مسالك أهل البدع
في النظر والاستدلال [*]
بهاء الدين عقيل
مما لا شك فيه أن الحاجة ماسة في زماننا هذا - وفي كل زمان - لمعرفة
صفات أهل السنة والجماعة ومنهجهم في الحياة، فهذه مسألة مهمة وملحة من أجل
إنهاء حالة التشتت والحيرة التي يعيشها المسلمون اليوم. وقد ظهرت في الآونة
الأخيرة كتابات طيبة بهذا الصدد؛ ويعد من متعلقات ذلك أيضاً البحث في طرق
ومسالك أهل البدع في النظر والاستدلال، وتوقيها حتى تسلم لنا الاستقامة على
طريق أهل السنة والجماعة؛ فإنما بضدها تتميز الأشياء..
الأصل العام لجميع طرق الاستدلال عندهم:
الأصل في جميع طرق استدلال أهل البدع أنهم لا يأخذون الأدلة مأخذ الافتقار
إليها بل يقدمون أهواءهم، ويعتمدون على آرائهم، ثم يجعلون الأدلة الشرعية تبعاً
لذلك الهوى. ومن يفعل ذلك فهو أحد رجلين:
- إما مغرض ويعلم أنه صاحب هوى متمكن من قلبه، فيستدل بما يراه
موافقاً لهواه، ويلوي الأدلة ليّاً لتوافقه.
- أو هو غير راسخ في العلم، لا يعرف كلام العرب ودلالته، ولا مقاصد
الشريعة وكلياتها وأصولها، فيقرأ أو يسمع نصاً من الكتاب أو السنة فيفهمه بنفسه
فهماً يوافق هوى لديه وهو لا يدري ويظن أنه بذلك متبع للكتاب والسنة.
أما العلماء الراسخون في العلم، المخلصون لله في علمهم وعملهم فلا يقع منهم
ذلك أبداً، بل هم يأخذون الأدلة مأخذ أهلها العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة
ومقاصدها كما كان السلف يأخذونها.
فالهوى هو الدافع والموجه الأول والرئيس لطريقة أهل البدع في النظر
والاستدلال ولذلك سموا بأهل الأهواء، ويتفرع عن هذا الأصل العام مسالك وطرق
شتى، ولا يلزم أن توجد كلها عند كل مبتدع بل قد يوجد بعضها دون بعض،
ونسوق الآن من هذه الطرق أوجهاً كلية يقاس عليها غيرها.
المسلك الأول:
الاعتماد على الأحاديث الواهية الضعيفة، أو المكذوب فيها على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، والتي لا يقبلها العلماء المتخصصون في علم الحديث،
كحديث الاكتحال يوم عاشوراء، وأكل الباذنجان بنية، وأن النبي -صلى الله عليه
وسلم- تواجد واهتز عند السماع [1] حتى سقط الرداء عن منكبيه، وما أشبه ذلك.
وأكثر ما يكون ذلك عند المتصوفة ومن شاكلهم من الفقراء في العلم والنظر.
المسلك الثاني:
رد بعض المبتدعة للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم،
ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها؛
كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله -عز وجل- في الآخرة، وكذلك حديث الذباب إذا سقط في الإناء، وما شابه ذلك مما صحت فيه الأخبار
وثبتت ثبوتاً لا يتطرق إليه شك أو نقد.
وتلك طريقة أهل التحسين والتقبيح العقلي- الذين يقولون: (الحسن ما حسنه
العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والشرع تابع لذلك) - كالمعتزلة ومن شاكلهم،
ومن يسمون في عصرنا الحالي بالعقلانيين.
ولهم مسلك معروف في النصوص المخالفة لمذاهبهم، أما بالنسبة للحديث فكما
ذكرنا يردونه بكل جرأة ويتعللون لذلك إما بالقدح في رواته - وإن كانوا من
الصحابة أو التابعين وممن اتفق الأئمة على عدالتهم - وإما بقولهم إن الحديث آحاد
وهو يفيد الظن ولا يصلح الظن في أمور العقائد؛ وتلك مقولة باطلة ومبتدعة وقد
ألفت رسائل في الرد على ذلك الزعم [2] ، أو يردون الحديث بأي علة واهية
أخرى.
وأما بالنسبة للآيات القرآنية فلما لم يستطيعوا ردها عمدوا إلى تحريف
مدلولاتها وسموا ذلك تأويلاً، فالخلاصة أنهم إذا خالفوا الحديث ردوه وإذا خالفهم
القرآن حرفوه وأولوه على غير تأويله المعتبر.
وتكمن خطورة مذهب المعتزلة في أنه وإن زالت فرقته الآن - فلا يكاد يوجد
من يصرح في عصرنا بأنه معتزلي المذهب - إلا أن أسس مذهبهم وأفكارهم قد
انتشرت بين آراء كثير من الأدباء والكتاب المعاصرين، وتراهم يصفون المعتزلة
بأنهم أصحاب المدرسة العقلية المستنيرة التي أثرت الفكر الإسلامي، والصواب
وصفهم بأصحاب العقول المظلمة، الذين أفسدوا اعتقاد المسلمين ردحاً من الزمن،
وجروا الويلات على الأمة الإسلامية. بل إن من أفكارهم المظلمة ما تسرب إلى
اذهان بعض العلماء وأثر عليهم؛ وذلك كأخذ بعض العلماء ببدعة رد أحاديث الآحاد
في أمور الاعتقاد، وهذا منتشر بينهم في عصرنا الحالي وكأنه أمر مسلم.
المسلك الثالث:
فهم الآية أو الحديث بالهوى والتخرص. وعدم الرجوع للمعنى العربي للفهم
الذي يفهم به عن الله ورسوله؛ وذلك كمن قال في قوله تعالى: [ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ والإنسِ] [الأعراف 179] أي ألقينا فيها؛ وكأنها من قول العرب
(ذرته الريح) ، وهذا خطأ لأن ذرأ مهموز وذرَّ غير مهموز [3] . وكقول من قال: إن الإمام في قوله تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ] جمع أم، وأن الناس
يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف فإن [أم] لا تجمع على [إمام] [4] بل جمعها [أمهات] .
ومثل هذه الجهالات كثير، وهي كلها استدلالات لا يعبأ بها، وتسقط مكالمة
أهلها، ولا يعد خلاف أمثالهم. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم) أي فضعوه على ...
مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقة المستقيم إلى اتباع
الهوى. وقيل للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك. وعنه أيضاً قال: أهلكتكم العجمة تتأولون القرآن على غير تأويله.
المسلك الرابع:
الانحراف عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات كما قال تعالى: [فَأَمَّا
الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ] [آل عمران 7] ،
فمثال ذلك احتجاج النصارى على ألوهية عيسى - عليه السلام - وأنه ولد الله بقوله
تعالى: [ورُوحٌ مِّنْهُ] [النساء 171] وقوله تعالى عن نفسه في آيات كثيرة
بضمائر الجمع: (إنا) ، (نحن) ؛ وهذا يقتضي التعدد في زعمهم، وقوله تعالى:
[ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا] [التحريم 12] ، ...
ولم يردوا ذلك إلى صريح قوله تعالى: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ
ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] [الإخلاص] ، وإلى قوله المحكم: [يَا أَهْلَ
الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ ولَدٌ] [النساء 171] ، بل
أخذوا من هذه الآية فقط قوله [ورُوحٌ مِّنْهُ] وتعلقوا بها مع أن بقية الآية فيها الرد
على زعمهم وكفى بذلك دليلاً على اتباع الهوى في الاستدلال.
ومثل احتجاج المعتزلة لخلق القرآن بقوله تعالى: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ]
[الزمر 62] ، والمراد خالق كل شيء مخلوق وإلا فقد أجيب عليهم بقوله تعالى:
[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ] [الأنعام 119] فهل يقولون أن الله مخلوق؟ ...
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والواجب في ذلك كله وما ماثله من المتشابه
أن يرد إلى المحكم ليعرف من معناه، وهذا ما عليه العلماء والراسخون في العلم
الناهجون نهج أهل السنة والجماعة.
المسلك الخامس:
وقريب من المسلك السابق الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها،
والعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ أو العكس، وكذلك الأخذ
ببعض النصوص دون بعض في المسألة الواحدة والتعلق بها؛ كما مثل الشاطبي -
رحمه الله - لذلك بالآتي:
- يحتج الخوارج لقولهم بالخروج على الإمام بحديثهم (ولا تزال طائفة من
أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل) [5] .
- ويحتج القاعد - أي من لا يرى الخروج على الإمام - بقوله -صلى الله
عليه وسلم-: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) [6] .
- والمرجئ يحتج بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من عبد قال لا إله إلا ...
الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) قلت والقائل هو أبو ذر - رضي الله
عنه -: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق [7] .
- والمخالف له محتج بقوله -صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين ...
يزني وهو مؤمن) [8] . وهذه النصوص وإن كان ظاهرها يوهم التعارض ... فإنه يمكن الجمع بينها إذا جعل بعضها أصلاً ورد البعض الآخر إليه بالتأويل السائغ، ولكن كل صاحب بدعة وضلالة يدعي أن دليله هو الأصل، ويرد ما عداه إليه.
والواجب هو جمع الأدلة كلها في المسألة الواحدة وتحقيق ما كان عليه الصحابة
وأئمة خير القرون إزاءها، والخروج بحكم واحد فيها. والذي ينبغي التنبيه عليه
هنا أنه وإن كان هذا المسلك المنحرف من مسالك أهل البدع في النظر والاستدلال،
إلا أنه يقع فيه كثير من المسلمين الناشدين للحق؛ فترى أحدهم يسمع نصاً أو يقرأه
فيدفعه حرصه على الالتزام وخشيته من مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله إلى
المبادرة بتنفيذ ما فهمه منه، حتى وإن بدا مخالفاً لفعل مشاهير الصحابة وأجلائهم؛
وبعيداً عن المعقول، ويظن أنه بذلك يتبع الحق ويخالف هواه ويقهره وأنه بذلك
ممتثل لقول الله تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب 36] . وإنما كان خطؤه أنه عمل بنص
واحد دون الرجوع للعلماء لسؤالهم عنه وعما إذا كان هناك نصوص أخرى في
المسألة، وما هو القول الراجح فيها، وقد يشتد حماسه لفهمه السقيم فينصب نفسه
مفتياً به وداعياً إليه، ويتبعه على ذلك قوم من أمثاله، وصدق رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- إذ يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن
يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [9] . ولعمر الله كم جر هذا المسلك على المسلمين ...
من فتن ومشاكل بينهم في عصرنا الحالي.
والواجب على الباحث المسلم إذا بحث مسألة أن يجمع كل النصوص الواردة
وأقوال العلماء فيها ليخرج بمعنى كلي وفهم هو أقرب إلى الصواب حسب ما أداه
إليه اجتهاده، إن كان من أهل الاجتهاد، فيخرج بذلك من دائرة الإثم، قال
الشاطبي -رحمه الله-: (ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ...
وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض؛ فإن مأخذ الأدلة
عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما
ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها) [10] .
المسلك السادس:
صرف الدليل عن المناط الذي ورد عليه إلى مناط آخر موهماً أن المناطين
واحد. قال الشاطبي: (وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله،
ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه
صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق، مع هوى يعميه عن أخذ
الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) [11] .
ومثال ذلك أن الأدلة وردت بالحث على الذكر مطلقاً قال تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً] [الأحزاب 41] ، وقال: [وابْتَغُوا مِن فَضْلِ
اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [الجمعة 10] ، فيستدل المبتدع بهذه
النصوص على ما يبتدعه من أذكار مخصوصة بكيفيات مخصوصة، وفي أزمنة
مخصوصة، مع أن النص ورد مطلقاً وأفاد مطلق الحث على الذكر. والتقييد من
جهة المبتدع يخالف ذلك الإطلاق، والتزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنه أن يفهم
التشريع، ومثل هذه الأدلة والنصوص ينبغي أن تفهم من جهتين: جهة معناها الذي
يفيد مطلق الحث على الذكر غير المقيد بهيئة مخصوصة، وجهة عمل السلف
الصالح بها. وكل من خالف في ذلك فقد خالف إطلاق الدليل أولاً لأنه قيد فيه
بالرأي وخالف ثانياً من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح -رضي الله
عنهم-.
المسلك السابع:
بناء الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل: وهو فعل الباطنيين كالقرامطة
وغيرهم. وفرق الباطنية يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة،
والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة ولا الشرع بل ولا العقل،
والقول بإمام معصوم، وقد يسمونه باسم آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهاً. ومن فرقهم
المحدثة البهائية والبابية.
وهؤلاء الباطنية هم قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، وإلقاء ذلك
فيما بين الناس لينحل الدين، ولما لم يمكنهم التصريح بذلك لجأوا إلى صرف الهمم
عن الظواهر بادعاء أن لها بواطن مقصودة، وأن الظواهر غير مرادة فقالوا: كل
ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر، والنشر، والأمور الإلهية
الأخرى ليس إلا أمثلة ورموز إلى بواطن.
ولهم في ذلك تُرَّهات وعجائب منها مثلاً: زعمهم أن الجنابة هي مبادرة
الداعي للمستجيب بافشاء سره إليه قبل أن ينال رتبه الاستحقاق، والغسل هو تجديد
العهد على من فعل ذلك، والصيام هو الإمساك عن كشف السر، والتيمم الأخذ من
المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام.. الخ. ولا تستخفنك تفاهة مذهبهم
فتقول هذا مذهب ظاهر البطلان فلا يخشى على أحد من الوقوع فيه، فإنه يكثر جداً
وسط الأعاجم الذين لا يحسنون اللغة ولا يعلمون فقهها ومدلولاتها، وكذلك هي
دعوة رائجة لدى السوقة والسفلة من الناس حيث تمنحهم الإباحية باسم الدين إذ هي
دعوة قائمة على التحلل والإباحية، ثم إن هؤلاء السفلة قد يكثرون وتقوى شوكتهم
فيغلبون الناس على آرائهم ومذهبهم ويعيثوا في الأرض فساداً.
المسلك الثامن:
التغالي في تعظيم الشيوخ والاحتجاج بهم: وغاية حجة من يفعل ذلك أن يقول
شيخنا الفلاني يقول كذا وكذا، ويفعل كذا وكذا، وهو ولي من أولياء الله المقربين
فلا بد أن الحق معه. وأكثر ما يوجد ذلك عند المتصوفة وأمثالهم ممن لا باع لهم
في العلم الشرعي.
والجواب على ذلك من وجهين:
أحدهما: بيان أن الحجة في الشرع، لا في الأشخاص غير المعصومين مهما
بلغت درجتهم.
والثاني: أن يقال له: وما أدراك أن فلاناً المذكور هو من أولياء الله،
فالولاية أمر بين العبد وربه، بل كل مؤمن يؤدي الفرائض ويجتنب النواهي هو
من أولياء الله الصالحين بحسب الظاهر لنا، ولا يسوغ ذلك اتباعه في أمر من
الدين دون معرفة دليله.
المسالك التاسع:
الاستدلال بالرؤى والمنامات: وهو مسلك خطير يستخدمه الشيطان للتلبيس
على الناس في دينهم وإيهامهم بشرعية بعض الأمور التي لا يوجد دليل شرعي على
صحتها. والذي ينبغي معرفته في هذا الباب، أن (الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم ...
بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن
سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو
النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا) [12] ، (فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن ...
فلاناً سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله. أو اعمل بما يقولون لك، أو فلان زنى فحده،
وما اشبه ذلك؛ لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملاً
بغير شريعة، إذ ليس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحي) [13] .
وقد يحتج المسلم بالمنامات بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (رؤيا المؤمن -
جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) [14] وقد أجاب الشاطبي عن ذلك بقوله:
(إن كانت الرؤية من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة [يعني أن البشارة والنذارة من مقاصد النبوة
ومن أجزائها كما في قوله تعالى:] أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ إنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ [
] هود 2 [. وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون
صالحة من الرجل الصالح كما في الرواية الأخرى للحديث السابق: (الرؤيا الحسنة
من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ] 15 [وحصول
الشروط مما ينظر فيه فقد تتوفر وقد لا تتوفر. وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم وهو
من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى
تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة؟ ويلزم أيضاً على ذلك أن
يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو منهي عنه بالإجماع) ] 16 [.
وخلاصة القول في الرؤيا أنه يستفاد منها في جانب البشارة والنذارة، ولا
يؤخذ منها حكم إلا بعد عرضها على الشرع فلينتبه إلى ذلك، فهذا هو الاعتدال في
الأخذ بالرؤيا والعمل بها. وفي الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف
المنة فقير الحجة.
وبعد فكما سبق أن بينا لم نقصد في هذا الموضوع إلى الاستيعاب وإنما هي
أوجه كلية لطرق أهل البدع في الاستدلال يقاس عليها غيرها، وندعو إخواننا المسلمين إلى الحذر دائماً من أصحاب البدع ومسالكهم في المحاجة والاستدلال،
وقانا الله وإياهم شر البدع وأهلها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.