الحركة العلمية
في بلاد الحجاز في العصر الأموي
د. محمد آمحزون
لا يختلف الباحثون المنصفون على أن تاريخ الدولة الأموية في حاجة ملحة
إلى إعادة تقويم وتنقيح ودراسة موضوعية، إذ لا يغيب عن البال أن التاريخ
الأموي كتب في العصر العباسي. ودارس التاريخ لا يخفى عليه ما قام به
الأخباريون الشيعة بوضع كثير من الروايات التي تسيء إلى الأمويين، وما قام به
العباسيون كذلك في سبيل طمس مآثر الأمويين.
ومن أجل ذلك اختلف الباحثون في حكمهم على العصر الأموي بين مؤيد يعلي
من مكانتهم ويرفعهم إلى فوق ما يستحقون، ومعارض لا يرى لهم أي فضل أو
مكرمة، بل يرى في فترة حكمهم صفحة قاتمة في سجل التاريخ الإسلامي الحافل.
لكن باستعمال الميزان الشرعي الدقيق الذي ينزل الناس منازلهم التي يستحقونها
بالإنصاف والعدل، يمكن القول أن التاريخ الأموي كان مزيجاً من المزايا
والنواقص، والمحاسن والمساوئ تيسر لنا فهم التطور الإجمالي لهذا العصر. ففي
الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في باب: (كيف الأمر إذا لم تكن جماعة) ...
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا
الخير من شر؟ قال: (نعم) ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، ...
وفيه دخن) . قلت وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم
وتنكر) [1] .
قال بعض العلماء مثل القاضي عياض والحافظ ابن حجر أن المراد بالشر
الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان - رضي الله عنه - والمراد بالذين تعرف منهم
وتنكر حكام وأمراء بني أمية [2] وهم بذلك خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
ومن هنا ينبغي إعادة قراءة التاريخ الأموي قراءة واعية منصفة تستند إلى
الموضوعية والاستقراء الدقيق؛ فبرغم ما في عصرهم من اضطراب سياسي
واجتماعي وظلم وجور، فإن الحكام والأمراء قد اعتنوا بدعم مسيرة الفتح الإسلامي، وتشجيع العلم، مما سبب تنافساً عظيماً بين العلماء في تحصيل العلوم ونشرها،
والتأليف في مختلف ميادين المعرفة.
التفسير:
عند دراسة الحياة العلمية في بلاد الحجاز في العصر الأموي يستطيع الباحث
أن يتتبع نشوء التفسير القرآني وتطوره في القرن الأول الهجري على نحو أوضح
من كل فروع المعرفة الأخرى. ويرجع ذلك إلى عناية المسلمين بدراسة كتاب الله
في المقام الأول.
وقد تولى الله -سبحانه وتعالى- حفظه بقوله: [إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] [3] . ومن معاني هذا الحفظ أن هيأ له عقولاً ثاقبة، وقلوباً واعية،
وجهوداً متضافرة عنيت بتفسيره، وإيضاح معانيه، وكشف أسراره، وبيان أحكامه. ويعتبر الصحابي عبد الله بن عباس (المتوفى سنة 68/687 م) شيخ المفسرين في
تلك الفترة. فقد كان بحق حَبْرَ الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير [4] . وتعده
الروايات الإسلامية أول المفسرين حتى وصف بأنه «ترجمان القرآن» [5] . ولا
غرابة في ذلك، إذ دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اللهم علمه
التأويل وفقهه في الدين» [6] .
وروى الفَسَوي في تاريخه بإسناد صحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -
قال: (لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل) . وكان يقول: (نعم
ترجمان القرآن ابن عباس) [7] . وذكر هذه الزيادة ابن سعد في الطبقات من
طريق آخر عن عبد الله بن مسعود [8] .
وروى الفَسَوي أيضاً بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: «قرأ ابن عباس
سورة النور، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت» [9] .
ولم يكن ابن عباس - رضي الله عنه - متضلعاً في علم التفسير فحسب، بل كان
ملماً بعلوم أخرى وهي الفقه والمغازي والشعر واللغة وأيام العرب. وكان يوزع أيام
الأسبوع على هذه العلوم حتى لا يحدث على باب بيته الزحام، ومعنى ذلك أنه عني
بها تدريساً وبحثاً.
وقد تتلمذ على يد ابن عباس - رضي الله عنه - جلة التابعين ومنهم: مجاهد
بن جبير، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولاه، وأبو العالية الرياحي، وطاووس بن
كيسان، وعطاء بن أبي رباح، والسدِّي صاحب التفسير، وأبو الزبير المكي
المقرئ، وغيرهم [11] . وذكر الحافظ المزي في التهذيب: أن الرواة عنه مئتان
سوى ثلاثة أنفس [12] .
وبلغ ابن عباس - رضي الله عنه - من مجد التعليم غايته، ذلك أن معاوية
بن أبي سفيان - رضي الله عنه - خرج حاجاً، وخرج ابن عباس حاجاً أيضاً،
ولم يكن له صولة ولا إمارة، فكان لمعاوية موكب من رجال دولته، وكان لابن
عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم [13] .
ومن الملاحظ أن تفسير القرآن لابن عباس كان أول دراسة في علم المفردات
عند المسلمين، إذ كان يتتبع منهجاً فريداً في شرح الكلمات الصعبة والكلمات
المعربة في القرآن الكريم بشواهد من الحديث الشريف [14] وآثار كبار
الصحابة [15] والشعر الجاهلي، حيث شرح المائتي الكلمة التي سأله عنها نافع بن الأزرق - أحد زعماء الخوارج - بشواهد من الشعر الجاهلي [16] . واعتمد من ناحية أخرى في شرح دلالات هذه الكلمات على أحد المخضرمين، وهو أبو الجلد جيلان بن فروة الذي يعد من قراء الكتب القديمة [17] كما ورد في المقتبسات الباقية التي ترجع إليه اسمان ليهوديين أسلما، هما كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وكانا على علم بالعهد القديم [18] .
وتحسن الإشارة إلى أن تفسير ابن عباس كان موضع تقدير العلماء، فقد قال
أحمد بن حنبل: (بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة (عن ابن
عباس) لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً) [19] . ومن آثار ابن
عباس -رضي الله عنه-:
* تفسيره الذي وصل إلينا كاملاً بين دفتي (جامع البيان في تأويل آي القرآن) للإمام الطبري.
* غريب القرآن: تهذيب تلميذه عطاء بن أبي رباح، ويوجد مخطوطاً في
مكتبة عاطف أفندي بتركيا [20] .
* مسائل نافع بن الأزرق (في التفسير) : توجد منه قطع في الظاهرية بدمشق، وفي دار الكتب المصرية بالقاهرة. كما وصلت قطع منه في كتاب الكامل للمبرد، وفي فضائل القرآن لأبي عبيد، وفي الوقف والابتداء لأبي بكر ابن الأنباري [21] .
* مسنده: وهو ألف وست مائة وستون حديثاً، وله من ذلك في الصحيحين
خمسة وسبعون [22] .
* فتاوى: قال ابن حزم في كتابه (الأحكام) : جمع أبو بكر محمد بن موسى
بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتاباً [23] .
وقد ترك ابن عباس عدداً من الطلاب كان لهم أثر كبير في نشر العلم، حيث
أنشأوا - كأستاذهم - عدة حلقات للدراسة كان الطابع الغالب عليها هو التفسير، ثم
سائر العلوم الأخرى كالحديث وأيام العرب والشعر. وكان كل واحد من هؤلاء
مدرسة متنقلة همها التفسير والحديث والفقه. وفي خضم هذا النشاط العلمي المكثف
برزت مدرسة مكة للتفسير التي كان عمادها أصحاب ابن عباس من أمثال سعيد بن
جبير، ومجاهد بن جبر، وطاووس بن كيسان اليماني، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة وغيرهم.
ومن أبرز علماء التفسير في تلك الفترة سعيد بن جبير (المتوفى سنة 95 هـ/ 714 م) . ويعدّ من أكثر التابعين علماً ومكانة، ومن أوائل مفسري القرآن الكريم.
روى ابن سعد والفَسَوي عن ميمون بن مهران قال: «قد مات سعيد بن جبير وما
على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قال: أرى في التفسير» [24] .
حدّث عن ابن عباس فأكثر عنه، كما روى عن ابن عمر وعائشة وعدي بن
حاتم وأبي موسى الأشعري. وقرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وأيوب السختياني
والزهري وغيرهم [25] . وكان ابن جبير من طلاب ابن عباس النشيطين،
يحضر مجالسه ويستمع إلى أسئلة الحاضرين، فيدون أجوبته في الصحف التي كان
يحملها معه إذا ذهب إليه. وكان على علم بالحساب، ولذلك كان الناس يسألونه عن
الفرائض. وكان يجلس لطلاب العلم بعد صلاة الفجر وصلاة العصر يقرأ لهم
القرآن ويفسر لهم [26] .
ومن خلال الروايات التي سردها الإمام الطبري في (جامع البيان) يبدو أن
تفسيره صنفان: أحدهما لغوي [27] والآخر تاريخي [28] تناولا النص القرآني،
ويذكر أنه كان يتعهد تفسيره بالتعديل والتهذيب [29] . وقد اشتهر تفسير ابن جبير، ورواه عنه جماعة من الشيوخ منهم الضحاك بن مزاحم (المتوفى سنة 105هـ/
723 م) [30] .
ومن رواد التفسير في ذلك العصر مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي، شيخ
القراء والمفسرين [31] (المتوفى سنة 104 هـ/722 م) . كان أحد تلاميذ ابن عباس
المقربين إليه، روى عنه فأكثر، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه [32] . كما
روى عن أبي هريرة وعائشة وجابر بن عبد الله، وتتلمذ عليه ابن كثير المقرئ
وابن أبي نجيح والحكم بن عتيبة وغيرهم [33] .
لازم مجاهد ابن عباس وعرض عليه القرآن ثلاث عرضات من أوله إلى
آخره، يوقفه عند كل آية، فيسأله عنها وعن وقت نزولها وأسباب النزول، فيحفظ
ذلك ويكتبه، حتى تكون من ذلك تفسيره المأثور الذي اعتمد عليه الطبري في
تفسيره [34] . ولذلك أثنى عليه قتادة بن دعامة السدوسي بقوله: «أعلم من بقي
بالتفسير مجاهد» [35] . وقال عن نفسه: «استفرغ علمي القرآن» [36] . وقد
غلب على مجاهد الرأي في إصدار الأحكام، ولذلك كان من أوائل أتباع التفسير
العقلي للقرآن الكريم. وفي تفسيره كثير من المجاز وتعبيرات المشبهة، لكن يبدو
أنه أعرض عن ذلك فيما حكاه عنه الأعمش: (ما أدري أي النعمتين أعظم، أن
هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء) [37] ؛ يقصد المشبهة والقدرية ومذهب ...
الجهمية [38] .
وكان بعض تفسيره يؤخذ بتحفظ، وذلك لأنه كان يسأل كثيراً علماء النصارى
وأحبار اليهود، مما جعله ينقل أقوالاً وغرائب في التفسير تستنكر. فقد ذكر أبو
بكر بن عياش أنه استفسر الأعمش بقوله: ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال:
كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب [39] . أما تفسيره فقد وصل إلينا برواية عبد الله
بن أبي نجيح (المتوفى سنة 131 هـ/748 م) [40] .
ومن أوائل المفسرين عطاء بن أبي رباح (المتوفى سنة 114 هـ/732 م) ،
فهو مفتي مكة ومحدثها، ومن تلامذة ابن عباس المشهورين [41] . روى عن
جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو هريرة وعائشة [42] . وتخرج عليه
جماعة من أشهر الفقهاء والمفسرين والمحدثين أخذوا علمه ونشروه في الآفاق،
فكان منهم من نشره في الحجاز، ومنهم من نقله إلى اليمن، ومنهم من أصدره إلى
الشام والعراق، ومن هؤلاء الأوزاعي فقيه الشام، والزهري المحدث، وابن جريج
وأبو حنيفة النعمان وغيرهم [43] .
كما اشتهر في تلك الفترة من بين علماء التفسير محمد بن كعب القرظي
المدني (المتوفى سنة 118 هـ/736م) . وقد قيل إنه من أعلم الناس بالتأويل [44] ...
وكان مثل وهب بن مُنَبِّه قاصاً من القصاص يقص في المسجد [45] ، ولذلك غلب
عليه الطابع التاريخي. ويتضح من بعض الروايات التي ذكرها الإمام الطبري في
تاريخه أن ابن اسحاق استخدم كتاباً للقرظي ذا مضمون تاريخي [46] . ويبدو أنه
كتاب في التفسير يتضمن معلومات تاريخية، لأن الرجل اشتغل بعلم التفسير
والأخبار. وهكذا وجدت أقوال محمد بن كعب القرظي سبيلها إلى تاريخ الطبري
عن طريق سيرة ابن اسحاق وكان هذا الأخير يأخذ أخبار المغازي من رواة أهل
المدينة، فيتتبع غزوات النبي من أولاد اليهود الذين أسلموا، ومنهم القرظي. كما
كان يرجع في أخبار الأمم السالفة إلى أقوال من لهم علم بالكتاب الأول، وكان
القرظي أحدهم. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الأنبياء والرسل، وفي
انتشار الديانة اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في
الحجاز [48] . وقد كان القرظي من المقربين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز
لمعرفته السابقة به حين كان عاملاً على المدينة. فلما ولى الخلافة كان يذهب إليه،
ويتحدث معه في الزهد وفي القصص وفي التفسير الذي اشتهر به [49] .