مجله البيان (صفحة 1224)

نحن والإعلام الغربى

الافتتاحية

نحن والإعلام الغربي

محمد بن حامد الأحمري

كتب أحد أدباء كينيا يصف الحال التي أوصلتهم إليها مرحلة الاستعمار فقال:

(جاؤوا إلينا يحملون البندقية والإنجيل، فأمطرونا بالرصاص، ثم غمموا أعيننا،

ووضعوا أيدينا على المحاريث نقلب لهم الأرض ونزرعها، وبعد عناء طويل فتحنا

أعيننا لنجد بأيدينا الإنجيل وبأيديهم الأرض والثروة، وكنا قد نسينا استعمال السلاح، فنحن اليوم نقلب الإنجيل، ونتقلب في المجاعة والتبعية) .

تلك خلاصة حال المستعمرات التي عانت من عماء طويل ونهب منظم أشد

خطراً على الأمة من الهزائم العسكرية التي تلحق بها مؤقتاً، حيث يهب الناس بعد

ذلك لتغيير ما حل بهم، ولكن هذا التغيير مشروط بوجود الوعي العام لدى الأمة.

وقد سارعت القوى الغربية لإيجاد عوازل كثيفة بين الناس وبين سبل الوعي، وجعلت من الإعلام الذي يفترض أن يكون هو وسيلة التوعية والفهم جعلت منه

وسيلة لاستمرار الجهل والتخلف في دول العالم الثالث حيث يمارس هذا الإعلام

دوراً رئيسياً في تعمية الشعوب وصرفها عن طريق الحق والخير. وكلما تطورت

الصناعة الإعلامية في عصرنا سارع المشوهون للمفاهيم والعقول إلى استخدامها

لكبح وعرقلة طريق الوعي للأمة. وشاهد ذلك ما يحيا عليه المسلمون من مشرق

العالم إلى مغربه من وسائل إعلامية تعرض وتكتب في كل الأوقات مادة واسعة

حول شئون العالم، ولكنه حين يقف أمام هذا الكم الهائل لا يجد الصحيفة التي تهتم

به وبشئونه، ولا يرى ولا يسمع من يعبر عن وجهة نظهره، ولا يسمح له بالتعبير

عن رأيه ولذا فقد صودرت أبسط حقوقه في الرؤية أو السماع أو القراءة. ...

إن إرغام العالم الإسلامي بجماهيره الواسعة على سماع وتقبل وجهة النظر

الغريبة في كل الأحداث لا يمكن أن يجعله قابلاً لها ومُسلِّماً بها، بل إن هذا

الإصرار الغربي الشديد على رأيه في إسماع العالم صوتاً واحداً ورأياً واحداً فقط في

كل مسألة يدفع المسلمين إلى تكوين وجهة نظرهم الخاصة المضادة والتي قد

تنحرف أو يسودها العنف في بعض الأوقات حين لا يتوفر لها حرية الإقناع

والاقتناع وذلك لأن الشعوب الإسلامية أصبحت هامشاً مهملاً لا حق له ولا صوت

ولا رأي.

وإذا سمح بقسط أوسع من الحرية والكرامة للشعوب نضجت عامتها وخاصتها، وأصبح لذوي القرار قدرة ووعي وتوفر للمعلومات أكثر في حال تنوع مصادرها

وتنوع التحليل. ولا يمكن أن توجد لديهم هذه القدرة حين ترى وسائلهم الإعلامية

العالم من خلال المنظار الغربي فقط، ومن خلال زوايا ضيقة يسمح بأن ينظر

الناس من خلالها.

والإعلام الغربي عجوز قديم سبر الشعوب الصغيرة التي تحبو على أبواب

عالم اليوم وتحاول أن تدخل محافله وأن تؤثر في قراراته، ولكن خبراته تحاول أن

تجعل من الشعوب الصغيرة - أو التي هي في طرقها للتصغير لا للكبر - أبواقاً

للحن العام مشاركة في فريق الإنشاد ملتزمة بكل تفصيلات الإيقاع، فهذه الشعوب

آلات صغيرة يجب أن تلتزم بدور هامشي في المهرجان العالمي، وأن تكتفي فيه

بدور المصفق والمشاهد المغبون الذي يكدح وتوضع يده على المحاريث ويغطى

بصره، ثم بعد عناء طال أم قصر تزول الحجب وتكون عاقبته كعاقبة الأفارقة لا

يجد في يديه إلا (النظام العالمي القديم) خرافة يقلب فيها نظره فلا يعرف لها معنى ...

ولا تقيه من حر ولا قر.

واليوم يواجه مسلمو البوسنة المجازر والتهجير وإنهاء الوجود وتصفية دولتهم

التي اعترف بها العالم والأمم المتحدة، ويترقب المسلمون ويقلبون أيديهم فلا يجدون

إلا مؤامرات ومؤتمرات تكون عاقبتها كعاقبة مؤتمر فلسطين أو أسوأ [1] .

لهذا فحقيقة الشعارات والمظاهرات الإعلامية خديعة للضعفاء والمنقسمين. إذ

لا يصنع السلام إلا السلاح والقوة، والقادر على الحرب هو القادر على السلام وهو

الذي يلهي الضعفاء بالخداع والشعارات والضجة الإعلامية ثم يشرب المهزومون

السراب.

إن المسلمين اليوم لا يستفيدون من الانغلاق الإعلامي وإحكام المنافذ ضد

المعرفة أو الوعي بما يدور في العالم، وهم كذلك لا يستفيدون من جعل أنفسهم

مستهلكين فقط للمادة الإعلامية الغربية. فلا بد مع الانفتاح الإعلامي العالمي الذي

يحياه المسلمون اليوم من المشاركة الإسلامية البديلة، بل لا بد من فرض البدائل

وفتح المجال لها مهما بدأت صغيرة واهنة قليلة الأنصار محدودة الدعم، فإنها -

بإذن الله - هي الوارثة وهي التي تملك جذورها في الشعوب المسلمة؛ في قلوبهم

وأيديهم وألسنتهم وأموالهم، فهي لسانهم الناطق ومنبرهم المعبر عن آمالهم، ويمنعنا

نحن المسلمين عن هذه المشروعات المهمة أمور كثيرة منها ما هو بأيدي أعدائنا

ومنها ما نحن سببه، كبخلنا وعجزنا وترددنا وخوفنا من الأعمال المؤثرة. ومتى

تغلبنا على هذه المثبطات في أوساطنا فلا يملك العالم إلا الاعتراف بالصوت المؤثر

والخبر الصادق.

أما أن المسلمين سيستفيدون من الانفتاح العالمي فهذا مما لا شك فيه لأن الله لم

يخلق شراً محضاً. فالمسلمون بواسطة الإعلام الغربي والوكالات الغربية يعرفون

ما يحدث في أرجاء العالم ويتجاوبون معه قدر المستطاع. وحين يرون ما يقوم به

إخوانهم في بلدان بعيدة من عمل لإعزاز دين الله ونصرته فإن ذلك يثير العزائم

ويقوي الآمال ويحث المسلمين أجمعين على تقوية الصلة ومناصرة قضايا المسلمين

على الرغم من انحياز اللغة التي يُنقل بها الحدث. وكثير من قضايا الإسلام

والمسلمين في العالم ما كان للمسلمين أن يعرفوها بسهولة لو لم توصلها لهم أجهزة

الإعلام الغربي على ما فيها من تشويه.

ترسخت لدى الغرب صناعة إعلامية تجعل له تأثيراً وقابلية، ويشارك بدور

أساسي في صناعة القرارات ذلك لأنه إعلام مستقل إلى درجة كبيرة عن نفوذ

الحكومة المباشر، ورقيب عليها وعلى سير عملها بما يخدم مصلحة الشعوب. ثم

هو إعلام تنافسي تتنافس فيه هذه الوسائل على السبق الخبري، والتحليل المؤثر

والأسلوب الجذاب، وبالتالي تحصل الوسيلة الإعلامية على الإعلانات والمال

وجماهير المتابعين لتلك الوسيلة الإعلامية مرئية كانت أو مسموعة أو مكتوبة.

وقد تنافست هذه الوسائل في إعطاء صورة لمجازر المسلمين في البوسنة

وكان لهذه التغطية الإعلامية أثرها العالمي في كشف هدف الصرب وهو إخلاء

أوروبا من الإسلام. وفي هذه المرة بقي القرار السياسي العالمي يلعب بكلمات

الحرب العرقية والعنصرية وتجنب الدخول فيها. وقد كان أحد الصحفيين يحاور (جون ميجر) ليستخرج من فمه كلمة تصف هذه الحرب بأنها حرب نصرانية، ولكنه كان يهرب تماماً من أي إشارة إلى هوية الحرب الدائرة حتى يتجنب ما يبنى على هذا الوصف من موقف سياسي أو عسكري لا يريد النصارى اتخاذه ضد إخوانهم الصرب ويكتفى بإرسال الطعام للقتلى! !

وهذا نموذج للمصطلحات والتسميات التي يتداولها الإعلام من أسلحة الكلمة

المؤثرة، حيث يبتدعون تسميات ومصطلحات جديدة محملة بالمعاني التي يريدون

نشرها.

مثال ذلك مصطلح (الشرق الأوسط) الذي اخترعوه ليكون بديلاً (للمشرق

العربي) ، الذي يعني كون هذه المنطقة الجزء الشرقي من بلاد العرب المسلمين، ...

أما (الأوسط) فإنه يحمل دلالات أخرى منها أن هذه المنطقة للعرب ولغيرهم؛

للمسلمين واليهود والنصارى، ثم هي وسطى بالنسبة لغيرنا وليس لنا. وقد أشيع

هذا المصطلح وقبل به حتى أصبح وكأنه الأصل.

ومن المصطلحات التي يراد نشرها مصطلح الأصولية، والتطرف،

والأيديولوجية، بدائل عن الإسلام ولمزاً للمسلمين. وهذه شنشنة نعرفها من قديم،

منذ وصف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بأنهم صابئون، وأنهم ...

مسحورون، ووصفت أمم أخرى أنبياءها بأشنع من هذا. وهذه المصطلحات من

إشاعة الإعلام الغربي ومن حصائده وسلبياته الكبيرة التي تصغر أمام فوائده.

وقصارى القول إننا لا نملك الغياب عن العالم والحياة ولا أن نجعل من هذا

زمن العض على أصل شجرة ما دام بإمكاننا أن نعمل وأن نؤثر في مسيرة العالم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط ...

الناس ولا يصبر على أذاهم) [2] ، ولا نلجأ للعزلة الإعلامية فهي وهم، بل ... إن استخدام هذه المادة الإعلامية السيئة وإعادة صياغتها في المرحلة الأولى بما يناسب أوضاع المسلمين مطلب ملح حتى يأتي ذلك اليوم الذي نصنع فيه الخبر ابتداءاً.

ولا يفهم من هذا القول أن تكون بيوتنا وحياتنا ساحة للإعلام الغربي، ولا أن

تُسلم الأمة لهذه الهيمنة الإعلامية، فقد نهينا عن الاستماع لأهل الباطل والقعود معهم

حين يخوضون في باطلهم ويستهزئون بالحق الذي معنا. وهم يتربصون بنا

ويخادعوننا ويحاولون الاستحواذ على عقولنا وألسنتنا، وللحق في ليل الظلام نجوم

تهدي ذوي البصائر، الذين لا يقفون في صف من يقول: [إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا

لَكُمْ] وسدوا عليكم الأرض والسماء والأعين والأبصار، ولكنهم من الذين لا

يحزنهم الذين يسارعون في الكفر، وإنما يدفعهم هذا إلى بذل الجهد لإيجاد منابر

للحق جديدة وتدعيم ما هو موجود منها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015