في إشراقة آية
[ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
د. عبد الكريم بكار
كان من جملة تسخير الله - تعالى - الكون لهذا الإنسان أن بثّ فيه سنناً تتسم
بالاطراد والثبات والشمول. وهذه السنن مبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات.
وإن وجود السنن رحمة من الله - تعالى - بنا؛ إذ أننا تمكنا بسببها من اختصار
كثير من الجهود التي كان علينا أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه. ولنتصور أن
قانون إحراق النار، أو قانون الجاذبية، أو قانون تغير الحال إلى الأحسن أو الأسوأ
تبعاً لجهد الإنسان وسلوكه لم يكن ثابتاً ولا مطرداً فكيف ستكون الحال إذن؟ !
ومظهر آخر للرحمة في اطراد السنين هو أن التحول في أكثر الظواهر
الاجتماعية يتم ببطىء؛ وعمر الإنسان قصير إذا ما قيس بعمر الحضارات؛ مما
يجعله يبصر مقدمات الحدث دون نتائجه، ونتائجه دون مقدماته وأسبابه. وحينئذ
فإن من السهولة بمكان أن يصاب المرء بغبش الرؤية وضلال الأحكام.
والسنة بتجسيرها للعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل جعلت في إمكان
المسلم أن يعرف النتائج من خلال الوقوف على الأسباب، والمقدمات من خلال
رؤية نتائجها، أي جعلت الأزمنة كتلة واحدة، وهي بهذا الاعتبار تكون قد أمنّت
للمسلم نوعاً من التواصل عبر حقب الزمان المختلفة، فالماضي لم يغادرنا حتى
ترك في حاضرنا ثقافة عصرنا وصفات وراثية محددة وظروفاً تؤطر مساحات
حركتنا اليوم. إن الماضي سيظل يظهر في الحاضر بصورة ما، وإن الحاضر
سيظل يظهر في القابل بصورة ما، وإن فيزياء التقدم عبارة عن حديث الحاضر مع
الماضي عن المستقبل.
السُنَّة: إلتحام بكل الأبعاد..
إذا كانت السنة هي الناموس العام الذي يؤمن الاستقرار والانسجام بين
جزئيات الظاهر الواحدة إذا ما توفرت بعض الشروط الموضوعية فإن هذا يعني أن
المسلم مأمور بعبور الماضي ليفهم جذور حاضره، ومأمور بتجاوز الحاضر ليمد
النظر نحو المستقبل؛ كيما يفقه الخطوة المناسبة. ونجد نصوصاً كثيرة في هذا
الأمر، كقوله سبحانه: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران: 137] . وقوله سبحانه: [قُلْ سِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] [العنكبوت: 20] . إنها دعوة للسير في الأرض والخروج من سجن المكان
المألوف لرؤية خلق الله وإبصار سننه فيه. وبما أن المكان يرث دائماً الزمان فإننا
سوف نبصر من خلال السير في الأمكنة الكثير من الأزمنة الماضية وما خلفته لنا
من آثار خلق الله تعالى.
وقد كانت هذه الأمة تحتل في يوم من الأيام مكان الصدارة بين الأمم؛ فإذا بها
تبحث عن مكان في الذيل، فلا تجد! والخطوة الأولى نحو استعادة بعض ما فات
تتمحور حول بحث الأسباب التاريخية التي أدت بنا إلى هذه الحالة المنكورة. وهذا
يعني أن علينا أن نثابر في قراءة التاريخ المرة تلو المرة حتى نقف على جذور
الواقع الذي نعيشه إذا ما كنا جادين في تغييره نحو الأحسن.
إن ظواهر كثيرة في حياتنا ستظل غير مفهومة ما لم نعد إلى جذورها العميقة
الضاربة في القدم؛ فإذا ما نظرنا - مثلاً - في ظاهرة «ذل المسلم وخضوعه» لم
نستطع أن نفهمها ما لم نعد إلى الماضي، فإذا عدنا رأينا ما يسوِّغ ذلك، فقد صُب
عليه من صنوف التعذيب النفسي والجسدي، ومن صنوف الإذلال والإهانة وسياسة
«اسحق الذبابة بالمطرقة» ما لا يفرز إلا مسلم اليوم!
ذلك باستمرار باسم المصلحة العامة وأمن الأمة والاستقرار العام! ! لكن لا
بد من القول إن انفتاح العالم على بعضه حتى تحول إلى «قرية إعلامية» - كما
يقولون - قد جعل فهم الواقع اليوم أكثر تعقيداً. والسبب أن جزءاً من هذا الواقع
هو الذي يمكن مسُّه، أما الباقي فجذوره وخيوطه ربما كانت خارج أرضي المسلمين
كلها! !
لكن مهما يكن من أمر فإن السنة ترسم لنا المسار العام إن لم تتحفنا بالتفاصيل.
السنة وعلوم المستقبل:
هناك اليوم حركة محمومة في الغرب لدراسة المستقبل، حتى صار لديهم علم
اسمه «علم المستقبل» . وهم يصنفون المستقبل إلى مباشر، وهو يغطي مساحة
زمنية قدرها عام، ومستقبل أقرب وهو يغطي مساحة قدرها خمسة أعوام،
ومستقبل قريب يغطي مساحة قدرها عشرون عاماً، ومستقبل بعيد يمتد إلى نحو
خمسين عاماً، ومستقبل أبعد يتجاوز الخمسين. وهم لخبرتهم الحسنة بالواقع
يستطيعون مد البصر نحو المستقبل في المجالات التقنية والتنموية المادية بصورة
خاصة. لكن لاعتقادهم أن العلم هو الذي يكيف سلوك البشر، وليس الدين فإن
كثيراً من توقعاتهم سوف تكون مخيبة للآمال. وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسالات
والشرائع وما تحدثه من دوائر الاستجابة وردود الفعل؛ وسيظل مستغلق الفهم على
من نظر إليه على غير ذلك.
وإذا كانت وظيفة الإنسان في الحياة هي الالتزام بشرع الله والقيام بإعمار
الأرض فإن القرآن الكريم يحدثنا أن هلاك الأمم الماضية لم يكن أبداً بسبب القصور
العمراني، وإنما بسبب التقصير في جانب العبودية لله تعالى والانحراف عن منهجه. وهذا ما لا يستطيع الغربيون اليوم فهمه؛ ومن ثم فإن كثيراً من دراسات المستقبل
لديهم سيظل جهاداً في غير عدو!
ونستطيع القول: إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام؛ فهو
منذ البلوغ إلى أن يلقى الله - تعالى - يرنو نحو المستقبل بالآخرة - بل يجعله
حكماً في حاضره بكل حركاته وسكناته. وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن
المستقبل، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله - سبحانه -: [إنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] . وكقوله - سبحانه -: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11)
ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً] [نوح: 10-12] .
ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره -صلى الله عليه وسلم- عن أن الفنتة
ستأتي من قبل المشرق، وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم
الفاحشة [1] إلخ.. وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حساً خاصاً بالتعامل مع
الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية؛ فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يقول:
«لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات» وهذا تعبير مركز ينمُّ عن رؤية الأشياء المادية ونهاياتها في لحظة واحدة! !
وهذا عمر - رضي الله عنه - يأتيه خبر فتح خراسان، فيقول للناس في
المدينة: «لا تبدلوا، ولا تغيروا، فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على
هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم» [2] . وهذا هو يؤتى إليه بغنائم «جلولاء» ،
فيرى ياقوته وجوهره، فيبكي، فيقول له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله
عنه -: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟! فيقول عمر: «والله ما ذاك
يبكيني، وتاالله ما أعصى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا
ألقى الله بأسهم بينهم» [3] ! وقد كان ما خافه رحمه الله!
لماذا التعرف على السنن:
السنن ماضية قاهرة، ونحن لا نتعلمها من أجل تغييرها أو تحييدها، وإنما
من أجل الانسجام معها والعمل بمقتضاها وتلافي الاصطدام بها. والسنن مع
جبريتها لا تمنعنا من الحركة؛ إذ إن بين جبرية السنن ووسع المسلم وطوقه
مساحات واسعة تصلح للتحرك والعمل؛ فالقوانين الفيزيائية والكيميائية ثابتة، لكننا
من خلال فهمها استطعنا إيجاد الألوف من الصناعات الكيميائية والفيزيائية مستغلين
ما بينها من خلاف وتنوع.
ومشكلتنا في هذه القضية ذات رؤوس متعددة:
فهناك من هو غارق في الماضي غريب عن الحاضر، فهو يرى مقدمات
الأحداث وجذورها، دون أن يرى النتائج، فهو مغترب أبداً.
ومنا من غرق في الحاضر دون أن يعرف عن بدايات الخلق لأزماته
ومشكلاته شيئاً؛ فهو يدور في حلقة مفرغة لا يرى مخرجاً، ولا يهتدي سبيلاً.
ومنا من شهد جبرية السنن، ولم يشهد مساحات التكليف وإمكانات الحركة،
فوقف عاطلاً عن العمل هاجعاً في إجازة مفتوحة، لكنه أثرى أدب الشكوى من
الزمان والظروف وتواطؤ الأعداء بما لا مزيد عليه! !
ومنا من غرق في الأحلام الوردية؛ فهو لا يرى ما هو كائن لينطلق به إلى
ما ينبغي أن يكون؛ فهذا شاق، ويقتضي عملاً، فوجد أن التعامل مع ما حوله على
ما ينبغي أن يكون أسهل وأجمل فصار إليه!
ومنا من لم يسمع بالسنن فتفكيره إلى الخرافة أقرب، وعلمه بالإرادة الكونية
والإرادة الشرعية هباء، والحياة أمامه بعد واحد ينتهي بطريق مسدود!
واجبنا اليوم:
1 - التركيز في معارفنا العامة على الدراسات التاريخية والنفسية والتربوية
والاجتماعية؛ لنتمكن من استجلاء أكبر عدد ممكن من سنن الله تعالى في الأنفس
والمجتمعات.
2- بلورة مناهج للعمل الدعوي تتناسب مع تلك السنن في أساليبها وأدواتها.
3- تربية أبنائنا وطلابنا على التفكير السنني؛ ليحل محل الأوهام والخرافات
التي عششت في أذهان كثير منهم.
4 - محاولة القيام بتقويم سنني للأحداث الكبرى في تاريخنا والمعالم البارزة
في واقعنا المعاش.
5- القيام بدراسات علمية مستقبلية تعتمد على ما فقهناه من سنن الله تعالى في
حركة الفرد والمجتمع.
وإذا ما فعلنا ذلك فسوف نجد الخلاص من كثير من مشكلاتنا، كما سنجد
ساحات ودروباً للحركة والعطاء. وعلى الله قصد السبيل.