مصطلحات
عثمان علي حسن
العقل لغة مصدر عقل، يعقل، عقلاً، فهو معقول، وعاقل. وأصل معنى العقل المنع، يقال: عقل الدواء بطنه، أي أمسكه، وعقل البعير: إذا ثنى وظيفه إلى ذراعه، وشدهما بحبل؛ لمنعه من الهروب. وأطلق العقل على معان كثيرة، منها: الحجر والنهي، والدية؛ لأن القاتل يسوق الإبل إلى فناء المقتول ثم يعقلها هناك، ويطلق - أيضاً - على الملجأ والحصن، وكذلك القلب [1] ؛ ولذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً» [2] وما تقدم من إطلاقات فهي تدور حول المنع.
وفي الاصطلاح فالمختار هو أن يقال: العقل يقع بالاستعمال على أربعة
معان [3] : الغريزة المدركة، والعلوم الضرورية، والعلوم النظرية، والعمل بمقتضى العلم.
الأول: الغريزة التي في الإنسان، فيها يعلم ويعقل، وهي كقوة البصر في
العين، والذوق في اللسان، فهي شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط
التكليف، وبها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان.
الثاني: العلوم الضرورية وهي التي تشمل جميع العقلاء، كالعلم بالممكنات،
والواجبات، والممتنعات. والفلاسفة والمتكلمون عرفوا العقل بها، ومنهم -
كالباجي - من قسمها إلى قسمين: قسم يقع في الناس ابتداء، والآخر يحصل
بالاكتساب، وخصوا العقل بالقسم الاول.
الثالث: العلوم النظرية، وهي التي تحصل بالنظر والاستدلال، وتفاوت
الناس وتفاضلهم فيها أمر جلي وواقع.
الرابع: الأعمال التي تكون بموجب العلم [4] ولهذا قال الأصمعي: «العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن» [5] . وقيل لرجل
وصف نصرانياً بالعقل: «مه، إنما العاقل من وحَّد الله وعمل بطاعته» [6] ...
وقال أصحاب النار: [لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [الملك.
10] . فتعريف بعض الناس العقل بذكر بعض هذه المعاني ليس بجامع، والصواب
ذكر معانيه مجتمعة.
وفي كل معاني العقل المتقدمة لا يوصف بأنه جوهر قائم بنفسه، خلافاً
للفلاسفة، ومن شايعهم من المتكلمين [7] ، بل العقل صفة أو عرض - عند من
يتكلم بالجوهر والعرض - يقوم بالعاقل، وكونه صفة يمنع كونه أول المخلوقات،
لأن الصفة لا تقوم بنفسها [8] .
التفاوت في العقول:
عرف الباجي العقل بأنه: «العلم الضروري، الذي يقع ابتداء ويعم العقلاء» ويلزم منه أن يكون الناس في عقولهم سواء، وهو مذهب المعتزلة، والأشاعرة،
ووافقهم ابن عقيل من الحنابلة، وهو ما ذهب إليه الفلاسفة [9] وعلى رأسهم ديكارت القائل بأن: «العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي..» إلى أن قال: «إن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض
الآخر..» [10] .
وحجة المتكلمين - في عدم - تفاوت العقول واختلافها - هي أن العقل حجة
عامة، يرجع إليها الناس عند اختلافهم، ولو تفاوتت العقول لما حصل ذلك، وهذا
مبني على مذهبهم في تعريف العقل، بأنه: بعض العلوم الضرورية والتي لا
يختلف الناس عليها، والصواب ما تقدم، وهو أن مسمى العقل يشمل العلوم
الضرورية، والنظرية، فالتحاكم إلى العلوم الضرورية يمنع النزاع
والاختلاف [11] ، والتحاكم إلى العلوم النظرية يحتمل النزاع والاختلاف، وهذا مشهور بين الناس ولا سيما المشتغلين بالعلوم العقلية من الفلاسفة والمتكلمين؛ حيث يكثر بينهم التنازع والاختلاف.
والحق أن يقال: إن العقول تتفاوت من شخص إلى شخص، بل قد يحصل
هذا التفاوت في الشخص الواحد، كما قال الشاطبي - رحمه الله -: «فالإنسان -
وإن زعم في الأمر أنه أدركه، وقتله علماً - لا يأتي عليه الزمان، إلا وقد عقل فيه
ما لم يكن عقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد ذلك من
نفسه عيانا، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم.. [12]
وحديث:» .. ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم
من إحداكن.. « [13] مما يمكن الاستدلال به على هذا التفاوت، إذ الحديث دل
بمنطوقه على النقصان، وبمفهومه على الزيادة وهو معنى التفاوت، بل هو دليل
على تفاوت العقل الغريزي أيضاً لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرر أن
جنس النساء فيه نقصان العقل، وهذا لا يكون إلا في الغريزة التي خلقن بها، ولأن
التفاوت في الجانب الكسبي فرع عن التفاوت في الجانب الغريزي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» الصحيح الذي عليه جماهير أهل السنة، وهو
ظاهر مذهب أحمد، وأصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه، أن العلم والعقل
ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان « [14] .
مكان العقل:
اختلف أهل العلم في مكان العقل من جسم الإنسان، فقالت الأحناف والحنابلة
وهو مذهب المعتزلة: إن العقل محله الدماغ، أي الرأس، ودليلهم: أنه إذا ضرب
الرأس ضربة قوية زلزل معها العقل، وقالوا - أيضاً -: إن العرب تقول للعاقل،
وافر الدماغ، ولضعيف العقل، خفيف الدماغ، وهو محل الإحساس.
وقالت المالكية والشافعية: محله القلب، وعليه بعض الحنابلة، ونسب إلى
الأطباء [15] ، وصححه الباجي ودليلهم قوله تعالى: [فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا] [الحج: 46] فأضاف منفعة كل عضو إليه؛ فمنفعة
القلب التعقل كما أن منفعة الأذن السمع؛ وقد تقدم كلام عمر ابن الخطاب في ابن
عباس - رضي الله عنهم -:» ذاكم فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً، وقلباً
عقولاً «.
والتحقيق أن العقل له تعلق بالدماغ والقلب معاً، حيث يكون مبدأ الفكر
والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب، فالمريد لا يكون مريداً إلا بعد
تصور المراد، والتصور محله الدماغ [16] ، ولهذا يمكن أن يقال: إن القلب
موطن الهداية، والدماغ موطن الفكر؛ ولذا قد يوجد في الناس من فقد عقل الهداية
- الذي محله القلب - واكتسب عقل الفكر والنظير - الذي محله الدماغ - كما قد
توجد ضد هذه الحال.