من هدي السلف الصالح
حسن حسن إبراهيم
المحاجة وإقامة الأدلة لها طرق ومسارات تصل بصاحبها إلى الحق، وتكشف
وجه المسألة من أقرب طريق، فإذا تجاوز الحوار بين طرفين هذا الحد، خرج إلى
حكايات وتفريعات لا تنضبط بقواعد محكمة، ولا يحدها تسلسل منطقي من
الاستدلال.. فتدرر المحاورات في حلقات مفرغة وتتفرع إلى منزلقات ومتاهات
فيتمزق الموضوع.. والسبب هو ترك الأمور المحكمة إلى متشابهات الأدلة.
إذا تبين لك ذلك فلا تعجب إذا رأيت كل مبتدع يستشهد على بدعته بدليل
شرعي ينزله على ما وافق هواه، فإن هذا الأمر قد ثبت في الحكمة الأزلية فقد قال
تعالى: [يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً] [البقرة 26] . لكن إنما ينساق له من
الأدلة المتشابه منها لا الواضح، والقليل منها لا الكثير، وهو أدل الدليل على اتباع
الهوى، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق، فإن
جاء ما ظاهره الخلاف فهو النادر القليل، فكان من الصواب رد القليل إلى الكثير
والمتشابه إلى الواضح.. ولكن المبتدع يأخذ الأدلة تبعاً لهواه ومن شأن الأدلة أنها
جارية على كلام العرب، ومن شأن كلام العرب الاكتفاء فيه بالظواهر، وقلما تجد
من كلامهم نصاً لا يحتمل، وكل ظاهر يمكن أن يصرف عن مقتضاه ويُتأول على
غير ما قصد فيه، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بمقاصد الشريعة وأصولها كان الأمر
أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع، فإذا غلب الهوى أمكن
انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أريد منها.
أما السلف الصالح فهم يتبعون الأدلة منقادين لها باسطين لها يد الافتقار، فهم
إذ سلكوا على الجادة يجدون جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي
بحثوا عنه فيتبعون هذا المحكم. وأما ما شذ عن ذلك من متشابه فإما أن يردوه إلى
المحكم، وإما أن يكلوه إلى عالمه، ولا يتكلفوا البحث عن تأويله. ففيصل القضية
بين أهل البدعة وأهل السنة هو قوله تعالى [فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [آل عمران 7] . ولما قرأ - صلى الله عليه
وسلم - هذه الآية قال: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمىّ
الله فاحذروهم» رواه مسلم [1] .
فما هو الحكم والمتشابه؟
* المحكم: هو الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره، فهو قائم بنفسه، لا
يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو: [ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ] ، [وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن
تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] ، [طه 82] ، [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ] [النساء 48] ، [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً..]
[الأنعام 151] [2] . بل إن معظم القرآن آيات محكمات لقوله تعالى: [هُوَ الَذِي
أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ] وأمّ الشيء معظمه وعامته
ولذلك كان القرآن بيان للناس وكان أيضاً حجة الله عليهم.
* المتشابه: هو ما أشكل معناه ولم يُبين مغزاه [3] .
وهو قسمان:
أ - المتشابه الحقيقي: وهو ما لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه. ولا شك أنه
قليل لقوله تعالى: [.. مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]
فالمحكم هو الغالب والمتشابه هو القليل النادر [4] . ومثاله:
1- الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه.
2- الحروف المقطعة في آوائل السور.
3- ماهية الروح ووقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى
وما إلى ذلك [5] .
ولا يتعلق بذلك تكليف سوى مجرد الايمان به لقوله تعالى: [والرَّاسِخُونَ فِي
العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] . والتشابه في هذا القسم راجع إلى الأدلة.
ب - المتشابه الإضافي: هو ما بينته الشريعة ولكنه تشابه على الناظر فيها
لتقصيه في الاجتهاد أو لزيغه عن طريق البيان اتباعاً للهوى. فلا ينسب الاشتباه
هنا إلى الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه [4] . ومثاله:
1- ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي وإن كان في نفسه
ظاهر المعنى لبادي الرأي كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله:
[إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ] فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة، وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان، وهو ما ذكره ابن عباس من أن الحكم لله تارة من غير تحكيم، وتارة بتحكيم، لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله، فتأملوا وجه اتباع المتشابهات، وكيف يؤدي إلى الضلال والخروج عن الجماعة، ولذلك قال: ...
(فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) [6] .
2- الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعمومات من غير تأمل - هل
لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق أو خاصاً فيُعم
بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذا المسلك رمي في عماية واتباع للهوى في
الدليل، وذك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد فإذا قيد صار
واضحاً [7] فإذا قيل مثلاً: (إن البيع موجب لنقل الملكية) فلا يكون ذلك لأي بيع
فيه غرر أو ربا، وإذا قيل: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلا يكون ذلك لأي
قول فإن هذا خلاف المعلوم من دين الإسلام فالمنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت
الجاحدين لها من الدرك الأسفل من النار، ولكن المقصود هو القول التام [8] الذي
يستلزم أثره من تركٍ للشرك والتزام بشرائع الإسلام، وكذلك أيضاً قوله تعالى:
[إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً] يُرجع فيه إلى قوله تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ] وقوله: [وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] وينضم
إلى ما سبق الأخذ بالمنسوخ من النصوص دون ناسخه، وبالمجمل دون مبينه،
وبالظاهر المتشابه دون مؤوله، فكل هذا من اتباع المتشابهات.
3- الأخذ بقضايا الأعيان وحكايات الأحوال التي قد تخالف بظاهرها أصولاً
مطردة مقررة واضحة في الشريعة. فهذا معدود من المتشابهات التى يتُقى اتباعها
بل يجب ردها إلى هذه الأصول المحكمة وتنزيلها على مقتضاها. ومثال ذلك أن
مرجئة العصر الحديث عندما وقفوا على قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمه - أبي
طالب - إذ حضرته الوفاة: (أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)
[البخاري] ، قالوا: الإسلام كلمة والنجاة من الخلود من النار بكلمة لا شيء بعدها
ومن أثبت شيئاً معها فهو من الخوارج. ومعلوم من الملة الإسلامية أن من مات
يشرك بالله شيئاً دخل النار وأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع قولهم لا إله
إلا الله، وأن القرآن قد دحض هذه الشبهة: [أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] .
وختاماً نحذر من هؤلاء الذين يُعتقد فيهم أو يعتقدوا هم في أنفسهم أنهم من
أهل العلم، ثم تراهم يهدمون كليات الشريعة ببعض جزئياتها - اتباعاً للمتشابه،
وتركاً للمحكم، وانتصاراً لرأيهم - فإن الحامل لهم على ذلك هو بعض الأهواء
الكامنة في نفوسهم، مع الجهل بمقاصد الشريعة، واستعجال نتيجة طلب العلم.
وعلى من طلب خلاص نفسه أن يثبت حتى يتضح له الطريق، فإن العاقل لا
يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا
مخلص له منها إلا أن يشاء الله [9] .