د. فضل إلهي
إن أهم ما يجب أن يتصف به الداعية الإخلاص. فلا يجعل دعوته حرفة
تكسب الأموال ولا ذريعة للتقرب إلى غير الله، ولا سلماً للوصول إلى الجاه
والسلطان، بل يبتغي بدعوته وجه الله الواحد الأحد، ولا يريد من أحد سواه جزاء
ولا شكوراً. وسنتحدث عن هذا الموضوع بعون الله تعالى تحت العنوانين التاليين:
أولاً: وجوه تبين ضرورة اتصاف الداعية بالإخلاص.
ثانياً: أمثلة من إخلاص الدعاة السابقين.
وجوه تبين ضرورة اتصاف الداعية بالإخلاص:
وتظهر ضرورة اتصاف الداعية بصفة الإخلاص من عدة وجوه منها:
1- يشترط الإخلاص لنيل الثواب على الدعوة:
مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها لكن
القائم بها لا يؤجر ولا يثاب عليها إلا إذا كان مخلصاً في دعوته. قال تعالى: [لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [النساء 114]
يقول الفخر الرازي في تفسير الآية: (والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من
الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا
أتى بها لوجه الله ولطب مرضاته. فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية
فصارت من أعظم المفاسد. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من
الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلوب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن
الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى) [1] .
وقد بيّن رسول الله أيضاً أن العمل يحبط إذا قصد مع الله أحد. فقد روى
الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) [2] .
وقد بين كثير من سلف هذه الأمة أيضاً ضرورة الإخلاص لقبول العمل فقد
قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل أيضاً
قول وعمل إلا بالنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقته السنة) [3] .
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى -: (إن العمل إذا كان صواباً ولم ...
يكن خالصاً لم يقبل.، إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، حتى يكون خالصاً
صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة) [4] .
2- الدعوة بغير الإخلاص ستجر صاحبها إلى النار:
ولا يقف ضرر الدعوة بغير الإخلاص عند حرمان صاحبها من الثواب بل
يتعدى إلى أنها ستجر الداعية إلى النار. فقد روى الإمام ابن ماجة عن جابر بن
عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي قال: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس [5] ، فمن فعل ذلك فالنار فالنار) [6] . وليس هذا فحسب بل إن الداعية لغير وجه الله تعالى سيكون أحد الثلاثة الذي
تسعر بهم النار يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد. فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها. قال: (فما عملت ... فيها؟) . قال: (قاتلت فيك حتى استشهدت) ، قال: (كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل) . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ... ... ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن. فأُتي به، فعرّفه نعمه فعرفها. قال: (فما عملت ... فيها؟) ، قال: (تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن) ، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارىء. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله. فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت بها، قال: (ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك) . قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل (. ثم أمر به فسحب على وجه ثم أُلقي في النار) [7] . ...
وفي رواية أخرى: قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ثم ضرب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- على ركبتي فقال: (يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة
أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة) [8] .
يقول الإمام النووي تعليقاً على رواية مسلم: (قوله -صلى الله عليه وسلم -
في الغازي والعالم والجواد، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله وإدخالهم النار دليل
تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال
كما قال تعالى: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] . وفيه أن
العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً،
وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات كله محمول على من
فعل ذلك مخلصاً) [9] .
3- القاصد لغير وجه الله لا يقدر على نيل ما يرغب فيه:
إن من ابتغى غير وجه الله بدعوته فليسأل نفسه ماذا يريد من وراء دعوته؟
هل يطلب بدعوته متاع الدنيا وزينتها؟ أم يهدف إلى نيل السيادة والقيادة في
الأرض؟ أم يبتغي العزة بها؟ أم ينشد بها رضى الناس؟
إن كان قد أراد متاع الدنيا وزينتها بالدعوة فكيف يقدر على نيلها بغير إذن من
له الأرض والسموات وما بينهما وقد قال تعالى: [مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا
وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ..] [هود 15] ، وعليه أن يقرأ قوله تعالى: [قُل لِّمَنِ الأَرْضُ
ومَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ
السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ]
[المؤمنون 84-89] ، وكيف ينالها بغير حكم من له خزائن السموات والأرض [ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ] [سورة المنافقون 7] .
وإن كان قد رغب في الزعامة والقيادة في الأرض تحت ستار الدعوة فكيف
يصل إليها من غير أمر من هو مالك الملك؟ وعليه أن يتدبر قوله تعالى: [قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وتُذِلُّ
مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران 26] . وإن كان قد
قصد بالدعوة العزة فليعلم أن العزة من رب العباد وليست من العباد [مَن كَانَ يُرِيدُ
العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً] [فاطر10] . وإن كان قد نظر في دعوته إلى رضى الناس
فليفهم أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. ثم إن
القاصد لغير وجه الله تعالى لينتبه أن من فتح له المولى من رحمة فلا ممسك لها،
وما يمسك فلا مرسل له من بعده. قال سبحانه وتعالى: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن
رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ]
[فاطر2] .
ومن أعطاه فلا مانع له، ومن منعه فلا معطي له كما كان الصادق المصدوق
بالوحي عليه الصلاة السلام يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا ...
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت
ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) [10] .
وعلى القاصد لغير وجه الله تعالى أن يتذكر دائماً أن من أهانه الله فلا معز له
ومن أكرمه فلا مهين له. قال تعالى: [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يَشَاءُ] [الحج 18] . وعليه أن يستحضر ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم-
الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أن يقوله في قنوت الوتر: (وإنه لا يذل من
واليت ولا يعز من عاديت) . [11] وعليه أن يحفظ أن من طلب رضى الله تعالى ...
كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضى الناس وكله الله إلى الناس. فقد روى
الإمام الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم - يقول: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس) [12] . فما أجهل وأخسر
من ترك ابتغاء وجه الله تعالى بالدعوة لأمور لا يقدر على نيلها إلا بأمر الله تعالى.
4- المخلص في دعوته لله تعالى لا يبقى محروماً من الدنيا:
من قصد بدعوته غير وجه الله تعالى فليفكر في هذا السؤال: هل سيحرم من
الدنيا إذا ابتغى بالدعوة مرضات الله سبحانه تعالى؟ للإجابة على هذا السؤال عليه
أن يستحضر الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كانت الآخرة همه جعل الله ...
غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه
جعل الله الفقر بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) [13] .
وعليه أن يعيد إلى ذاكرته تاريخ سلف هذه الأمة. إنهم أخلصوا النية في
دعوة الناس إلى رب الناس فلم يكن هذا الاخلاص حاجزا دون تدفق خيرات الدنيا
ونعيمها عليهم، خضعت لهم - بفضل الله تعالى - كبرى قوات العالم آنذاك،
ورفرفت أعلامهم من أسبانيا إلى كاشغر وبخارى، وكثرت الأموال حتى لم يكد
يوجد من يقبل الصدقات. وقد قال عنهم عدوهم:
(إننا لا نذكر أمة كالعرب حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل
ما حققوه، وإن العرب أقاموا ديناً من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا ديناً لا
يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم أنشأوا دولة من أعظم الدول التي
عرفها التاريخ) [14] . إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إخلاص الدعاة السابقين:
قبل أن نختم هذا الموضوع نذكر فيما يلي بعض الشواهد التي يتجلى من
خلالها إخلاص الدعاة السابقين من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-
وإخلاص سيد الرسل وسلف هذه الأمة.
أ- إخلاص الأنبياء السابقين:
إن الدعوة إلى الله تعالى سبيل الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-،
وعلى السالك في هذا الطريق أن يسلك كما سلكوا، ويتزود كما تزودوا، ويتصف
بما اتصفوا به. إنهم أخلصوا لله الواحد ولم يطلبوا من أحد سوى الله تعالى أجراً.
أخبر الله تعالى في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم
الصلاة والسلام- أن كل واحد منهم قال لقومه: [ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ
أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ] [الشعراء 109، 127، 145، 164، 180] ،
وهكذا أعلن إمام الأنبياء وقائد المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول تعالى
مخاطباً إياه: [قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ] [سبأ 47] . ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] [ص 86] ، ويقول تعالى أيضاً: [أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًاً فَهُم
مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] [الطور 40] .
2- إخلاص سيد الرسل -صلى الله عليه وسلم-:
وقد أثبت إمام الدعاة وقدوتهم أيضاً بسيرته المطهرة أنه لايريد من وراء
دعوته مالاً ولا ملكاً. إنما يقصد الأجر من الله تعالى، ومن مواقفه الكثيرة الدالة
على ذلك موقفه من عروض قريش على لسان مندوبها عتبة بن ربيعة لما قال له:
أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضاً ... يا ابن أخي! إن كنت
تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،
وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً
ملكناك علينا. ولم يكن رده على هذه العروض إلا أن قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: (فاسمع مني) ، فقال: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم * ...
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ..] ،
قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إلى السجدة منها فسجد ثم قال:
(قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك) [15] .
إخلاص سلف هذه الأمة:
وهكذا كان أصحابه البررة وأتباعه الصادقون، دعاة الحق وأئمة الهدى -
رضي الله تعالى عنهم- يعلنون في كل مكان أن طلبهم ليس الدنيا بل إنهم يريدون
إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن من دخل في الإسلام فماله
له، وملكه له. وما أكثر الشواهد الدالة على ذلك. فمن ذلك أن المغيرة بن شعبة -
رضي الله عنه- لما ذهب إلى رستم بناء على طلبه قبل بدء القتال في معركة
القادسية، قال له رستم: «إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم، ونكف الأذى عنكم،
فارجعوا إلى بلادكم، ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا» . فقال له
المغيرة -رضي الله عنه-: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد
بعث الله إلينا رسولاً، قال له: «إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني
فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا
يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز» . فقال له رستم: «فما
هو؟» ، فقال: «أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله» ، فقال: «ما أحسن
هذا! وأي شيء أيضا؟» ، قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: «وحسن أيضاً، وأي شيء أيضا؟» قال: «والناس بنو آدم، فهم
إخوة لأب وأم» ، قال: «وحسن أيضاً» ، ثم قال رستم: «أرأيت إن دخلنا في
دينكم أترجعون عن بلادنا؟» ، قال: «إي والله! ثم لا نقرب بلادكم إلا في
تجارة أو حاجة» . ولما خرج المغيرة -رضي الله عنه- من عنده ذاكر رستم
قومه في الإسلام، فأنفوا من ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه [16] .
ما أصرح كلام المغيرة -رضي الله عنه- لبيان موقف المسلمين من الملك
والمال وحرصهم على هداية الناس. ولم يكن هذا البيان الواضح الذي لا لبس فيه
ولا غموض على لسان المغيرة -رضي الله عنه- وحده بل هكذا كان على لسان كل
من أتيحت له الفرصة لتوضيح غاية المسلمين وهدفهم.
ونجد النعمان بن مقرن -رضي الله عنه- يخاطب ملك فارس يزدجرد وجهاً
لوجه بقوله: «.. ونحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام، حسَّن الحسن، وقبّح
القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه جزاء، فإن أبيتم
فالمناجزة. وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه على أن تحكموا
بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم» [17] .
هكذا كان دعاة الحق في الجبهة الفارسية، وفي الجبهة الشامية يصرح معاذ
بن جبل -رضي الله عنه- في وجوه القادة الروميين والشاميين:
«إن أول ما ادعوكم إلى الله أن تؤمنوا بالله وحده، وأن تصلوا صلاتنا،
وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم
إخواننا في ديننا. لكم ما لنا وعليكم ما علينا» [18] .
وفي الجبهة المصرية نجد عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- يبين ترفع
المسلمين عن الدنيا للمقوقس بقوله:
«وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة دنيا ولا طلباً للاستكثار منها،
إلا أن الله قد أحل ذلك لنا وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له
قنطار ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها 0
جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن
كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما
كان في الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء. إنما النعيم
والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة
أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء
ربه وجهاد عدوه» [19] .
وماذا كان تأثير كلام هذا الداعي المخلص الطالب لرضوان الله؟ فلنسمع -
محدثنا أبا القاسم ابن عبد الحكم بقوله:
«فلما سمع المقوقس ذلك منه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا
الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا
وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض. ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض
كلها» [20] .
وفي الجبهة الصينية لما قال ملك الصين لرئيس وفد المسلمين: قد رأيتم
عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة
البيضة في كفي، فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف. فإني قد عرفت
حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه.
فأجابه هُبيرة بن المشَفْرج الكلابي رئيس وفد المسلمين بقوله: كيف يكون
قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون
حريصاً من خلّف الدنيا قادراً عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً
إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه « [21] .
فالسالك طريق الدعوة هو السالك سبيل الأنبياء والمرسلين، وسبيل سيد
الأولين والآخرين -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه البررة -رضي الله عنهم-،
وعليه أن يخلص نيته كما أخلصوا.