شاعرٌ جدير بأن يُعرف
محمود مفلح
أحن إلى تلك العصافير في الضحى ... لها بين أغصان الشجيرات ملعبُ
إلى نهرها ينساب بين سهولها ... يتيه دلالاً حيثما يتشعب
إلى البلبل الظمآن للنور والندى ... ورغم جفاء القفر يشدو ويطرب
لقد بسطت أسماء شعرية محددة نفوذها على القارئ، حتى أصبح لا يعرف
سواها، ولعبت وسائل الإعلام المختلفة دوراً غير مسئول ولا منصف في تلميع
أسماء ما كان لها أن تُلّمع، والتعتيم على أسماء أخرى كان من حقها أن تتوهج.
ولا أريد أن أتحدث عن أساليب الحصار والتجاهل والإنكار التي تمارس عمداً
ومع سبق الإصرار على الأدب الإسلامي المعاصر ورموزه حتى أصبح القارئ -
للأسف - يجهل الكثير عن هذه الرموز.
ولكن النبع مهما ألقيت فوقه من حجارة، لا بد أن يتفجر، في أي أرض
كانت.. مهما طال الزمن. ومن هؤلاء الشعراء الذين لم ينالوا حقهم من الشهرة
والذيوع الشاعر خالد البيطار الذي ولد في مدينة حمص السورية عام 1942م،
والذي صدر له حتى الآن ديوانان، الأول: عنوانه «أجل سيأتي الربيع» ،
والثاني «أشواق وأحلام» صدر عن دار البشير بعمان عام 1988.
والشاعر خالد البيطار له إسهامات واضحة وعميقة في ميدان التاريخ
الإسلامي فقد كتب عن غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الخلفاء
الأربعة والصحابة الكرام كتباً ذاعت وانتشرت نظراً لسلاسة أسلوبها وحسن تناولها
وملاءمتها لروح العصر. ولا غرو في ذلك فالشاعر تخرج من كلية الشريعة في
جامعة دمشق عام 1967م.
إلا أن القليل من القراء يعرف أن خالداً شاعر مجيد، وأن له مكاناً مرموقاً في
عالم الشعر، إذا ما تابع مسيرته الأدبية وغذى نتاجه بقراءات متنوعة ومستمرة.
وشعر خالد يتسم بالعفوية المتناهية والعذوبة التي ترطب الشفاه وتنساب من خلال
الكلمات لتتسلل إلى القلب دون استئذان. بالإضافة إلى الصدق الشعوري الذي
يفرض نفسه لدى قراءة النص.
ولعل تجربة غربة الشاعر لسنوات امتدت أكثر من عشر، بعيداً عن أهله
وبيته ومسجده، كان لها أثرٌ واضح في هذا الصدق وفي هذه العذوبة، وفي البعد
كذلك عن الألغاز والطلاسم التي يختبئ خلفها شعراء اليوم ليواروا عجزهم
وضحالتهم.
نأيت وقلبي لا يُصدّق أنني ... نأيت ولا يدري إلى أين يذهب
وليس له من حيلة غير أنه ... رأى من وراء الأفق ما هو أرحب
ثم تتوغل القصيدة في عالم من التفصيلات الصغيرة المحببة التي تشكل
عناصر النص لتشع من خلاله وتمنحه هذه الشفافية وهذه البساطة وهو يتذكر ما
كان من مواقف.
أطوف على الأحياء أرنو بلهفةٍ ... هنا كنت أمشي هاهنا كنت ألعب
أزور أخي، أحكي له ما أصابني ... فيأسو جراحي وهي حمراء تتعب
وأمضي إلى جاري وأطرق بابه ... وأبدي له شوقي وحبي وأُعرب
ثم:
أمرّ على بيتي وأفتح بابه ... وتعرف زوجي مقدمي فترحب
انظر إلى الدقة في اختيار اللفظة في البيت الثالث «أطرق» والبيت الرابع
«أفتح» . صحيح أن النص يخلو من الرمز والغموض والصورة الشعرية التي
يتعلق بها الشعر الحديث، إلا أن دقة رسم المشهد والتركيز على هذه العلامات
الإنسانية الحميمة، وانسياب التراكيب، كل ذلك شفع للشاعر وارتقى بمستوى
النص إلى أفق الشعر المؤثر الرقيق، بالإضافة إلى عنصر التشويق الذي توفر في
كل بيت من أبيات القصيدة. لقد افتقدنا مثل هذه العفوية في الشعر المعاصر،
وأصبح لا بد للواحد منا من أن يستنفر قواه العقلية والنفسية وذاكرته التاريخية أيضاً
كي يواجه النص ويستبطن عوالمه، وبهذا تعددت الرؤى واختلفت المعايير.
إلا أن هذا لا يعني أن الشاعر أهمل الصورة الفنية في كثير من أبياته فها
هوذا يصف بعض الناس ممن قست قلوبهم في صورة حركية موفقة.
وحولي أناس قساة القلو ... ب جفاة إذا ضحكوا أفزعوا
ولقد اختصر الشاعر في كلمتيه: «ضحكوا أفزعوا» معاني كثيرة، ولعل
هذا أبلغ -في نظري -من قول ابن الرومي:
وظننت حين رأيته متحدثاً ... قرداً يقهقه أو عجوزاً تلطم
وحين يتعرض الشاعر لوصف ألوان القمع وصنوف العذاب يشتد شعره
وتحمر كلماته حتى تصبح جمراً.
تلك السجون فلا تعجب إذا صرخت ... فالهول في جوفها حقدٌ ونيران
لانت حجارتها من طول ما رويت ... من الدماء ورقت وهو صوان
أما السمة التي تفرد بها الشاعر خالد البيطار في رأي فهي براعته في وصف
الطفولة والعلاقات الأسرية، هذا الجانب الذي غفل عنه كثير من شعرائنا رغم
أهميته وخصوبته، فاستمع إليه وهو يصف حركات طفلته (عائشة) ذات السنوات
الثلاث:
كثيرة القفز والتصخاب واللعب ... ولا تحس بأعياء ولا تعب
تمشي على أربع حيناً لتضحكنا ... مثل الخروف وأحياناً على الركب
وكم تحملق [1] عينيها لتفزعنا ... فنستعد ونمشي بُغية الهرب
ويستمر الشاعر في تصوير حركات ابنته المضحكة برشاقة لا تقل عن رشاقة
هذه الطفلة الذكية المحببة.
كم ذا تقلد عند السير جدتها ... تخطو وتبطئ بعد الخطو والخبب
وتنحني ويداها خلفها ولها ... صوت يئن كمن يرقى على صبب!
أما ألعاب عائشة التى تحرص عليها:
ألعابها طفلة في المهد نائمة ... قد أسدلت فوقها ثوباً من القصب
وبلبل وقطارٌ صوته خشن ... وقِطةٌ وخروفٌ وافرُ اللبب
وجعبة حشرت فيها بضاعتها ... بعض الوريقات والعيدان والعلب
عالم الطفولة البريئة هذا عالم لا يستطيع أن ينفعل به، ويجيد الحديث عنه
إلا شاعر رقّ إحساسه ولان قلبه وصفت شاعريته وهذّب طبعه الإسلام. ولا يُنقص
من قيمة هذا النص تأثره بقصيدة «أب» الذائعة للشاعر الراحل الأميري يرحمه
الله.
ومن قصائد شاعرنا المتميزة في ديوانه «أشواق وأحلام» والتي تكشف عن
هذا الجانب، أعني الجانب الأسري؛ قصيدته في وصف مشاكسات الأطفال
ومداعباتهم من الصور اليومية التي لا يخلو منها بيت من بيوتنا والتي تمنح حياتنا
طعماً وحيوية ولولاها لأصبحت البيوت قبوراً:
هذا يصيح أنا الكبير فمن يغا ... لبني فيأتيه صغير الجحفل!
يتعاركان فلا البساط بصبره ... يبقى بساطاً تحت ضغط الأرجل
حتى الوسائد والستائر أيقنت ... أن لن تكون عن العراك بمعزل
وأنا أنادي يا بني ألا اهدأوا ... وأقوم أضرب بعد طول تحمل
وبعد أن ينتهي العراك:
يأتونني وخلافهم في قشةٍ ... فأعيدها للمالك المتوسل
فيقوم صاحبه فيضرب رأسه ... بالباب بالجدران إذ لم أعدل!
ويقول لي أعطيته وحرمتني ... إني له، سأميته بالفلفل
أية متعة وراء هذه المتعة؟ بعد قراءة النص كله، وكم نحن بحاجة إلى أن
يتوقف شعراؤنا عند هذا الجانب الإنساني في حياتنا وأن يعطروا أقلامهم بعبير
الطفولة، فعالم الطفولة خصب ومثير ولا يليق وأن يسبقنا الغرب فيه خطوات
وخطوات.
ولئن أجاد الشاعر في هذا اللون العاطفي الاجتماعي من الشعر، فإنه أجاد
كذلك في لون آخر وهو التنديد بالظلم والظالمين:
أيها الظالم فاصنع ما ترى ... وتجبّر وضع القيد ثقيلاً
واغضض الطرف عن القوم الألى ... رسخوا في الأرض وازدادوا قبيلا
ولشاعرنا كذلك قصائد رقيقة رشيقة، فيها دعابة يصور فيها أيام «الجندية»
وغيرها في أيام الشباب. وقصائد أخرى جادة وباكية أحياناً خاصة قصيدة «المعلم» الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو خارج من الفصل.
فحديقة شاعرنا متنوعة فيها الأشجار الباسقة والزهور العطرة والأعشاب
الندية ولكل قصيدة نكهتها. والشعر لدى خالد البيطار ليس ترفاً وإنما هو مسئولية،
وقناة من قنوات الوعي والفكر.
وأستطيع أن أقول مطمئناً: إن خالد البيطار شاعر الطبع السليم، والعذوبة،
والنقاء، والأسرة، والألفة، والحب، الحب الذي يصقل الطباع، ويرتقي بالإنسان. وما أجدر الشاعر أن يتابع خطواته الشعرية الرصينة، وما أجدر القارئ بأن
يتعرف على هذا الصوت الشعري الذي لم ينل حظه من الشهرة والذيوع بعد.