الافتتاحية
عبد القادر حامد
مَنَّ الله على العرب بنعم لا تحصى، وتفضل عليهم بما تحسدهم عليه قوى
الأرض جميعاً، وتتزاحم الدول القوية على حيازته والاستئثار به. ومن ذلك:
الموقع الجغرافي، والخيرات الظاهرة والباطنة، والعنصر البشري النشيط،
والتاريخ العريق، على أن أعظم هذه المنن، وأثمن هذه النعم؛ ما أكرمهم بهم بأن
جعل بلادهم مهبط، وجعل أجدادهم حملة الرسالة الإسلامية إلى العالم. لا شك أن
هذه المنة هي واسطة عقد النعم كلها، وإذا كانت كذلك، فإنها تستحق كل جهد
للمحافظة عليها، وإبقائها مشعّة مرفوعة. والله -عز وجل- يقول في ذلك: [لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ
ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [آل عمران 164] .
لكن هذه الحقيقة البسيطة غطى عليها ما يحجبها، فوقع الناس في الفوضى،
وفقدوا الاتجاه الصحيح، وتركوا للأفكار الوافدة تزيدهم فرقة واضطراباً، وتعيق
حركتهم، وتشغلهم عما هو مهم من إعادة بناء أمتهم، والتحرر مما كبلها، وقيد
خطاها عن العيش بين الأمم كما يليق بها.
لقد استوردنا مفاهيم غريبة، وأردنا تطبيقها في تربتنا، فلم نجن من ورائها
شيئاً نافعاً، بل تركت فينا آثاراً سيئة وزادتنا ضعفاً. ومن ذلك:
العصبية القومية، التي لم تكن مألوفة لنا بالصورة التي جاءتنا من أوربا، فقد
كانت بلادنا مجالاً يختلط فيه الناس على كافة أعراقهم وأجناسهم دون حساسية، ولا
موانع، تظلهم العقيدة الإسلامية واللغة العربية، لغة العلم والثقافة، فتجد العلماء
النوابغ الذين لم يبالوا - حيث ارتضوا الإسلام ديناً ولغة الإسلام رباطاً ثقافياً -
بأصولهم مهما كانت: فارسية، أو كردية، أو رومية، أو غير ذلك. ولكننا قابلنا
حماقة العنصريين من الترك فرددنا عليهم بحماقة توازن فعلهم، وعدو الطرفين -
أوربا - يراقب وينظر، يفرك يديه فرحاً، ويصفق للحماقات المتبادلة.
ولئن كان من دعاة القومية فريق مخلص عنده غيرة إسلامية، وتصدى لدعاة
الطورانية وفَرْضِ التتريك على الشعوب غير التركية؛ وتوخى في ذلك المحافظة
على ما يحاول هؤلاء العنصريون اغتصابه من حق العرب، ويقف عند حد إصلاح
الخلل الذي أحدثه هؤلاء؛ فلم يكن في نية هؤلاء أن ننتقل من تحكم الترك إلى
تحكم الأوربيين، وربما لم يكونوا يدركون أن نية زملائهم ممن يخالفونهم في الدين
هي القضاء على آخر ما يربط المسلم بأخيه المسلم وهو (رابطة الدين) ، ولم ...
تتكشف هذه النيات إلا بعد خراب كل شيء، وبعد أن وضعت أسس وهمية للترابط
والتناصر لم يستفد منها إلا الذين يحسنون العمل في الظلام، ويجيدون أساليب
الالتواء والتآمر: أعني تلاميذ المنصرين، خريجي المدارس التبشيرية، ومن
يرتبطون بالاستعمار وبأسباب كثيرة.
كان من آثار العصبية القومية أن انكفأ العرب على أنفسهم، وقطعوا الأواصر
التي كانت تربطهم بالمسلمين في العالم، واكتفوا بذلك السراب الذي سموه الرابطة
القومية التي لم تثمر في تاريخهم الحديث إلا الهزائم، ذلك لأن هذه الرابطة أراد
مروجوها أن تقوم على أطلال رابطة أكثر أصالة وعمقاً في نفوسهم، وكيف تكون
رابطة وهمية بديلاً عن رابطة أصيلة وعميقة، رابطة ربطها رب العالمين، وحث
عليها خاتم المرسلين؟ ! وانكمش الإسلام إلى أن يصبح شأناً شخصياً لا علاقة له
أبداً بالواقع تقويماً وتصحيحاً، بل حتى أن يكون شأناً شخصياً أصبحت مسألة فيها
نظر، فلا يترك المسلم وشأنه، فلا يستطيع مثلاً أن يلبس ما يملي عليه دينه، أو
ما يجده متلائماً مع ما اعتاده في بيئته، ولا يستطيع أن يمارس شعائر عبادته دون
أن يؤدي ذلك إلى التفرقة ضده واتخاذ المواقف في وجه ترقيته إن كان موظفاً،
ووضع العقبات في طريقه إذا كان عاملاً حراً ... ، وإذا عرفنا أن الإسلام هو دين
الصراحة والوضوح والبعد عن الدهاليز السرية في كل شيء: في شعائره وشرائعه
وآدابه ومظاهره كلها، وأن غيره من العقائد على العكس؛ أدركنا من الخاسر ومن
الرابح في الدعوة إلى أن يكون الدين أمراً شخصياً فقط.
وهكذا تحول المسلم إلى شخص غريب في بلده، يُشَكُّ بولائه إذا عرف أنه
يقوم ببعض الشعائر الإسلامية، وتوزن أعماله وتصرفاته على هذا الأساس؛ لأي
جماعة ينتمي، وبأي شخص يرتبط، ومن أين جاءه التأثير حتى فعل هذا وامتنع
عن ذاك؟ ! وتطرح هذه الشكوك والظنون على الصحافة فلا تكتف هذه الأداة
الخطيرة بتجريمه وتأثيمه؛ بل يلحق التجريم والتأثيم كل من يذكر في سياق البحث
عن المؤثرات والبواعث وتصبح مهمة إعادة الثقة إلى هذه الأسماء والهيئات عملية
مستحيلة، لأنها ضد الزمن وضد التاريخ وضد سير الأحداث، وهكذا يحيا المسلم
حياة انفصام وتمزق يعدو أثره في التشنجات والاحتقانات التي تطفو على سطح
الحياة الاجتماعية، ففريق يلوذ بتحدي المجتمع بكل سبيل، ويتمسك بدينه على
الرغم من كل شيء، وقد تصدر منه خلال ذلك أعمال غير مقبولة تزيد الحرب
ضده وتحرض عليه المجتمع فيزداد هو شعوراً بالنبذ، ويزداد المجتمع ظلماً له،
وفريق آخر يتطرف في خروجه على كل شيء له ارتباط بالدين، ويتمرد على كل
الأعراف حتى ينجو من شعور (المنبوذ) الذي يعيشه الفريق الأول، فترى هذا
الفريق يرتكب كل موبقة للوصول إلى ما يريد، وللحصول على براءة الانتماء
بقليل أو كثير إلى الفريق الأول، لأنه يدرك ثقل تكاليف هذا الانتماء.
ومن الشعارات المدمرة التي استوردناها، الاشتراكية، وفضلاً عن أن هذه
الاشتراكية أثبتت فشلها حتى في بلادها؛ فإن ما يضاف إلى أسباب فشلها الكامنة
في أصلها وأساسها عندنا أنها ظلت شعاراً خاوياً لا يؤمن به أحد حتى الذين
استوردوه، وبقيت شيئاً غريباً عن المجتمع وطاقاته، على الرغم من الدراسات
الكثيرة والطبل والزمر الذي أحاط بترويجها. نعم كان في مجتمعاتنا ظلم، وفيها
فقر، وفيها تسلط، وفيها عدم تكافؤ فرص، وفيها أمراض اجتماعية يصعب
علاجها - كأي مجتمع - ولكن لم يكن فيها صراع طبقات كالذي جاءت الشيوعية
تدعي معالجته.. كانت هذه الاشتراكية المستوردة وبالاً على المجتمع. نعم هناك
فئة أثرت بسبب هذه الاشتراكية وانتقلت من الفقر إلى الغنى ولكن هذه الفئة قليلة
بالنسبة لمجموع الشعب، وغناها لم يحل المشكلة الاساسية بل ولم يلغ الظلم
الاجتماعي، وإنما استبدلنا وجوهاً بوجوه، وأسماءً بأسماء، وزاد الظلم حبتين أو
ثلاث، فأصبحنا ممنوعين من أمور كثيرة لم نكن نمنع منها حتى في أقسى عهود
الاستعمار.
ذكرنا القومية والاشتراكية ونسختها السيئة كمثال، ولا نريد - هنا - محاكمة
ولا إدانة، وإنما نريد أن نشخص الأزمة التي يمر بها المجتمع العربي، ونريد من
الذين ساقونا إلى هذا الواقع الأليم أن يعترفوا بخطئهم ويتواضعوا. ومن اعترافهم
بالخطأ وتواضعهم أن يقروا بوجود أفكار أخرى وناس آخرين يعيشون معهم في
مجتمع واحد، تصيبهم النكسات مثلهم، ويتألمون كآلامهم، وعندهم من الغيرة
والتحرق على واقع بلادهم ما عند هؤلاء.
إن ما تحتاجه الشعوب العربية أن تعيش في سلام لا مع العدو، بل مع أنفسها، وأن تعطى فرصة تستقيل فيها من سفك الدماء ومصادرة الحريات، وتسكن فيها
الثارات والملاحقات، وأن يتنفس الناس شيئاً من هواء الحرية، ويخرجوا قليلاً من
الأجواء الملوثة، أجواء الكبت وعدِّ الأنفاس وتغذية الأحقاد، وحين يتحقق ذلك لا
بد من الاعتراف بأن الإسلام بين العرب ليس شيئاً شخصياً لا ينبغي أن يطلع عليه
أحد، وممارسة ذاتية وجدانية لا علاقة لها بواقع الحياة، لا، الإسلام عند العربي،
أكثر من المسيحية عند المسيحي، وأكثر من اليهودية عند اليهودي، وأكثر من
البرهمية والهندوسية والبوذية عند أتباعها، إنه أكثر بكثير من ذلك، ولا تأتي
أهميته من إدراك معتنقيه فحسب، بل منه هو ذاته كدين، هكذا أراده الله للعرب
الذين تشرفوا به، وأصبح لهم دور بعد أن حملوه للعالمين. وحين يضعونه وراءهم، فيهملون عقيدته ولوازمها، ويعطلون أحكامه، ويلاحقون أتباعه ملاحقة المجرمين
وقطاع الطرق - بل والله إن المجرمين وقطاع الطرق في مكانة من التكريم
والمعاملة يحسدون عليها مقارنة بمعاملة المتمسك بدينه هذه الأيام - نقول: حين
يكون هذا شأن العرب - رسمياً - مع الإسلام لا يضرون إلا أنفسهم ولا يضيفون
إلى ما هم فيه من ضعف إلا ضعفاً، وإلى أزماتهم التي هم فيها إلا أزمات جديدة.
إن ما يسمى بجهود التنمية ومشاريع التطوير لن تجدي شيئاً إذا كان المجتمع
لا يعيش في سلام مع نفسه، ولا يدرك ذاته، ولا يعرف عدوه من صديقه، ولا
يتعامل مع المشاكل والأزمات بعقل وحكمة، ومن الغريب أن في بلادنا كثيراً من
دعاة (العقلانية) وهؤلاء هم الذين يقودوننا حقيقة، وهم النخب المهيمنة - ولكن
تصرفات هؤلاء، وتقويمهم لأنفسهم وغيرهم لا يدركها عقل، ولا تتسق مع حكمة.
إننا نقول بكل الود والهدوء والثقة:
إن تكثير السجون والمعتقلات، وفتح المعسكرات في الصحاري اللاهبة للدعاة
إلى الله، وسومهم العذاب بالمئات والآلاف في أكثر من قطر عربي عار وشنار لمن
يقوم به، وتعطيل لطاقات المجتمع وإهدار لثرواته في سبيل إرضاء نزوات نفوس
مريضة ترى أنها محور الكون، وتخريب للحمة التي لا تبني المجتمعات والدول
والحضارات إلا بها، ولو وفرنا الأموال الطائلة التي تنفق على هذه المعتقلات وما
يتبعها من رواتب موظفين ومخبرين وحراساً ومستشاري تعذيب؛ لوفرنا مصدراً
من مصادر الثروة بلادنا في أشد الحاجة إليه، على أن الخسارة المادية ليست شيئاً
أمام الخسارة المعنوية التي تصيب مجتمعاتنا فتشلها عن الحركة، وتضربها بالشك
والتوجس، فتموت المثل العليا، وتحيا الفردية والأثرة والأنانية، كما هو حاصل
الآن.
إن المجتمعات لا تبنيها الحراسة، ولكن تبنيها الثقة، ولا تقوم على الملاحقة، وإنما تقوم على العدل.