أحمد بن صالح السيف
إن من نزعات الفطرة البشرية أن الذي أوجدها هو صاحب الأمر والنهي فيها
[أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ] [الأعراف: 54] . الإله المستحق للعبادة والتحاكم إليه
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ] [يوسف: 40] . فإذا ما انسلخت هذه
السمة الفطرية وحُكمّ الطاغوت كما تئن منه بلادنا الإسلامية اليوم كان تمرداً على
حق الألوهية في العبادة، حيث استجابت تلك البلاد للدعاوى الملفقة لإقصاء
الشريعة رغبة في إحلال القوانين البشرية محلها ميممة نحو الغرب الكافر (لاقتباس
ما وضع فيه من قواعد قانونية تعجيلاً بالإصلاح المنشود ونكولاً عن حمل أعباء
التقنين الشرعي فانتشرت وراجت حركة التشريع [*] على حساب الشريعة
الإسلامية حتى تخلفت بهذه الشريعة المرتبة بين مصادر القانون الرسمية فيها
وضاق نطاق إلزامها في العمل ضيقاً كبيراً، كاد يقتصر على مسائل الأحوال
الشخصية أو حتى على بعضها الوثيق الصلة بالشخص كمسائل الزواج والطلاق
والنسب [1] .
إذ طبيعة شعوبها المغلوب على أمرها تحتم ذلك ولا يضيرهم هذا الجانب إذا
طبق فيه الشرع لكونه لا يؤثر على مبتغاهم لعلمنة التشريع الإسلامي وتغييبه عن
الواقع [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ
خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ] [البقرة 85] .
من مسالكهم النفاقية ودسائسهم أنهم إذا ما وافق باطلهم وقانونهم شرع الله
أذاعوا به ورفعوا عقائرهم بأنهم مصلحون وفق الشريعة الاسلامية (فإذا جاء الحق
معارضاً في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه
دفع الصائل، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق
أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة
والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصراً لهم وكان لهم
صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته أغراضهم واهوائهم
[وإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وإن يَكُن لَّهُمُ
الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [النور: 48-50] [2] ، وبهذا المسلك
أقصيت الشريعة الإسلامية بأردية مستعارة مبيتّين أفكاراً ودسائس علمانية ويدرؤن
بذلك الشبهة عن انفسهم بدعوى الإصلاح والتقدمية ومن جهة أخرى يصمون بخبث
ودهاء شرع الله بالرجعية، وهذا طعن بحق الله [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ]
[البقرة 11-2] .
إذ يغالون في اعتبار المصلحة ويقدمونها على النصوص الشرعية القطعية،
وهذا شأن كل مغرض يسعى لمحاربة الله وتسمية الإفساد إصلاحاً إذ (يؤدي ذلك
إلى تعيل النصوص التشريعية بنظر اجتهادي عقلي محض، ولو جاز أن تتقبل أمة
من الأمم هذا الرأي على إطلاقه في تشريعها وتسمح به لرجال الحقوق أو القضاء
في اجتهادهم لسادت الفوضى في العمل بالشريعة والقانون فمن تراءت له مصلحة
النص الشرعي عمل به ومن تصور أن المصلحة بخلافه نبذه وفي ذلك منتهى
الفوضى) [3] كما أن واقعنا اليوم يعيش في هذه الحقيقة، فالمصلحة المعتبرة هي
ما جاءت وفق ضوابط شرعية مبسوطة في كتب الفقهاء والأصوليين (فالمصالح
المعتبرة شرعاً أو المفاسد المستدفعة إنما تعتبر حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية،
وذلك أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا
لله) [4] يحكمونه في كل شؤونهم الحياتية، وإذا ما دعوا إلى المحاكمة العقلية
الشرعية جحدوا الحق واستيقنته أنفسهم ظلماً وعلواً وأظهروا الإحسان والتوفيق
[إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَاناً وتَوْفِيقاً] [النساء 62] . وهذا خداع منهم أنهم ما أرادوا بهذا العمل إلا الإحسان في المعاملة والتوفيق بينهم وبين خصومهم فهم (يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هذا عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته، إنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب [**] التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة، إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين هي هي دائماً وفي كل حين) [5] وقد يستغلون هذا التلفيق المسيس للقضايا والمسائل الشرعية الموافقة لأباطيلهم وتضليل الشعوب بإقامتها وإقرارها برداء المصلحة الدنيوية والأخروية إذ المعتبر هو جهة المصلحة الشرعية التي هي عماد الدين والدنيا لا ما تمليه أهواءهم ونزعاتهم العدوانية وقد كفانا الله مؤونة فضحهم في كتابه العزيز (والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين والدنيا وأتم نعمه فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا قد حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد أمرين لازم له إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة) [6] .