إذا كانت هناك مشكلة في العالم الإسلامي ففتش عن الإنكليز، هذه المقولة
تنطبق تماماً على السودان الذي استعمر من قبل بريطانيا في نهاية القرن التاسع
عشر، كما انطبقت على فلسطين وباكستان، وكل مشاكل الحدود بين دول العالم
الإسلامي ... فالإنكليز لم يخرجوا من السودان إلا بعد أن تركوا فيها مشكلة قابلة
للتفجر، لقد أقفلوا جنوب السودان عن شماله حتى يتعمق شعور الانفصال عند
الجنوبيين، وفي هذه الأيام ونحن نسمع أنباء سقوط مدن الجنوب وتحريرها من
حركة التمرد التي يقودها الصليبي جون قرنق لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء
لنرى كيف بدأت هذه المشكلة، ولماذا؟
نبذة تاريخية:
في عام 1898 احتل الإنكليز السودان وقد أدركوا للوهلة الأولى أن الصلة
بين شمال السودان العربي المسلم وجنوبه الوثني سيؤدي آجلاً أو عاجلاً إلى انتشار
الإسلام بين صفوف الوثنيين، ولذلك أقدم هذا المستعمر الذي عرف بخبثه وذكائه
على عزل الجنوب، فعمد إلى تشكيل فرقة عسكرية من أهل الجنوب وإبعاد الجنود
من أهل الشمال، ثم طردوا التجار الشماليين وقد صدر بذلك منشور رسمي يقضي
بترحيل جميع التجار الشماليين باعتبارهم مسلمين ويخشى من تأثيرهم على أهل
الجنوب. بل منعوا الجنوبيين من ارتداء ملابس أهل الشمال أو التكلم بلغتهم،
والأسوأ من هذا كله هو منع الشماليين من الدخول للجنوب فأصبح السوداني الذي
يرغب في زيارة الجنوب يحتاج إلى إذن من الحكومة، وقد صدر في هذا قانون
المناطق المقفلة في عام 1930 وفيه أعطت المادة (22) للحاكم العام اعتبار الجنوب
منطقة مقفلة سواء للسودانيين أو غيرهم، وهكذا أغلق الجنوب في وجه الدعوة
الإسلامية، وفتحت أبواب التبشير بالنصرانية فجاءت إرساليات من أمريكا
واستراليا وكانت تعمل في وسط قبائل (الدينكا) .
وماذا بعد الاستقلال؟
عندما شكلت أول حكومة انتقالية برئاسة إسماعيل الأزهري بدأ أول تمرد في
السودان عام 1955م، وذلك نتيجة الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس الجنوبيين، وفي عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود استمرت الإرساليات النصرانية في بث
روح الكراهية لأهل الشمال، فحاولت الحكومة الحد من نشاطها واعتقلت بعض
القساوسة الذين ساهموا في كتابة المناشير المناوئة لحكومة السودان، وفي عام
1962 م بدأت حركة تمرد بقيادة (ويليام دينغ) وذلك على أثر توقيع اتفاقية المياه
مع مصر، واستمر هذا التمرد حتى عام 1965 عندما عقد مؤتمر المائدة المستديرة
وانتهى بإعطاء الجنوب الحكم الذاتي في إطار سودان موحد، ثم كانت حركة التمرد
الثانية بقيادة (جوزيف لاغو) واستمرت حتى عام 1972 وانتهت بتوقيع اتفاقية
أديس أبابا في عهد جعفر نميري، وبسبب هذه الاتفاقية انفصل جون مرنق عن
حركة جوزيف لاغو متهماً إياه بمسايرة الشماليين، واستمر قرنق في تمرده مستغلاً
ضعف وميوعة الحكومات السودانية المتعاقبة ومستغلاً مشاكلها الاقتصادية والسياسية.
ومن أهم مطالب حركة التمرد - كما صرح أحد قادتها (لام كول) في مؤتمر
كينيا الذي عقد برعاية الرئيس الأمريكي كارتر - استبعاد الدين نهائياً عن الدولة،
ومن الأهداف الرئيسية لبعض فصائل التمرد الانفصال التام للجنوب.
أما حركة التمرد التي يقودها قرنق منذ عام 1983 فقد تجاوزت هذا إلى
قضية تحرير السودان كله ليصبح دولة علمانية اشتراكية - كما جاء في البند
العشرين، الفصل السابع من دستور الحركة: (إن الجيش الشعبي لتحرير السودان
يقاتل لتأسيس سودان اشتراكي موحد، وليس جنوب السودان منفصلاً) . كما جاء
في البند الثاني والعشرين فقرة (ج) : (إن قوة الجيش الشعبي ستنمو وتتعاظم
لتصبح قوة تقليدية قادرة على تحطيم جيش السودان الرجعي) إذن هو ضرب
الإسلام في السودان كله. وقد ساعد حركة التمرد نظام منغستو في أثيوبيا، بل إن
جيش أثيوبيا ساعد قرنق في بعض العمليات العسكرية، كما تلقى قرنق مساعدات
من ألمانيا الشرقية وكوبا ودعم الغرب هذه الحركة، حتى إن وفداً من الكونغرس
الأمريكي التقى بقادة حركة التمرد داخل الأراضي السودانية وبدون الحصول على
تأشيرة دخول، وتدفقت المساعدات على قرنق من البوابات الجنوبية للسودان -
مثل كينيا - كما قدم له الدعم المعنوي بالإعلام الذي يتكلم عن اضطهاد الجنوبيين
إلى آخر هذه النغمة التي يتقنها الغرب.
ودعمت إسرائيل هذه الحركة، وزار قرنق إسرائيل عدة مرات، كما نشط
مجلس الكنائس العالمي بمساعداته وإرسالياته، ومع هذا الدعم فقد كانت الحكومات
السودانية التي تواجه قرنق ضعيفة، فقد سقط نظام نميري، ولم تسقط مدينة واحدة
من مدن الجنوب في يد الحكومة السودانية واحتل المتمردون أكثر من عشر مدن
مثل إبور، منقلا، توريت، نواط. وفي عهد الصادق المهدي ذهب وفد الحكومة
إلى أديس أبابا ليوقع اتفاقية مع قرنق وكان من شروطها إلغاء تطبيق الشريعة
الإسلامية.
تحرير الجنوب:
منذ أكثر من شهر ونحن نسمع أنباء سقوط مدن الجنوب في يد الجيش
السوداني تدعمه قوات الدفاع الشعبي، ولا شك أن إرجاع الجنوب إلى حظيرة
السودان هو رد على التجزئة والتفتيت الذي - يريد الغرب فرضه على الدول
العربية والعالم الإسلامي، كما أن الجنوب أصبح بؤرة للتبشير بالنصرانية ومحاربة
الإسلام، وقد ساهمت قوات الدفاع الشعبي في القتال ومن أشهر العمليات التي
خاضوها: الفجر الصادق، والوعد الحق، والمغيرات صبحاً التي دخل فيها
عنصر الخيل لأول مرة، وقد يواجه الجيش صعوبات كبيرة عندما يبدأ موسم
الأمطار الصيفية وتتحول الأرض إلى مستنقعات وبحيرات. وربما تلجأ الدولة إلى
المفاوضات ولكن من موقع المنتصر القوي، إن إرجاع الجنوب وتوحيد السودان
عمل جيد وبشتى المقاييس فهو على الأقل سيعطي السودان فرصة لعملية التنمية
والبناء.
إن ذلك سيعطي السودان دفعة قوية نحو الاستقرار السياسي والتنمية ومن ثم
سيساهم بإذن الله بنشر الإسلام في الجنوب الذي هو بوابة السودان على أفريقيا.