محمد بن حامد الأحمري
يتعامل غالب المسلمين مع سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومع التاريخ
الإسلامي تعاملاً عاطفياً بحتاً لا يتجاوز دور الإعجاب والتذكر والاندماج في أخباره
وأمجاده، واستعادة هذه الصورة التاريخية يوماً بعد الآخر دون الاستفادة منها
كمدرسة متنوعة المراحل والأدوار والموضوعات والمواقف، وما فيها من مواقف
إقدام واجتياح، تدعو للوقوف والتأمل والبحث عن مخرج عندما تُغلق بعض أبواب
الدعوة. في مثل هذه الحال تسكت أصوات الحادين المشجعين مستجيبة لصوت
هداة القافلة القائلين: أمامكم منعطف تحتاجون فيه إلى احتراز وتعقل حتى تتجاوزوه
سالمين بإذن الله. وهذا هو المنعطف الذي تتجاوزه القافلة بحذر ثم يستمر السير
أحسن مما كان.
فاستجابة المسلمين للقتال والبيعة على الموت في (بيعة الرضوان) لا ...
تتناقض مع القبول بالصلح في (صلح الحديبية) الذي تلا البيعة مباشرة. وحُق ...
لبعض المتأخرين استشكال الموقف إذا لم يتدبروا مآل الأمر. ومع أن الصلح حقق
فائدة عظيمة للمسلمين فيما بعد فقد صعب الموقف على بعض أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وقد قال بعضهم كيف نعطي الدنية في ديننا، (وعظم ذلك
على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلاماً وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجاً فقال لأصحابه: اصبروا فإن الله
يجعل هذا الصلح سبباً إلى ظهور دينه فأنس الناس إلى قوله بعد نفار منهم) [1] .
وسواء أصعب على الصحابة في ذلك الوقت الرجوع إلى الصلح بعد البيعة
على الموت أو صعبت عليهم شروط المصالحة، التي رآها بعضهم مجحفة
بالمسلمين كما رأوا في اعتراضات سهيل بن عمرو على الرسول -صلى الله عليه
وسلم- عنجهية تستحق القمع، ولكن النظر في المصلحة الأولى خير من الوقوف
عند اعتراضات سهيل، أو مشهد إعادة أبي جندل يرسف في قيده إلى قريش. ثم
قبلوا الصلح على مضض، وحلوا (ونحروا بعد توقف كان منهم أغضب رسول ...
الله - صلى الله عليه وسلم -) [2] ، وذلك دليل على أن الخلاف في موقف كهذا الموقف وقع مع الرعيل الأول ودوافعه الإخلاص للدين واتحاد الوجهة، فلهم أن يروا رأيهم، وأن يفكروا ويشاركوا قيادتهم فيه وتختلف الآراء ولكن القرار الذي اتخذ بعد أن أنس المسلمون إليه كان واحداً ونهائياً [3] . فقد كان الإسلام بحاجة إلى الرسوخ في الجزيرة وفي المدينة وما حولها وقريش التي لم تكن تعترف بالمسلمين الذين تسميهم (الصباة) أصبحت تفاوضهم وتعترف بهم نداً قوياً وتسلم الحرم عدة أيام في السنة القادمة، وتعترف لهذا الكيان بقيادته وأحلافه ومناسكه. ويأمن المسلمون فيه شر قريش ويتجهون إلى ساحات أفسح للدعوة والقتال وترسيخ مواقعهم.
إن ما يحتاجه المسلمون اليوم هو البصيرة من سيرة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في هدنته كما يستفيدون من حربه، فتفويت فرص العدو وعدم تمكينه
من المسلمين حاجة إسلامية ملحة وهذا موقف قد لا يروق للسان الخطيب ولحاشد
الجماهير، ويرى الخطيب في هذه الحالة أنه يفقد المتعاطفين والمتحمسين بل يفقد
الجماهير. مع أن الجماهير والشهرة يجب أن تُصبا في مصلحة الإسلام والمسلمين
وألا تكونا غاية في ذاتها. وإذا حدث ذلك - لا قدر الله - فهو انحراف عن الغاية
وفساد في النية لا أظنه موجوداً - إن شاء الله - بحجم يذكر. وخطورة هذا الأمر
عند بعض الخطباء أن يصل بهم الأمر إلى تلقي مواقفهم من الجماهير الحاشدة التي
يعجبها النغم وتستسلم للصوت المثير وإذا هدأ الصوت أثارته مرة أخرى بحثاً عن
متعة الاستماع والجدة والإثارة فقط، وليس بحثاً عن إيصال هذا الكلام المسموع
المثير إلى حيز الفعل أبداً. فللجماهير شهوات يطلبون تحقيقها من الخطيب
يستغربها في البداية ثم يسير فيها مرغماً فيما بعد، فيفقد عقله ورأيه، ويصبح لساناً
لما يسمى بالعقل الجمعي.
ومن المعروف في علم الاجتماع أن للمجموع عقلاً يختلف عن عقل الفرد،
وأن العقل الفردي في حالة الاندفاع الجماهيري يبلغ أقل مستوياته ويضعف جداً
مستجيباً للعقل الكبير البديل (عقل الجماهير) ، ورغباتها التي تريد تحقيقها ولو
بطريق غير معقول.
ويضرب الاجتماعيون والسياسيون لهذا مثلاً بما يحدث في المظاهرات، فبعد
أن يجتمع عشرات الآلاف في مسيرة وتزيد حماستهم لاجتماعهم وكثرتهم وأهمية ما
يمكن أن يقوموا به تجد عقلاءهم وخيرة رجال المجتمع يرمون الأحجار على النوافذ، ويكسرون السيارات، ويدمرون كل ما يواجهونه في الطريق. ولو رأيته قبل
المظاهرة أو جلست معه بعد لحظة وعي وتعقل لقال لك ذلك موقف الجماهير،
وربما وصف نفسه بالجنون، فللعقل الجمعي خطورته وضرره. مع أنه ينبض
بحاجات الأمة الصادقة وما يختلج في كيانها، فهي تعبر عن حاجات حقيقية
صحيحة معقولة، بأساليب ومواقف قد تكون أحياناً غير معقولة. هنا يأتي دور
العقلاء في التحكم بعقول الجماهير وليس الانسياق وراءها، فلا يحتمل اللوم سوى
العقلاء في حال الخطأ أو التقصير. لذا فالخطيب - وليس القائد - هو الذي يسلم
لسانه للجماهير تقول عليه وباسمه ما تريد حتى وإن لم يكن صحيحاً ولا معقولاً،
وتجره كل يوم في وادٍ أو موقف لم يحسب حسابه ولم يكن معروفاً لديه.
ومتابعة رغبات الجماهير في اتخاذ المواقف ظاهرة سلبية تقودنا إلى مواقع
مجهولة لنا، ومواقف لم نحسب حسابها عملياً، بل لم تعطنا الجماهير الفرصة
للتفكير فيها وما نحن فيه وحقيقة موقعنا وقدرتنا على القرار، فالخطباء مأسورون
بحماسة جماهيرهم، والجماهير مأخوذة بما تسمع، ومسحورة بآذانها، والعقول في
كثير من الأحيان في إجازة وخارج دائرة العمل، وعندما يسمح لها بالعمل فإنها
تستهلك في تبرير الأعمال العاطفية السابقة. ليس هذا تجريحاً ولا تقليلاً من الرأي
الجماهيري، ولكن وعي السلوك العام ودوافعه وأساليب صياغته للاستفادة منه
وتجنب آثاره العكسية على العمل الإسلامي مطلب ملح.
ومن مخاطر العمل الجماهيري أن المتحدث أو الخطيب يشق عليه المزج ما
بين عملين رائدين في غاية الخطورة والتأثير، أولهما: رجل العقيدة، وثانيهما:
رجل السياسة. فالعقيدة وعلمها وصفاؤها ومباشرتها ووضوحها والتزامها لها
مطالبها. والسياسة وغموضها وثعلبيتها وعلمها وفنها ومزالقها لها مطالبها هي
الأخرى، والجمع بينهما عند الأولين والمتأخرين نادر جداً.
لا يليق بنا الاستسلام للجماهير، ولا الاستسلام للتاريخ كي يملي علينا مشاهده
الرائعة التي لا نملك الحركة بها. فحاجتنا تملي علينا أن نتعامل مع العلم الشرعي،
والثقافة التاريخية من حال واقعنا فلا نستسلم لأمجاد وأخبار هارون الرشيد ونفكر
بعقلية (اذهبي أنَّى شئتِ فسيأتيني خراجك) ونخطب في جماهير منكودة الحاضر، ...
مجروحة الكرامة، مستغرقة في الآمال والأحلام والتاريخ، ويزيد إخلاص السامعين
وصدق نياتهم من حماستنا فننسى أين نحن وعلى أي المنابر، فنهدد برسالة هارون
الرشيد إلى نقفور؛ ونقول: (من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم) ، الجواب ما ترى لا ما تسمع. فيخرج نقفور من وسط الجماهير ويقبض على خطيبنا ويودعه السجن، والجواب ما ترى لا ما تذكر.
وترجع الجماهير إلى بيوتها تضرب يداً على الأخرى ما بين حزين صادق
كثرت عليه الأحزان - منذ اقتطاع بلاد المسلمين في فلسطين والصومال والبوسنة
وكشمير حتى اختطاف شيخه وأمله القريب. وكان يملك أن يسمع (إنا لله وإنا إليه ...
راجعون) ، كان يسمع شيخه يعزيه ويؤمله، واليوم لا يملك إلا أن يهمس بنفس الكلمات وأقل منها لزوجه - وآخرون كانوا يحضرون الخطبة بحماسة شديدة، وكأنها عندهم مسرحية حية بدأت بهارون وانتهت بنقفور، وعندما يعودون إلى مساكنهم يقولون: لقد غلط الشيخ وأخطأ، فنحن في عصر السرعة، ونقفور أصبح بإمكانه أن يصل، وأن يقبض على هارون، بل أن يسجنه ويقتله قبل أن يرسل هارون جنوده، نسي الجميع أن هارون قد رُمَّ من قرون. وهذا داء أمتنا من قديم نخبط كل يوم في بلاد، ويأخذ بعضنا كلام الآخر، يعيد تمثيله وإخراجه للناس دون أن ندرك أخطاء إخواننا الصادقين في كل مكان، ودون أن نحاول أن نتجنب ما حدث لهم، فعدوُّنا واحد: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى] [البقرة: 120] ، وقد رمونا عن قوس واحدة، فليس يليق بنا تكرار المشاهد وهم يكررون نفس الأسلوب، ابحثوا عن طريق ورسخوا الحق، وابنوا وحداته الجزئية المثمرة المعروف أثرها، وعلَّموا الجماهير ما تحتاج، ولا تهيجوها لما لا تعلمون جميعاً، وتجنبوا خطب إلقاء (إسرائيل) في البحر، ولو لسنوات معدودات، تكفون فيها أيديكم وتستعدون ليوم تفعلون فيه شيئاً. وعندما يرتاب السامعون - لضعف الإثارة وقلة الحشد وخفوت صوت الحماسة - فذلك ما لا يلزم جوابهم عليه خاصة إن كانوا ممن لا تحتمل عقولهم الجواب، ولك في قول الشاطبي اقتداء، حيث قال: (وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع، وقد لا يجوز جواب السائل، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب، أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط وفيه نوع اعتراض) [4] .
والأمور بمآلاتها، وليست مما يسهل على الكثير وعيها، وتقوى الله فيهم
واجبة، والنصح لهم واجب، وكلٌّ يُعطى من العلم حسب طاقته. ولا يذكر للمبتدئ
من العلم ما هو حظ المنتهي بل يربَّى بصغار العلم قبل كباره [5] .
ومن تقوى الله في الأمة أن يدبر لها عقلاؤها المخرج بعيداً عن ضجة
مكبرات الصوت والتهاب حماسة الجماهير؛ فارتجال المواقف مراعاة لمشاعر
الجماهير وحماستهم لا تقل خطأ عن المسارعة في رضى الظالمين (ومسح الجوخ
لهم) ، وإن كان الأول أعز وأكرم أمته بموقفه وحماسته، والآخر حطها بالتذلل
والمسارعة لإرضاء الظالمين، ولكن قد يكون مآل الأمرين واحداً، وهو تمكين
عدونا منا تعجلاً للثمرة، أو تطويعنا له نفاقاً أو هلعاً من مواقف الرجولة وهروباً
من شبح المحنة.