عبد الرحمن عبد الله
أنزل الله كتابه وأرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليبين للناس غايتهم في
هذه الدنيا، وهي عبادة الله كما أراد [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ، ولله
سبحانه وتعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عبودية في السراء، وله
عبودية عليه فيما يكره، كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية
فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوت مراتب العباد،
وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى.
فالوضوء بالماء البارد في شدة الحرارة عبودية، كما أن الوضوء بالماء البارد
في شدة البرد عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبداً لله في
الحالتين قائماً بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: [أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] [الزمر: 25] وفي القراءة الأخرى: عباده.
فالكفاية التامة تكون مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد
خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه [1] .
وإن من أنواع العبادة التي ركّز الإسلام عليها ونبه إلى أهميتها (ذكر الله عز
وجل) . ومعلوم أن المسلم يبحث عن أفضل الأعمال عند الله فيعمل بها، وقد روى ...
لنا الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث معاذ - رضي الله عنه -
قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم بخير أعمالكم ... وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى يا ... رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل» [2] .
وأما التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فالذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا
جهاد، والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد، أفضل من المجاهد الغافل عند الله
تعالى فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
وقد جاء رجل يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة شرائع الإسلام عليه، وطلب منه ما يتمسك به، ليصل به إلى الجنة، وذلك من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر ... علي فأنسى، وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، وأنا قد كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» [3] .
فهذا الحديث يدلُّ دلالة واضحة على أن الذكر من أهم ما يعين المسلم على
العمل بشرائع الإسلام وفهمها، وعلى الأعمال البدنية كما سيأتي قريباً -إن شاء الله
تعالى- مذكوراً عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
وليس المقصود جميع أنواع الذكر وأوقاتها، ولكن المقصود التنبيه على بعض
أنواعه التي وردت فيها فضائل عظيمة، وذُكرت فيها مثوبة جليلة.
ومن هذه الأذكار، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، حيث
وردت في فضلها أحاديث كثيرة، نذكر ما صح سنده منها، فأولها:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا يضرّك بأيهن بدأت» [4] .
2- أخرج الإمام الترمذي عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم قال: «إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر،
لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة» [5] .
3- أخرج الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث أبي هريرة،
وأبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى- عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ... قال: «إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة ومن قال: الله أكبر، مثل ذلك، ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك،
ومن قال الحمد لله رب العالمين من قِبَلِ نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحطت
ثلاثون خطيئة» [6] .
4- وأخرج الإمام الطبراني عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل
مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد
ما في السموات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على
ما أحصى كتابه، والحمد عدد كلّ شيء، والحمد ملء كلّ شيء وتسبّح الله مثلهن،
تعلمهن وعلمهنّ عقبك من بعدك» [7] .
5- وأخرج الإمام النسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «خذوا جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، ومعقبات
ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات» [8] .
6- وأخرج الإمام أحمد من مسند سمرة بن جندب أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: «خير الكلام أربع، لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» [9] .
7- وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» [10] .
8- وأخرج ابن ماجه والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على غراس، هو خير من هذا؛ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة» [11] .
9- وروى الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقال: يا
محمد أقرئ السلام أمتك، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها
قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .
فانظر يا أخي الكريم إلى ما ورد في فضل هذه الكلمات الأربع، وإلى سهولة
هذه العبادة، أفلا يكون من عرف هذا الخير ثم غفل عنه من أزهد الناس في العمل
الصالح؟ ! بلى والله إنه لكذلك، فلا تكن منهم! .
وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية أنّ لذكر الله أكثر من مائة فائدة ذكر منها في
الوابل الصيب ثمان وسبعون فائدة، نذكر منها اثنتين لأهميتهما، وهما اختصاراً:
الأولى: أن دوام ذكر الرب -تبارك وتعالى- يوجب الأمان من نسيانه الذي
هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب-سبحانه وتعالى- يوجب
نسيان نفسه ومصالحها، فمن نسى الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب
في الآخرة.
وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته،
وغمّه، وهمّه، وحزنه، ما هي إلا عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه
البتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا
يدخل الجنة الآخرة.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس ... من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه،
فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً ويقيناً
وطمأنينة. [12]
الثانية: أنّ الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله
بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه وإقدامه،
وكتابه أمراً عجيباً فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة
وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً. [13]
والمسلم الذي عرف رسالته، يجد من التكاليف والمسئولية الملقاة على عاتقه
ما يأخذ يومه وزيادة، بل إنه يحتاج أن يكون يومه أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وكنت كثيراً ما أتعجب من كثرة ما صنف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله
تعالى- مع سعة علمه، فقلما تمر مسألة إلا وله فيها تصنيف أو فتوى أو رسالة ... أو.. أو.. أضف إلى جهاده في سبيل الله، وسفره، وإلى تعليمه لطلبة العلم، وإلى
مناقشته لأهل البدع، وإلى الحقوق التي لنفسه على نفسه، والتي للخلق عليه،
والتي.. والتي..؟ ! سبحان الله متى تيسر له فعل كل هذا، ومتى تيسر له أن
يتعلم كل هذا العلم؟ !
وإنني لأرى أن من أسباب ذلك بعد توفيق الله له وإعانته، أرى كثرة ذكره لله
أكبر عامل ساعده على هذه الأمور.
هذا.. وفي الختام أحب أن أذكر حديثاً ينبغي لكل مسلم حفظه وتطبيقه، وهو
ما رواه ابن ماجه -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن بسر أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال لهم: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً» [14] .
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك اللهم الإخلاص والصدق في القول
والعمل. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.