أفغانستان
درس في السياسة الدولية
د. عبد الله عمر سلطان
في القرن المنصرم ثارت نار الصراع المحتدم بين بريطانيا والقيصرية
الروسية للسيطرة على أفغانستان، كانت الأمبراطورية البريطانية تحصد غنائمها
الهندية بعد سقوط آخر الممالك الإسلامية في شبه القارة.. كما كانت المستعمرات
المرتبطة بالمنجم الهندي الضخم تتهاوى تحت غطاء نيران بوارج الأسطول الملكي
من الخليج وحتى قناة السويس.. في ذات الوقت كانت القيصرية الروسية الأقل
تحضراً والأكثر تطرفاً في برنامجها الصليبي الأرثوذكسي تسعى للحصول على
حصة استعمارية ثمينة بعد نجاحات متراكمة في جمهوريات آسيا الوسطى أو ما كان
يعرف بتركستان ...
وبين الدب الروسي الجائع والمستعمر النهم، كانت أفغانستان هي الحديقة
الخلفية التي تنازع عليها (السارقان) ، فاللص الروسي الطموح يرى في أفغانستان
منفذه على القارة الهندية ومياه الخليج الدافئة التي تجعل من أسطوله قوة مرعبة،
أما المستعمر البريطاني المتمرس فقد كان يرى في سقوط ممر خيبر في أيدي
الروس بداية التسلل إلى المستعمرة الأهم في منظومة منهوباته العديدة (الهند) ....
وحدها أفغانستان لقنت القوتين الظالمتين درساً قاسياً لكل مستعمر زنيم.. فلا
بريطانيا العظمى نجحت في تطبيق قانون الانتداب والاستعمار السائد في ذلك
العصر على هذه البقعة الاستراتيجية، ولا روسيا القيصرية، بكل آمالها
وطموحاتها حققت نجاحاً يذكر في مغامرتها الأفغانية! .
كان قدر الأفغان ببساطتهم وإيمانهم ورجولتهم أن يبرهنوا للعالم الإسلامي
المتهاوي - في تلك المرحلة ولا يزال - أن البارجات والجنرالات والمندولين
الساميين بضاعة تزدهر في وحول المؤامرات ومستنقع أشباه الرجال.. من الذين
تسلموا مقاليد الأمور في سرايا الباب العالي وتصدوا للفكر والسياسة من تلاميذ
الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة وما تلاها من نسل كالح تمثل في حركات حصرت
نفسها في إطار رد الفعل كالثورة العربية الكبرى التي كان يديرها (لورنس) ؛ أسوأ
الأمثلة وأكثرها وضوحاً على إفلاس القيادات التي رحبت بأن تكون دمية (النظام
الدولي الجديد) الذي كان يلوح في الأفق! .
لقد كانت التجربة البريطانية في أفغانستان باهظة الثمن ولم تنته تلك التجربة
وما تلاها من فصول إلا ورياح الإخفاق والانحصار تحاصر (العجوز الإنجليزى)
وترمي بأول سهامها نحو نحره الذي ظل يتلقى النصال المتوالية حتى سقطت
الإمبراطورية العظمى بعد حين! لتصبح بريطانيا من دول الصف الثاني ... أو
الثالث.
هذا المصير المأساوي والنهاية الدرامية كانت من نصيب الدب الروسي بعد
قرن من زمن حينما خاض في الوحل الأفغاني مرة أخرى دون أن يتعظ من سلفه
البريطاني أو مغامرات أباطرته الأوائل!
الأطماع الروسية المستجدة:
كان سقوط الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى على يد لينين نهاية
الأحداث والحروب المتتالية بين الشمال الأرثوذكسي المتمثل بالإمبراطورية الروسية
والجنوب المسلم الذي تراجعت مناعته وقوته حين شاخت سلطنة آل عثمان وبرزت
الدولة الصفوية قوةً رافضيةً متعصبة استطاعت أن تحول إيران وأذربجيان إلى
سواد رافضي تقف على رأسه سلطة سياسية تهدف إلى زعزعة قوة الخلافة
الإسلامية عبر التحالف مع القوى الغربية لاسيما الاستعمارية لا سيما روسيا
القيصرية وبريطانيا ...
وبعد أن استكمل ستالين عمليات الضم القسري لمسلمي بلاد ما وراء النهر
كانت أفغانستان لا تمثل في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية هدفاً مباشراً،
لكن خروج الاتحاد السوفييتي منتصراً من حربه الكونية وما أعقب ذلك من
محاولات مستميتة لتصدير الثورة، وتلميع النموذج الروسي /الاشتراكي أصاب
أفغانستان داؤه ولو بعد حين..
وفي أفغانستان كما في أي قطر إسلامي كانت الفئات التقليدية (المحافظة)
على الوضع لا تدرك مدى شيخوختها وعجزها عن مجاراة النموذج الأيدلوجي
الشاب الذي يقف بجوارها.. كانت هذه الفئة التقليدية المحافظة تنظر إلى يومها ولا
تفكر بغدها..، تعيش هموم اللحظة وتستعر بينها نار الخلافات ويتطاير غبار
المعارك التي تجري من أجل الحصول على منفعة قريبة أو متاع حقير ... ، لم
تدرك هذه الفئات أن (الدين) الذي كانت تمارسه هو مجموعة من الطقوس الصوفية
والأفكار الإرجائية والعادات الاجتماعية التي لا تمت لجوهر الدين بصلة في حين
أنها تسلب هذا المعتقد أصوله وتقتلع جذوره الحقيقية مكتفية ببعض الأغصان ذات
الرائحة الطيبة والطعم المر! وكان ظاهر شاه مستغرقاً في اهتاماته الصغيرة محاطاً
بالفئات التقليدية والمنتفعين بوجوده بينما كانت الشيوعية البراقة آنذاك تشق طريقها
بتؤدة حتى استطاعت أن تستقطب بعض اقارب الملك وحاشيته كرئيس الوزراء
محمد داود ... في الجانب الآخر كانت أمريكا ترقب ما يحدث غير عابئة كثيراً
بتطورات الأوضاع الداخلية في أفغانستان أو بصراع القوى الدائر بالرغم من
المعلومات التي كانت تتوالى من المخابرات الأمريكية في إيران وأفغانستان عن
احتمال استيلاء الشيوعيين على السلطة.. وفي نهاية شهر ديسمبر 1959 وبعد
الانقلاب الشيوعي الأول دخلت أفغانستان بؤرة الاهتمام العالمي بتحولها إلى حديقة
خلفية للصراع المحتدم بين السوفيات وأخذت الأحداث تتسارع والضربات تشتد..
ومرة أخرى، كان ملفتاً للنظر أن قوة محلية صغيرة العدة والعتاد، واسعة
الأمل عميقة الثقة بقضيتها تنتفض على الواقع الثقيل والجحافل المسلحة بأشرس
وأعنف ما عرفته البشرية من آلات الموت ونتاج الدمار ...
في البداية كان اسم المجاهدين مثيراً للتساؤل والغرابة.. حتى من قبل أبناء
الحركة الإسلامية حيث كانت تجربة مجاهدي فلسطين تتحول أمام أنظارهم إلى
مصطلح بشع يتاجر به العلمانيون الفلسطينيون بقضية شعبهم الصبور ... ، وما هي
إلا أشهر قلائل حتى بدأت القضية الأفغانية تجتذب مشاعر وحماس وجهود المسلمين
من كل صقع..، وبعد أعوام قليلة، حينما وقف عبد رب الرسول سياف مخاطباً
مؤتمر القمة الإسلامي بالطائف، كان (المجاهد) عرفات يهزأ به وبطول لحيته
ويقول: (نحن نقف مع الحكومة الشرعية ضد هؤلاء المتمردين المتخلفين! ! ! !) ، كانت كلمات سياف معبرة عن مفهوم جديد لفهم المتغيرات الدولية حيث تستجيب
لتطلعات الشعب الأفغاني وآماله مع التعامل الحذر الذي يرفض الاستجداء
والتوظيف والتحالف مع القوى الخفية التي ترمي إلى استغلال جهد وعرق
المجاهدين، مع ما رافق ذلك من ظهور أمثلة العمالة والخيانة والرضى بالدنيا
متمثلة ببعض المشبوهين الذين لحقوا بقافلة الجهاد وهم المنحرفون منهجاً
والمشبوهون واقعاً.
ثم تكون عليهم حسرة:
(تجد الولايات المتحدة نفسها الآن رغم إنفاقها الملايين من الدولارات على
تسليح المجاهدين الأفغان، لا تملك أي تأثير فعلي على مجريات الأحداث في
أفغانستان مع بلوغ الحرب في أفغانستان عامها الرابع عشر، وأصبح دور الحكومة
الأمريكية التي استمرت في تسليح المجاهدين حتى وقت قريب مقتصراً على توجيه
النداءات بضبط النفس وإصدار بيانات تعرب عن تأييد جهود الأمم المتحدة السلمية، ويقر مسؤولون كبار بوزارة الخارجية الأمريكية بأنه ليس في استطاعتهم فعل
شيء يذكر بخلاف متابعة الأحداث وتمني تحسن الأوضاع! !) . بهذه الكلمات
لخص محلل وكالة رويتر الموقف الأمريكي في خضم الحديث عن النظام العالمي
الدولي الجديد وضرورة تطبيق مبادئ الشرعية الدولية، كما تريد أمريكا أن تفسر،
ويبرز المثال الأفغاني بمثابة الضوء الساطع الذي يعري حقيقة هذا النظام ومراميه،
ففي الوقت الذي تُوجه نداءات النظام الدولي الجديد للخائفين والمرتجفين بضرورة
تدمير هذا السلاح أو القبول الكامل لشروط المنتصرين تبقى بنادق المجاهدين
مشرعة وشامخة ومستعلية لإيمانها العميق وعدالة قضيتها منذ أن حركت جموع
الشعب الأفغاني في ذلك الشتاء القارس قبل 14 عاماً..
كانت خطة سيفان وقرارات الأمم المتحدة نمطاً آخراً ومثالاً شاخصاً لما يسمى
بالنظام العالمي الجديد وتطبيقاته في آسيا.. وها هي الولايات تقف متحفزة ومنتظرة
تطورات الأوضاع في أفغانستان بالرغم من زوال شبح الشيوعية وانتهاء الحرب
الباردة ... ذلك أن المجاهدين الأفغان في خضم معركتهم الكبرى مع روسيا فجروا
لغمين دوليين: انهيار الاتحاد السوفييتي بعد الهزيمة التي أذاقهم أياها أصحاب
اللحى الكثة والأيدي الخشنة والجباه الراكعة وتبع ذلك استقلال جمهوريات آسيا
الوسطى ذات الأغلبية المسلمة وما سيتركه المثال الأفغاني من استقلالية ورفعة
وانتصار ضد كل محاولات الترويض والهيمنة التي تدعي بأنها شرعية دولية أو
أنظمة دولية جديدة.
وبانتهاء الحرب بين المجاهدين والشيوعية أصبحت بصمات هذا الخيار الحر
تمتد وتنمو لتشكل نموذجاً مليئاً بالحياة مبيناً أن ما يسمى بالنظام الدولي الجديد إنما
يقبل الحياة ويرسم مستقبل الشعوب التي تؤمن في لحظة انكسارها وهزيمتها أن
هناك نظاماً مكتوباً ومعداً لهذه المنطقة أو تلك، وأن أفغانستان المسلمة حطمت
خرافة هذه الإدعاءات عندما صبرت وصابرت ورابطت وكسرت مؤامرات السلم
كما شمخت وقت الحرب وعواصفها أمام الضغوط الدولية والإقليمية.. وهذا درس
مجاني في السياسة الدولية والدراسات الاستراتيجية.
يبقى هذا الدرس رائداً حينما ندرك حجم الأخطاء وأثر الخلافات الداخلية
التي رافقت المنحى الإيجابي لهذا النصر التاريخي.. الذي شهد به محلل الوكالة كما
شهد به المفكر الأمريكي كريستفور أوقدين. حينما قال: (منذ عام 1980 أنفقت
واشنطن أكثر من 2 بليون دولار كأسلحة لقوات المتمردين الذين أسقطوا بواسطة
الصواريخ الأمريكية أكثر من 300 طائرة روسية.. لقد حاول الأمريكان أن يقوموا
بنفس الحركة مع ثوار الكونترا لكنها فشلت رغم أن الأفغان كانوا يواجهون الروس
مباشرة، لكن رغم تحقق الحلم بانهزام الشيوعيين في أفغانستان فإن التحدي الآن
هو في موقف المجاهدين الذين لا يشعرون بالمنة والود تجاه أمريكا، وبانهيار
الشيوعية يبقى الإسلام يمثل التحدي في المنطقة، إنه كالخميرة التي ستنضج في
وقت ما وعندها سنجده أمامنا ولا ندري إلى أين ستمتد قامته في وجود الأصوليين
كقلب الدين حكمتيار) ، إن ما قاله هذا المفكر الأمريكي يكشف حقيقة المعضلة حين
تقارن التجربة الأفغانية بتلك الذيلية التي تتلقى الرعاية وتلتزم بالولاء لأمريكا..
كما أنها تزيح الستار عن مدى الحنق والحسرة التي تنتاب المفكرين والساسة هناك
وهم يرون الدعم السابق يحمل في أحشائه التحدي القادم الذي سينفقون ما يقدرون
لاغتياله: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ
تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] .