البيان الأدبي
رواية الشعر
ومنهج التربية الإسلامية
د.مصطفى عليّان
لا مراء في أن الغواية وتبعيتها في قول الله -عز وجل-[والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الغَاوُونَ] [سورة الشعراء الآية 224] صفة ذات التصاق بالشاعر وشعره، من
حيث نوعيته المباينة للصدق الأخلاقي، المارقة عن موقف الحق الثابت ومنهجه
المطرد القويم، أو من حيث أهدافه التي تثير الأحقاد، وتغرز الفتن، وتبعث
الغرائز، وترغب في فعل المنكرات، وتهون من ارتكابها.. وما إلى ذلك من
أضرب الفساد وفنون الإغواء.
ولا يبتعد من راوية الشعر وروايته عن تبعية هذه الغواية إذا كان الراوية
رديفاً مشايعاً للشاعر في صفات شعره النوعية، وظهيراً مسانداً لأهدافه الفكرية، إذ
أن الرواية نشاط فكري يتجاوز حدود النقل والضبط والاتقان إلى الاستمالة والتأثير، بما يحكم الرواية انتخابه من شعر، وبما يبرع في استخدامه من وسائل فنية في
عملية التواصل والتوصيل بين المنتج والمتلقي.
ولخطورة هذا المجال الذي يجري فيه نشاط الراوية، خلع عبد الله بن
عباس -رضي الله تعالى عنه- الغواية عليه، وخصه بها حين قال: (الغاوون هم رواة الشعر) [1] .. أما الشعر الذي يحمل الخير ويعضد فعله، أو يزيّن الحق ويرغب في اتباعه، أو يرشد سلوك الإنسان وينظم علائقه مع الناس والحياة
والكون، على أساس من حب المودة، بلا صراع، أو عداء أو قلق أو حيرة أو شك، فإنه مرغوب في قوله، محضوض على روايته وحفظه. فقد كتب عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالي عنه- إلى ساكني الأمصار: (أما بعد فعلموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر) [2] . ...
وإذا كان الحسن الذي هو اسم جامع لكل شرف وفضيلة قد جاء في هذه
الرسالة مجملاً موجزاً، فإن تفسيراً لأبعاده، وتعزيزاً لروايته، نجده في رسالة
أخرى بعث بها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه-، قال فيها: (مُر من قَبلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يحلُّ عقدة اللسان، ويشجع قلب ... الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحضُّ على الخلق الجميل) [3] . ...
ولنا أن نعد هاتين الرسالتين الديوانيتين، الصادرتين عن أمر الخليفة الراشد، وثيقتين هامتين في اعتماد الأدب، خاصة الشعر، عنصراً هاماً في تربية الجيل
المسلم وتنشئته. على أن فيهما ما يرتفع بأهمية هذا العنصر وقيمته في منهج إعداد
الفرد المسلم، إذ قرن التوجيه الرسمي في الرسالة الأولى تَعَلُّم الشعر بمهارة.
الفروسية والعوم، وفي هذا من الوعي بضرورة توازن أهداف المنهج التربوي ما
لا يخفى، فهو كما يهدف إلى إعداد الفرد جسمياً لا يغفل عن تعهده عقلياً وفكرياً
ونفسياً، مهما يكن شأن الحياة الجديدة وتبدل أحوالها، وتدفق خبراتها، وتعدد
متغيراتها الحضارية والاجتماعية.
فرواية الشعر والاجتهاد في تعلمه أمر مستحب في أبسط فهم للأمرية في
مطلب الخليفة الراشد -رضي الله عنه-، وقد يرتفع التوجيه والإرشاد في معناه إلى
منزلة يقترب فيها من الوجوب، إذا نظرنا إلى وقوع الأمر بالتساوي على تعلم
الشعر. واكتساب مرانة عدتي الحرب؛ العوم والفروسية. وقد يرشح هذا الفهم
بالوجوب، أن بعض العلماء عد قسماً من الشعر واجب الرواية لما فيه من الخير [4] .
ولا يزال الحض على تعلم الشعر وروايته أثيراً بأبعاده الأخلاقية وأهدافه
السلوكية عند خلفاء بني أمية ممن وعى هذا المنهج. فقد بعث زياد بن أبيه بولده
إلى معاوية بن أبي سفيان فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالماً بكل ما سأله عنه،
ثم استنشده الشعر فقال: لم أرو منه شيئاً، فكتب معاوية إلى زياد يقول: (ما منعك
أن تُرَوِّيه الشعر فوالله إن كان العاق ليرويه فَيَبَرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو،
وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل) [5] . وفي وصية معاوية لزياد كذلك، أدرك الآثار
التعليمية لرواية الشعر في تحقيق المهارات اللغوية في قوامة اللسان وفصاحة منطقه، والقدرة على تدفق التعبير وطلاقته، ومرونة استيعابه لعمق الفكر، وسعة أفق
العقل، يقول: (روّه فصيح الشعر، فإنه يفصح العقل، ويفصّح المنطق، ويطلق
اللسان) [6] .
أما عبد الملك بن مروان فقد جعل رواية الشعر مقوماً هاماً في بناء شخصية
المتعلم ومظهراً دالا على رفعة منزلته، إذ يقول لمؤدب ولده: (روهم الشعر
يمجدوا وينجدوا) [7] .
وزاد ذلك تنبيهاً إلى إحدى الوسائل المعينة على تحقيق بعض أهداف رواية
الشعر، حين خص بالعناية الشعر الرقيق في لغته، البسيط في تعبيره، قال عبد الملك: (أدّبهم برواية شعر الأعشى، فإن لكلامه عذوبة) [8] ، مصيباً بذلك
أثره النفسي، إذ في سهولته ما يُحسَّن موقعه من القلب، وفي عذوبته ما يعين على عظم غنائه في النفس وسرعة تحصيله في الذهن.
بهذه الأخبار المقتضبة يمكن القول إن منهج تعليم الشعر في القرن الأول
الهجري منهج سلوكي وظيفي، كما يعنى بقوامة اللسان وفصاحة تعبيره، فإنه يعنى
بترشيد سلوك المتعلم وغرائزه. فهو منهج تربوي تكاملي، فيه التعلم والسلوك
قرينان متلازمان، وبقدر ما في هذا المنهج من أصالة، فإن فيه إدراكاً عميقاً سابقاً
لإدراكنا الحديث في أن التعلم القويم النافع هو الذي يترك أثراً في المتعلم؛ سلوكه
وعقله.
النسبة والتناسب في الرواية
ومن المسلمات الثابتة التي لا تمس بحال، أن رواية الشعر في منهج التعليم
لا ينبغي أن تقايس بمحفوظ المسلم من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بل
إن الاقتصار في محفوظ المتعلم على رواية الشعر يوقع في قبح الصنيع الذي جاء
حديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- مصوراً له في قوله: (لئن يمتلئ جوف
أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) [9] .
ويوضح حدود النسبة والتناسب في هذا الأمر موقف علي بن أبي طالب -
رضي الله تعالى عنه- من غالب بن صعصعة وابنه الفرزدق، وقد سأله عن الغلام
فقال: هذا ابني، قال: ما اسمه قال: همام، وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين
وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعراً مجيداً. قال علي بن أبي طالب: (علمه
القرآن فإنه خير له من الشعر) [10] . فقد أحس علي بقصور منهج غالب في تربية ابنه وتعليمه، فضلاً عن مفاخرته وسروره بقرب ولادته الشعرية، فأرشده - منبهاً له على تفريطه - إلى خير ما يملأ قلب ابنه ووجدانه، وأصدق ما يجري على لسانه؛ إلى آيات الله البينات المحكمات. ووقع صدق توجيه أمير المؤمنين في قلب الفرزدق وعقله، فقيّد نفسه وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فكان له ما أراد [11] .
فمن التفريط إذاً أن يقتصر محفوظ المتعلم في منهج التعلم على رواية الشعر،
مهما تكن المبالغة في قيمته الأخلاقية والسلوكية، إلا أن من الإفراط كذلك إهمال
رواية الشعر من محصول المتعلم، لأن للشعر أثراً غير منكر في صياغة ذوق
المتعلم وتوجيه سلوكه والتسامي به.
فقد روي أن معاوية بن أبي سفيان سأل عبد الله بن زياد عما يروي من الشعر
فقال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدرى. قال معاوية: اغرب،
والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً، ما يمنعني من الانهزام إلا
أبيات ابن الإطنابة حين يقول:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جَشَأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر مصالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح [12]
المطلق والمقيد في الرواية
رواية الشعر في مجال التعلم مطلقة غير مقيدة، شريطة أن يكون للراوية
موقف إيجابي مما يرويه؛ لأن هذا الموقف مخرج له من قبول ما يروي من شعر
فاسد أو منحرف في تصوره الفكري. ويستوي في ذلك المعلم والمتعلم، إذ كلاهما
مرتبط بالعملية التعليمية التعلميّة التي من أهدافها عدم قبول المعصية أو التحريض
عليها.
وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر ما دام ملتزماً بالشرط الذي قدمنا والغاية التي
حددنا، فرواية الشعر في مجال التعليم لا تزيد عن كونها ترداداً لألفاظ الشعر
وتكراراً لها، فهي مباحة إذا نبه الراوية على مواضع الانحراف فيها، من كفر أو
فحش أو فساد. ومن نافل البيان أن نلفت النظر إلى أن الوزر في هذا الشعر
المنحرف عن جادة القوامة إنما يقع على قائله لا على راويته.
أما رواية الشعر للمتعة الفنية فقائمة على نوعية الشعر، حيث أن حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فهو كسائر الكلام فما كان فيه لمسلم أذى فهو مما لا يباح روايته،
لأن من قال في الإسلام شعراً مقذعاً فلسانه هدر، ومن روى هجاء مقذعاً فهو أحد
الشاتمين.
وترخص ابن قتبية - وهو من علماء السلف - في رواية ما كان رفثاً
لخروجه عن حدود الإثم، وفرّق بين روايته وما يحرم من شعر جرير والفرزدق
في الهجاء وقذف المحصنات فقال: (وإذا مر في حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو
فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع والتخاشع على أن تصعّر خدّك،
وتُعْرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض
وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب) ..
وأدرك ابن قتيبة بترخيصه رواية هذا اللون من الشعر النزوع النفسي نحوه،
والميل الفطري للطبائع إليه، دون أن يكون في ذلك مساس بدرجة تقوى المرء أو
صلاحه، إلا أنه لم يترك رواية الرفث مطلقة غير مقيدة، بل جعل الرخصة فيه
محدودة بالغليل العارض، وبالرواية التي تنقص رونقها الحكاية، ويذهب بجمالها
التعريض فقال: (ولم أترخص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله
هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية
تحكيها أو رواية ترويها، تُنقِّصُها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن
تجري في القليل على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجيّة، والرغبة
بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزَّهت، وثلموا
أديانهم وتورعت) [13] .
ولا تعارض بين المتعة الفنية والفائدة العلمية، بل لا فصل بينهما في مجال
الرواية، على الرغم من أن المتعة لا تكون كاملة إذا لم تكن خالصة لذاتها؛ لأن
الفصل بينهما أمر مجاف لطبيعة التذوق الأدبي وحقيقة النقد الأدبي، الذي تأتي فيه
الفائدة العلمية نتاجاً حتمياً لتعمد المتعة الفنية.
وإذا كان الأمر بهذا التلازم فإننا نميل إلى القول بأن قيد الموقف الإيجابي
الذي قيدنا به إطلاق الرواية التعليمية يَحْسُن ألاّ يتخلى الراوية عنه في مجال المتعة
الفنية، فقد روى البخاري عن إسحاق قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا الوليد
ابن جميع عن أبي سلمة عن عبد الرحمن قال: (لم يكن أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - متحزقين ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم
ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق
عينيه كأنه مجنون) [14] ، ولا شك أن دوران حماليق العينين موقف تعبيري عن ...
السخط والرفض. ويزيد هذا الأمر وضوحاً موقف عبد الله بن عمر ابن الخطاب
من إياس بن خيثمة حين قال له: (ألا أنشدك من شعري يا ابن الفاروق قال: بلى، ولكن لا تنشدني إلا حسناً، فأنشده حتى إذا بلغ شيئاً كرهه ابن عمر قال له:
أمسك) [15] .
ولما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان الحياء في
شيء إلا زانه، ولا كان الفحش في شيء إلا شانه) [16] ، فقد قال هشام بن عروة: ... (لا ترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطُنَّ في الزنا تورطا) [17] ، ...
وحرص كذلك عبد الله بن مصعب ألا يدخل شعر عمر بن أبي ربيعة على نسائه
تجنباً للفتنة التي بعثها شعره. تقول فاطمة بنت عمر بن مصعب: (مررت بعبد
الله بن مصعب وأنا داخلة منزله وهو بفنائه، ومعي دفتر، فقال ما هذا معك؟
ودعاني فجئته وقلت: شعر عمر بن أبي ربيعة، فقال ويحك! أتدخلين على النساء
بشعر عمر بن أبي ربيعة، إن لشعره لموقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً، لو كان
شعر يسحر لكان هو، فارجعي به، قالت: ففعلت) [18] .
وصفوة القول: إن رواية الشعر بأهدافها المعرفية والسلوكية تحتل جزءاً هاماً
في منهج التربية الإسلامية، وهي مطلقة في التعليم والإمتاع إلا من قيد العقيدة،
الذي يوجب على الراوية أن يبرأ لدينه ونفسه، بموقف ينكر فيه ما انحرف أو فسد
من الشعر المروي.