البيان الأدبي
رؤية في تأسيس الأدب على الدين
د. مصطفى السيد
إذا كانت وثنية اليونان بما فيها من أرباب متفرقين إحدى أهم ينابيع الرؤيا
للأدب والفلسفة في تلك الأمة؛ وإذا كان [الكتاب المقدّس العمود الفقري للآداب
الغربية في شتى صورها] [1] فهل يكون بدعاً من القول، ومستهجناً من الرأي أن
يدعو المسلم الأدباء الذين أشربوا في قلوبهم الإيمان لتأسيس رسالة الأدب تأسيساً لا
يناقض روح النص الإسلامي المتمثل (بفَقَار العربية) [2] القرآن الكريم والحديث
الشريف؟
لا أعتقد أن مثل هذه الدعوة ستنبذ من قبل أمة تعتز بصبغة الله [3] [ومَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: 138] . بل إن مثل هذه الأمة
لن تجد غضاضة فى أن ترتد في الحافرة [4] ، لتأطر [5] الإبداع الأدبي والدرس
النقدي بقوة إلى العودة إلى فضاء التصور الإسلامي، ولكنها ليست أوبة يكون
عمادها الاسترجاع الآلى أو المحاكاة الشكلية للدور المفقود، بل هي أوبة واعية
للذات والموضوع، ترعى رسالتها وتراعي المستجدات، تملك التراث ولا يملكها،
وتمسك بالحاضر ولا يمسكها، وتستشرف المستقبل دون أن يستقر فيها فيقطعها عن
ماضيها وحاضرها أو يغرقها في بحاره، ويسجنها في إساره [6] .
إن الدرس الأدبي الأول الذي اتخذ القرآن الكريم محوراً، هو الذي وضع
المعالم الأساس والبذور الأولى لنظرية (لغة الأدب) وهو الذي كشف عن أدبية
النص وليس الشكلانيين الروس كما هو مستقر حالياً في المصادر الأوربية المختلفة. ذلكم الدرس الأدبي الأول الذي تمحور حول اللغة في القرآن الكريم، وأنتج
التآليف التي قامت على رصد مظاهر الانحراف في العبارة الأدبية بالقياس إلى اللغة
في مستواها المثالي، وهذا في الواقع هو المبرر الحقيقي لكي نسجّل للنحاة العرب
والقائمين على الدراسة اللغوية للنص القرآني، أوليتهم في البحث البلاغي، وذلك
عندما صنعوا ما سار عليه المحدثون من أصحاب النحو التحويلي من تفريقهم بين
ما أطلقوا عليه: البنية السطحية وما أطلقوا عليه البنية العميقة [7] .
إن المحاولات الدؤوب لجمع ما تناثر عن إعجاز القران الكريم في القرن
الأول والثاني الهجريين وتأطيره تمهيداً لتنظيره بمنظومة معرفية متكاملة، هذه
المحاولات كانت خيراً عميماً لكل الأطراف - الدارس/الموضوع /القارئ - انتقل
معها وبها العقل العربي المسلم من الجزئي إلى الكلي، ومن الظاهرة إلى النظرية،
ومن الملاحظات المتناثرة إلى العلوم المتماسكة والثقافة المتآزرة. كما كانت قيمتها
الأخلاقية ودلالاتها الجمالية ملتحمتين متوحدتين تأخذان بجماع عقل القارئ وتسدّان
عليه أبواب الملل والسأم.
إن ذلك حصل كله بفضل الله ثم بما (كان لإعجاز القرآن من تأثير في تحريك
الفكر اللغوي والأدبي والبلاغي والكلامي على حد سواء. فقد كان الانشغال بظاهرة
إعجاز القرآن أكبر حافز للفكر العربي يومئذ على ارتياد مسالك الدرس اللغوي
والأدبي. إذ بقدر ما كان لإعجاز القرآن من الوقع في نفوس الذين سمعوه أول مرة، وانبهروا ببيانه، واعتبروه دليلاً لا يرد على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-
بقدر ما ظل هذا الإعجاز يحتل حيزاً كبيراً من اهتمامات العلماء والدارسين على مر
الأجيال، فلم يتوقف الفكر عبر العصور الماضية عن البحث في وجوه إعجازه،
سواء كان ذلك بدافع الحاجة المتجددة إلى الدفاع عن هذا الإعجاز، أو كان بدافع
تبيين وجوهه، وتأسيس العلوم المتفرعة عنه، أو المقعِّدة لقواعده. فكان القرآن
منطلق النظر في كل القضايا اللغوية والأدبية التي انشغل بها البحث فيما بعد) [8] .
إن تلك المدارسة للقرآن الكريم أنجبت للعربية بل للدراسات الجمالية في العالم
كله مجرّة من العبقريات الإسلامية، أذكر منها على سبيل المثال لا الإحصاء: عبد
القاهر الجرجاني (471- أو 474 هـ) ذلك العالم الذي أعطى علم البلاغة (هويته الكاملة) كما يقول الدكتور شكري عيّاد [9] وسبق بدراساته لأساليب القرآن الكريم أحدث ما وصل إليه عالم اللغة السويسري (دي سوسير) كما يقول الدكتور محمد مندور [10] وهو النقاد الأول الذي اكتنه الطبيعة البنيوية للصورة كما يقول الدكتور كمال أبو ديب [11] .
وهكذا فإن الإبداع في التراث العربي كان ينظر إليه دائماً وعلى مر العصور
بأنه مرتبط بالدين، لا نستطيع أن نتحدث عن إبداع عربي دون أن ندخل في
الاعتبار العامل الأساسي وهو الرؤية الإسلامية إضافة إلى ما تمتاز به الحضارة
العربية من مقومات كثيرة، لكن هناك جانباً هاماً في تراثنا هو الجانب
الإسلامي [12] .
إن تأسيس الإبداع أدباً ونقداً على الاقتباس من النص الإسلامي علاوة على ما
يمنحه للأدباء من قراءة واعية للقرآن الكريم والحديث الشريف، فإن هذا التأسيس
يشكل حصناً منيعاً أمام محاولات وغارات الاجتياح الثقافي والروحي للأمة، ولكم
دفع المسلمون ثمناً باهظاً للتضاد القائم بين خطابهم الأدبي ورسالتهم العقدية.
ثم لمصلحة من يغيب أو يغيّب إسلامنا عن أدبنا؟ حتى بلغ الأمر أحياناً إذا
ذكر الدين في معرض الحديث عن الأدب، اشمأزت قلوب كثيرة، وإذا ذكر ما
دونه أو من دونه إذا هم يستبشرون.
ثم أليس في تأسيس الأدب على الدين عود بالأمر إلى ينبوع الرؤية الأولى في
هذا الكون، إذ أن (الآداب العالمية إنما نشأت نشأة دينية [12] ، ويرى ويليام بليك
(أن العهد القديم والجديد هما شريعة الفن العظيمة) [13] ، ويقول تومارس هاردي:
(إن الأدب الصرف يشمل الدين لأن الشعر والدين يتماسان) [14] .
ولم يكن إيماني بهذا الأمر ليتوقف على مقالات الغربيين، ولكن عندما يرى
المرء أن التغرب أوشك أن يصادر بعض العقول في بلادنا أحببت أن أذكِّر بأن
الاحتفاء بالفكر الغربي يسع الجانب الإيجابي من هذا الفكر أيضاً.
إن (الإنسان منذ مولده قد استودع فطرة باطنة، بعيدة الغور في أعماقه توزعه
- تلهمه وتحركه - أن يتوجه إلى عبادة رب يدرك إدراكاً مبهماً أنه خالقه وحافظه
ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في
أغواره، وكل ما يلبي هذه الحاجة هو الذي هدى الله عباده أن يسموه «الدين» ولا
سبيل البتة أن يكون شيء من ذلك واضحاً في عقل الإنسان إلا عن طريق «اللغة» والدين واللغة - منذ النشأة الأولى - متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل، ومن
أغفل هذه الحقيقة ضل الطريق، وأوغل في طريق الأوهام، هذا شأن كل البشر
على اختلاف مللهم وألوانهم) [15] ، ويقول العلامة محمود محمد شاكر أيضاً في
سفره الرائع -أباطيل وأسمار- درة الأدب الإسلامي اليتيمة:
«إنه لأمر مفروغ منه ارتباط الآداب بتاريخ الأمة وعاداتها وأخلاقها
ودياناتها، وما شئت من شيء تعدّ به الأمة ذات كيان قائم متميز، ودارس الآداب
إذا لم يكن مطيقاً لذلك كله، بصيراً به، حسن التصرف في جليله ودقيقه، جيد
الفهم لغوامضه ومبهماته، فهو حري أن يشوه الصورة عند تركيبها، تشويهاً فيه من
الشناعة ما يجعل دراسته مُثْلَة بمن يدرسه، كما يمثل المحارب المحترق بجثة عدوه، وقد أطارت لبه حدّة العداوة والحقد، واتقان دراسة هذه المادة كلها تعد دراسة أدبية
محضة، فلا يستطيع دارس أن يقول للناس: إنها ليست من صميم اختصاصي! !
فإذا قالها، فذلك إيذان منه بأنه فقد التمييز، وجهل أساس كل منهج، واستحق
أن يطرح الناس ما يقوله، إذا هو لم يجد عند نفسه القدرة على أن يستحي فيستر ما
يكتب، ويغيبه في التراب عن أعين الناس. وظني أن هذا الذي قلته عن المنهج
كاف في تمثل التبعة التي يتحملها دارس الآداب، وفي إدراك التبعة التي يحملها
القارئ حين يعرض عليه دارس ما درس، فالأمر من أي نواحيه أخذته إذن جد لا
هزل فيه) [16] .
وفي ارتكاز الأدب على الدين مورداً ومصدراً إبداعاً ونقداً يرد البشرية
المعاصرة إلى نقطة البداية في قصة الوجود الأولى، وذلك عندما أهبط أبو البشرية
آدم إلى الأرض، بعد أن كرمه الله سبحانه بإسجاد الملائكة فيتذكر الأبناء تكريم
الأب، ويتذاكرون سيرته وعقيدته /التوحيد /ودينه /الإسلام / فيؤول من وفق منهم
إلى الأصل ليأوي إلى ركن شديد، بعلو النسب الأبوي والعقدي، ويدرك الأبناء أن
عدوهم اليوم هو عدو أبيهم بالأمس، وأن هذه العداوة دائمة وقائمة إلى ما شاء الله
أن تبقى، لا كما صوره عمل يعد من أعظم المنجزات الأدبية في الغرب وهو
مسرحية (فاوست) للشاعر الألماني جوته (ت 1832م) أن مختلف القراءات ...
المسرحية تعطي للشيطان دوراً جديداً في عالم ألغى الدين، ولم يدع منه إلا معالم
باطلة، وأعدل هذه القراءات طريقة وهي التي ترى أن (هذه المسرحية تعد
تشخيصاً لانتقال الإنسان من الإيمان بالغيب وطلب المعرفة عن طريق
الأرض [17] إن هذه القراءة مرفوضة في التصور الإسلامي مقدمات ونتائج. إن الإسلام بوصفه ديناً إلهي المصدر، عالمي الهدف إذا ما استند النص الأدبي إلى هاتين الحقيقتين فيما يعالج من قضايا. فمن المرجح - بفضل الله - ألا تغادر نصوص مثل هذا الأدب عقل المتلقي دون أن تظفر باستجابة عاجلة أو آجلة كبيرة أو صغيرة ولا سيما المتلقى الكتابي، الذي يقرأ في إنجيل متى قول المسيح عليه السلام: (لا تظنوا أني جئت لأنقض ناموس الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل) [18] ، وصدق الله العظيم القائل: [وإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] [الصف: 6] .
ولا يظن الكاتب أن جهوده ستكون هباءً منثوراً، أو تلقي بها الريح في مكان
سحيق، فإن الخطاب الوثني المعاصر قد آتى أكله، وزرع سمومه في الكثير من
عقول المسلمين ومناهجهم وآدابهم وبات تقليده ومحاكاته من مقومات المعاصرة عند
الكثيرين [19] . وعلى العكس من ذلك فإن المسلمين - يمكن أن يكونوا - بخطابهم
المتوازي مع عقيدتهم - غازين لا مغزوين - مبادرين لا متفرجين، أصحاب رسالة
عالمية لا منفذي أوامر مشبوهة.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شن حرب الكلمة، قبل أن يبدأ
حرب الأسلحة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فقد بعث
إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه إلى التوحيد واتباعه، وذلك قبيل مغيب
شمس الدولة الرومانية في المشرق، وأوشك هذا الجواب أن يغير سير التاريخ، إذ
استقبله هرقل بقبول حسن وكان آخر كلامه بعد حواره مع أبي سفيان - قبل أن
يسلم - (قد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص
إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدمه) [20] .
وهكذا فإن أكثر أهل الكتاب لم يكونوا غائبين عن مسيرة دعوة نبينا محمد
عليه وعلى آبائه من الأنبياء الصلاة والسلام، ولقد تجاوز بعضهم مرحلة الأمنية
التي تمناها هرقل (فلو أني أعلم أني أخلص إليه..) خلصوا إليه وأسلموا، كسلمان
-رضي الله عنه- الذي طوّف الآفاق وجاب القفار حتى استقرت به النوى بين يدي
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وكعبد الله بن سلام، الذي قطع صلته
باليهودية وعاد إلى ملة أبيه إبراهيم المتمثلة بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-
وسائر إخوانه الأنبياء [الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد] [21]
وصدق الله العظيم القائل: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ
وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] [البقرة: 136] .
ولقد تحسر ورقة بن نوفل ألا يكون حياً إذ يخرج الرسولَ قومُه، كما أنه لم
يكتم - بالرغم من تنصره - نسبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى دوحة النبوة
المباركة: فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أتت به خديجة -رضي الله
عنها- إليه:» هذا الناموس الذي نزل الله على موسى «مبدياً استعداده لنصرته
إن مد الله بعمره» وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً « [22] .
وإذا كان من [أولى المسلمات أن وظيفة العمل الأدبي على اختلاف لغته
وأشكاله هي ربط الأنا بالغير] [23] فإن الكلمة تظل جسراً أساساً ومعبراً ضرورياً
إلى عقول الآخرين. ومن أولى من الأدباء المؤهلين بما استوعبوه من فهم للإسلام
وما أوتوه من موهبة أدبية وجمالية، من أولى منهم باستشراف هذا الدور وأداء هذه
الرسالة؟ وإذا كان مستقبل الإسلام يشغلنا جميعاً فإن السؤال القمين بالإجابة: ما
دور الأديب المسلم في تحقيق هذا المستقبل؟