مالك إبراهيم الأحمد
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ... فطوبى للغرباء» [1] .
وعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن
الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباَ كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: من هم يا رسول
الله؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فسد الناس» [2] وروي بزيادة بلفظ: «قيل
ومن الغرباء؟ قال: النُّزاع من القبائل» [3] .
كما روى عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «طوبى للغرباء، قيل:
ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، ومن
يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» [4] .
في الحديث الأول بيان مبدأ الإسلام، وأنه بدأ غريباً بين الأديان، وكان أهله
غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريباً بين أهله وعشيرته، يؤذى بسبب
ذلك ويفتن في دينه، ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء
الله مطيعين لأوامر رسوله حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة فزالت غربته
عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم.
وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا) لقلة المتمسكين به.
وهذه الغربة تزداد شيئاً فشيئاً بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس.
أما فتنة الشبهات فقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على
ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة [5] .
وأما فتنة الشهوات فقد بين الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذلك حيث ... قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» [6] .
أما فتنة الشبهات فينجى منها الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث. «لا
تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك» [7] وهم الغرباء في آخر الزمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«.. وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة.
ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريباً بينهم لا يعرفه
منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا فطوبى لمن تمسك بالشريعة كما أمر ... الله ورسوله» اهـ.
قال ابن القيم:
«.. فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جداً سُمُّوا
غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء.
والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء. وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع- منهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على
أذى المخالفين. هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً، فلا غربة
عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين» .
وقال أيضاً:
«ومن صفات هؤلاء الغرباء -الذين غبطهم النبي -صلى الله عليه وسلم- التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف
عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير
الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة. بل هؤلاء الغرباء
منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده.
وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس، بل كلهم لائم لهم. فلغربتهم
بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم» .
وقال أيضاً:
«فإذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله،
وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن
الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا
الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه واذدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه
وإمامه -صلى الله عليه وسلم-، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه:
فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل. فهو غريب في دينه
لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد
عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد
طرقهم» [8] .
ونجد في كتب السلف مدح السنة وأهلها، ووصفهم بالغرباء.
قال الأوزاعي: «أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة، ... ترفقوا - يرحمكم الله- فإنكم من أقل الناس» .
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: «إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه
الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب إلى عالم
وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد
وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غرره إبليس قد صعد به إلى أعلى درجة
العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها، وسائر ذلك من الرعاع، همج
عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار» .
وقال الآجري في وصفه الغريب: «فلو تشاهده في الخلوات يبكي بحرقة
ويئن بزفرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه لظننت أنه ثكلى قد
أصيب بمحبوبه وليس كما ظننت، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به، لا
يبالي بذهاب دنياه إذا أسلم له دينه، قد جعل رأس ماله دينه يخاف عليه الخسران»
اهـ.
وكما بين الحديث أن الغرباء قلة في الأزمان، من يطيعهم قليل ومخالفوهم
كثير، وهم صنفان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح نفسه ويصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى
الصنفين وأفضلهما.
والغربة أنواع: أولها غربة أهل الحق، أهل الله وأهل الإسلام بين المسلمين
وهي الغربة الممدوحة، وأصحابها هم الطائفة المنصورة.
والغربة الثانية: هي غربة الباطل بين أهل الحق وهي غربة مذمومة.
والثالثة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن الوطن.
صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره:
والغريب قد يكون غير مشتهر عند الناس، ولا يأبه به كما ورد في صفة
الغريب بعض الأحاديث، منها: حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «طوبى لعبد مغبرة قدماه في سبيل الله عز وجل، شاعث رأسه، إن
كانت الساقة كان فيهم، وإن كان في الحرس كان منهم، وإن شفع لم يشفع، وإن
استأذن لم يؤذن له، طوبى له، ثم طوبى له» [9] .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«رب أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله عز وجل لأبره» [10] . ...
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ...
يحب العبد النقي الغني الخفي» رواه مسلم في صحيحه.
وروى البيهقي في الأسماء والصفات أن عمر بن الخطاب دخل المسجد فوجد
معاذ بن جبل جالساً إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يبكي فقال له عمر:
ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك - لرجل من أصحابه -؟ قال: لا.
ولكن حديثاً حدثنيه حبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في هذا المسجد. فقال: ما
هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أخبرني أن الله عز وجل يحب الأخفياء، الأتقياء
الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة [11] .
ونختم حديثنا عن الغرباء بقول الآجري -رحمه الله-: «من أحب أن يبلغ
مراتب الغرباء فليصبر على جفاء أبويه وزوجته وإخوانه وقرابته. فإن قال قائل:
فلم يجفوني وأنا لهم حبيب وغمهم لفقدي إياهم إياي شديد؟ قيل: لأنك خالفتهم على
ما هم عليه من حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها، ولتمكن الشهوات من قلوبهم ما
يبالون ما نقص من دينك ودينهم إذا سلمت لهم بك دنياهم، فإن تابعتهم على ذلك
كنت الحبيب القريب، وإن خالفتهم وسلكت طريق أهل الآخرة باستعمالك الحق
جفا عليهم أمرك، فالأبوان متبرمان بفعالك، والزوجة بك متضجرة فهي تحب
فراقك، والإخوان والقرابة قد زهدوا في لقائك. فأنت بينهم مكروب محزون،
فحينئذ نظرت إلى نفسك بعين الغربة فأنست بمن شاكلك من الغرباء، واستوحشت
من الإخوان والأقرباء، فسلكت الطريق إلى الله الكريم وحدك، فإن صبرت على
خشونة الطريق أياماً يسيرة واحتملت الذل والمداراة مدة قصيرة، وزهدت في هذه
الدار الحقيرة أعقبك الصبر أن ورد بك إلى دار العافية، أرضها طيبة ورياضها
خضرة، وأشجارها مثمرة، وأنهارها عذبة..» .