آية من كتاب الله
[وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ]
تساهم الكلمة إلى حد بعيد في إحياء الأمة الإسلامية، وبخاصة إذا ما تسربت
إلى القلوب فاستقرت فيها.. فالكلمة الصادقة الصادرة من القلب تثير عواطف
النفوس، وتحيي موات القلوب، وتدفع إلى التغيير بإذن الله. ومن هنا كان افتقاد
فقه الكلمة وأدب الحوار من الأمور التي تُفقد الدعوات روحها وتأثيرها، وتؤدي
بالمجتمعات إلى التفكك والانهيار. وفي هذا المقال نحاول الوقوف على بعض من
هذا الفقه.. فقه الكلمة..
القرآن ومسؤولية الكلمة:
يقول الله تعالى: [وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ
بَيْنَهُمْ..] ، يقولوا التي هي أحسن (على وجه الإطلاق وفي كل مجال فيختاروا
أحسن ما يقال ليقولوه، بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة، فالشيطان
ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت وبالرد السيء يتلوها، فالشيطان يتلمس من
الإنسان سقطات فمه وعثرات لسانه، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الإخوة
آمناً من نزغاته ونفثاته) [1] ، وهذا من أدب وفقه الكلمة بين المرء وأخيه.
هذا فيما بين المؤمنين، والأمر يتسع ليشمل ما بين المسلمين والمشركين،
فالمؤمنون مأمورون بقول: (الكلمة التي هي أحسن وألا يخاشنوا المشركين)
ذلك (أن الشيطان ينزغ بينهم) : يهيج بينهم المراء والشر، فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد فيأمر الله تعالى عباده أن يقولوا الكلمة الطيبة وألا يصرحوا لهم بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشر، بل يداروهم ويحتملوا منهم.
وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المسلمين فشكوا إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فنزلت الآية. وقيل شتم عمر - رضي الله عنه - رجل منهم فهم به
فأمره الله بالعفو [2] ، (وهو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله، يرحمك الله. وهذا قبل أن يؤمروا بالجهاد) [3] ، وهذا أيضاً من أدب وفقه الكلمة. ...
وربما اتسع الأمر ليشمل المشركين أنفسهم وكأن المعنى: (قل لعبادي الذين
اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد
والإقرار بالنبوة) [4] ، وهكذا يؤكد الله -عز وجل- على أهمية ومسؤولية الكلمة
لما لها من عظيم الأثر في حياة البشرية.
يقول سبحانه: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا]
[الأنعام 152] ، فيأمر الله تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب أو البعيد [5] ، (ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى) [6] .
الرسول القدوة.. والكلمة:
والمتتبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد الأحاديث تتوالى
وتترى في الحض على مكارم الأخلاق وبلوغ التي هي أحسن، ففيها (الكلمة الطيبة
صدقة) [7] ، وفيها الربط بين الإيمان والخير من القول فهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) [8] ،
وفي سيرته الكريمة - صلى الله عليه وسلم - التنفير من إساءة استخدام الكلمة
فيقول - صلى الله عليه وسلم -: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة
الثرثارون , والمتشدقون، والمتفيهقون) [9] ، والقيامة هي التي يعمل ... مخافة السوء فيها العاملون، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحبيب الذي يبغى القرب منه المحبون فكيف لا يحسنون استخدام الكلمة وهي أمامهم وسيلة القرب والنجاة حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجاة: (أمسك عليك لسانك) [10] ، ويقول: (من يتكفل لي ما بين لحييه ورجليه، أتكفل له بالجنة) [11] ، ويقول - عليه الصلاة والسلام-: (أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة
لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) [12] .
هكذا يرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قيمة الكلمة ويثقل ميزانها..
ويبلغ الأمر منتهاه في تحديد مسؤولية الكلمة في قوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما
يتبين فيها - أي يتفكر أنها خير أم لا - يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق
والمغرب) [13] ، وهكذا كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم أحسن،
وإذا صمت أبلغ، حتى كان هذا الخلق هو ما عايشه أصحابه منه فيقول أنس -
رضي الله عنه -: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما
قال لي أفٍ قط، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً..) [14] .
وهكذا ربى أصحابه الكرام فعرفوا للكلمة حقها، وحفظوا لها قدرها، فكان
لسانهم منهم دائماً على بال حتى: (يضع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه-
الحصاة في فيه ويمنع نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول هذا الذي
أوردني الموارد..، وحتى يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: والله
الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان..، ويقول الحسن: ما
عقل دينه من لم يحفظ لسانه [15] ، ويقول ابن عمر - رضي الله عنه -: إن
أحق ما طهر الرجل لسانه، وحتى يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (من مزح استُخِفّ به) . هكذا كانوا، وبهذا حفظ لهم التاريخ تلك العلامات المضيئة
على صفحته. وهكذا يجب أن يكون كل من يريد أن يحمل تبعة التمكين لدين الله
في الأرض.
الدعاة والموعظة الحسنة
إن الله سبحانه يدفع عباده دائماً - والدعاة إليه منهم خاصة - ليقولوا التي هي
أحسن، وأن يتخلقوا بالقول اللين، فنجده سبحانه يأمر موسى وهارون -عليهما
السلام- وهما مرسلان إلى أعتى الطواغيت، أن يتخلقا به فيقول: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] [طه 244] ، (فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا
يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه إنه يوقظ القلب فيتذكر
ويخشى عاقبة الطغيان) [16] ، وهكذا فمن أدب وفقه الكلمة أن تعرف وتحسن كيف تدعو.
ثم الله سبحانه تعالى يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك التوجيه
الكريم، ولمن كان يرجو الله واليوم الآخر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أسوة حسنة. فيقول سبحانه: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل 125] ، فاللسان هو وسيلة البيان، ووسيلة
البلاغ، ولكن لا بد لهذا البيان وذلك البلاغ من أدب وفقه، (والله تعالى يرسي هنا
القواعد والمبادئ ويعين الوسائل والطرائق، ويرسم المنهج لمن كان في موضع
البلاغ.. فمن الحكمة النظر في أحوال الخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في
كل مرة، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها
.. والموعظة الحسنة تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، ذلك
والجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف، ولا إزراء به ولا تقبيح يجعله
يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع
والوصول إلى الحق) [17] .
(وهكذا فالناس دائماً في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة
سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم، ونقصهم.. في حاجة إلى
قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه
ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية، والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا
كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة، وهكذا كانت حياته مع
الناس ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري [ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ] [آل عمران 159] ) [18] ،
أي (فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما لله تعالى) [19] .
فما أحوج الدعاة إلى الله إلى أن يعوا مسؤوليتهم ويحملوا تبعتهم وأن يضيئوا
طريقهم بهديه - صلى الله عليه وسلم -.
كلمة أخيرة
إن الكلمة وسيلة البلاغ، وإن للكلمة لفقهاً.. فعلى من يقف في موقف البلاغ
أن يعي (أن المبلغ عن الله (بين الله وعباده) يجب أن يكون أداة صالحة. ولذلك يقول ابن القيم في قول الله: [واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي] [طه 41] بمعنى الاصطفاء لموسى، قال ابن عباس: اصطفيتك لوحي ورسالتي.
وكون المبلغ عن الله أداة صالحة فإنها لا يجب أن تتجاوز حدود الأداة والسبب، فسببية الدعاة إلى الله تحمي الدعاة من ثلاثة أخطار:
أولاً: خطر الغرور، إذا تحققت الاستجابة. والاعتقاد أن الداعية مجرد سبب
في الهداية يحميه من هذا الشعور.
ثانياً: خطر اليأس، إذا كان الإعراض. ذلك أن الداعية يشعر أنه أدى ما
عليه وأن الأمر بيد الله.
والأمر الثالث: هو خطر الخروج بالدعوة عن موضعها بملاحقة من لا
يستحقون الدعوة، وإهمال دعوة من يستحقون الدعوة.
ويجب على الداعية المبلغ عن الله أن يجمع كل سنن التأثير في النفس
البشرية.. سنة العمل: فلا يخالف قوله عمله، وسنة القدوة: فيكون هو النموذج
العملي للمنهج، وسنة المنفعة: وهو تأليف القلوب وإقامة الحجة مثلما جاء من قصة
أصحاب الأخدود، التواضع ف (أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعجب
جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى
الضعفاء والخصوم بمعنى التحقير والازدراء، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها
مع ظهور فسادها) [20] ، وسنة القوة: إذ أن التخلف والضعف يصدان عن اتباع
الحق [21] .
ويجب على الداعية (أن يتلطف في إبلاغ الحق وأن يمهد له، وإن كان ثمة
شيء فيه شديد الغرابة على واقع الناس ومفهومهم فلا يفجأهم به) ، (فتأمل ذكره
سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر السبيبة وبلوغه السن الذي
لا يولد فيه لمثله من العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من
غير أب، فإن النفوس لما أنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة
سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب) [22] .
كذلك على الداعية أن يتسلل في إبلاغ الحق تسللاً منطقياً فلا يتقدم بأحكام ثم
يأتي لها بحيثيات ولكن يقدم المقدمات فتأتي بعدها نتائجها في غاية اليسر بلا
اعتساف ولا عنت، ثم عليه أن يراعي التدرج في إبلاغ الحق فالتدرج سمة
الجماعة المسلمة في نموها وتأمل قوله تعالى: [كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ] [الفتح 29] [23] ، كذلك على الداعية ألا يكتم شيئاً من العلم، وأن يختار لدعوته ما يناسبها ويحقق أهدافها عن طريق البيان الذي لا يدع الحق
ملتبساً على الناس، وإذا أحس من نفسه عدم القدرة على ذلك أحال من يحدثهم إلى
ما يستبينون به الحق من كتب، أو رسائل، أو عالم يقدر على البيان والبلاغ
المبين، هذا كله من أدب وفقه الكلمة ومسؤوليتها..
أخي الداعية.. قد يكون الحسن أن تدعو إلى الله وإلى دين الله ولكن الأحسن
أن تدعو إليه على بصيرة فتراعي الكيف والحال والمكان والزمان..
ما أحوجنا اليوم لذلك الفقه النادر (فقه الكلمة) حتى يكون لدعوتنا الأثر
الطيب.. وحتى تؤدي كلماتنا وظيفتها الاجتماعية.. ولنكون قبل ذلك وبعده
متخلقين بخلق القرآن الكريم الذي يأمرنا: [.. وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ
أَحْسَنُ..] .