلك فلا يقربون أحداً لأنه صاحب مال، أو
لأنه ضعيف الشخصية لا يعارضهم في شيء، أو بسبب قرابة قريبة، كل ذلك كان
غير وارد في أذهانهم، فهل يتعامل المسلمون اليوم بهذا السلوك؟ الواقع يدل على
أنهم يتعاملون بالطرق التي أحدثت بعد الراشدين فقد يقرَّب صاحب المال، ويكون
له الأمر والنهي وإن لم يكن في العير ولا في النفير، وقد يقرب صاحب الشخصية
الضعيفة حتى لا يعارض ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وأما الذي ينصح ولا
يداهن ويتكلم عن الأخطاء - ولو كان ضمن الضوابط الشرعية - فهو شخص غير
مرغوب فيه غالباً.
فهل نستطيع بهذه العقلية، وهذه الأخلاق أن ننهض ويكون لنا شأن؟ !