مجله البيان (صفحة 1133)

العقيدة الإسلامية تاريخ النشأة وعوامل التدوين

العقيدة الإسلامية

تاريخ النشأة وعوامل التدوين

عثمان جمعة ضميرية

ألمحنا في العدد السابق إلى أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا

بحاجة إلى تدوين العلوم في العقيدة والشريعة وغيرهما، فقد كانوا يتلقون من النبي

الكريم مباشرة، في كل ما يتصل ويتعلق بأمور الدين والدنيا، والقرآن الكريم

يتنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصقل النفوس ويزكيها، ويربي الأمة، ويعالج ما يطرأ من مشكلات، ويجيب عن التساؤلات، ويحمل المؤمن على

الالتزام بالأوامر الإلهية، فيتم التفاعل مع النصوص الشرعية: قرآناً ناطقاً، وسنة

عملية حادثة.

- 1 -

وكان الجيل الأول على عقيدة نقية صافية، ببركة صحبة النبي، -صلى الله

عليه وسلم-، وقرب العهد بزمانه، ولما فُطِروا عليه من سليقة تمكنّهم من الفهم بعد

التلقي، فالقرآن الكريم يتنزل بلغتهم التي يفهمونها وتجري على ألسنتهم كما جري

الدم في عروقهم، مما جعلهم جميعاً على عقيدة واحدة لا يختلفون فيها، رغم ما قد

يقع بينهم من خلاف في بعض الأحكام الشرعية العملية الأخرى.

وقد كان الصحابة يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمر العبادات وما

يتعلق بها مما لله تعالى فيه أمر أو نهي، كما سألوه عن أحوال القيامة والجنة والنار

ولم يكن أحدهم يسأله عن معنى ما وصف الله به نفسه في كتابه وبما أوحى إليه من

الصفات الإلهية، كما أن أحداً منهم لم يفرِّق في الصفات بين كونها صفة ذات أو

صفة فعل، وإنما أثبتوا لله تعالى صفات أزلية تليق بجلال الله تعالى وعظمته،

فأطلقوا ما أطلقه الله تعالى على نفسه الكريمة مع نفي مماثلة المخلوقين، ولم

يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا. ولم يكن أحد منهم يستدل على وحدانية

الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بغير كتاب الله تعالى،

وما عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا المناهج الفلسفية المتأخرة [1] .

ففي الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته، يستدلون بقول الله تعالى: [قُلْ

مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ

المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] [يونس: 31] …

[مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ

عَلَى بَعْضٍ] [المؤمنون: 91] ... وأمثال ذلك من الآيات.

ويستدلون على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمثل قوله تعالى [قُل

لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [الإسراء: 88] . وأما اليوم الآخر والبعث فيستدلون عليه

بمثل قوله تعالى: [وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ

رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ…] [يس: 78-79] .

لهذا كله لم يكن الصحابة والتابعون بحاجة إلى تدوين علم العقيدة أو أصول

الدين، وإلى ترتيب مباحثه كتباً وأبواباً وفصولاً، كما نجد اليوم مثلاً.

ثم جدّت بعد ذلك أمور اقتضت تدوين مسائل العقيدة في علم مستقل،

وتضافرت على هذا جملة من العوامل الداخلية والخارجية.

وفي هذه المقالة إشارات إلى ما نحسبه مؤثراً من العوامل الداخلية في نشأة

التدوين وتطوره بالنسبة لعلم العقيدة، لنخصص بعد ذلك مقالة أخرى - إن يسر الله

تعالى لنا ذلك - للعوامل الخارجية.

-2-

التحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى بعد أن ترك في هذه

الأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبداً: كتاب الله وسنة رسوله. وكان كتاب الله

تعالى محفوظاً بحفظ الله تعالى، جمعه الصحابة في صدورهم وكتبوه في الصحف،

على ما كان متيسراً من وسائل الكتابة، ليكون ذلك وسيلة لتحقيق وعد الله تعالى

بحفظه، مع وسائل أخرى، فتوفر لهذا الكتاب الكريم ما لم يتوفر لأي كتاب آخر

غيره سماوياً كان أو غير سماوي.

أما الحديث وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم تدوّن رسمياً في عهد

النبي -صلى الله عليه وسلم- كما دون القرآن الكريم. وكان أول من فكر بجمع

السنة وتدوينها: عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وقام الإمام الحافظ ابن شهاب

الزهري بتدوين ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما

كان مختلطاً بأقوال الصحابة والتابعين. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل

الزهري، في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، مع ضم الأبواب بعضها

إلى بعض في كتاب واحد - على ما فعله الإمام مالك في (الموطأ) والبخاري

ومسلم في «صحيحيهما» وأصحاب «السنن» في كتبهم [2] .

وبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب مثل: باب الإيمان، باب

العلم، باب الطهارة، باب الطلاق.. باب التوحيد، باب السنة، وهكذا.

فكأن هذا التبويب للأحاديث، كان النواة الأولى في استقلال كل باب - فيما

بعد - بالبحث والنظر والعناية والتدقيق وبيان الأحكام، فعن أبواب الوحي والإيمان

والسنة والتوحيد.. نشأ علم العقيدة، واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من

الكتاب والسنة. هذه واحدة.

- 3 -

أما الثانية: فقد كان المسلمون عند وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقاً أو أضمر نفاقاً..

وكانوا على كلمة واحدة في جميع أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع

مسائل كثيرة عملية، وكان اختلافهم هذا لا يورث تضليلاً ولا يوجب تفسيقاً [3] ،

لأنه في أمور لا تمس العقيدة وإنما هي مسائل فرعية، ثم هي مما لم يرد بها نص

صريح عن الله تعالى أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو جاءت في بعضها

نصوص مختلفة في ظاهر الأمر.

ثم اختلف الناس في أشياء اتخذها قوم من بعدهم تكأة: إمَّا للطعن في بعض

الصحابة، وإما جعلوها أساساً لنِحلتهم؛ أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي

اتخذوها شعاراً لهم، ثم تعمق الخلاف وأدى إلى نشوء جماعات متفرقة.

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «اختلف الناس بعد نبيهم -

صلى الله عليه وسلم -في أشياء كثيرة، ضلل بعضهم بعضاً، وبرىء بعضهم من

بعض، فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل

عليهم. وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم -صلى الله عليه

وسلم-: اختلافهم في الإمامة.. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» [4] .

وبعد هذا الاختلاف قامت كل فرقة تجادل عن رأيها وتؤيده بالأدلة، وتدفع

رأي الآخرين وترد عليه؛ فوضعت في ذلك كتب ومؤلفات، فكان ذلك من عوامل

نشأة الكتابة والتدوين في هذا الجانب.

-4-

ونضيف هنا عاملاً ثالثاً: وهو: ما نجم وظهر من البدع والانحرافات عن

العقيدة الصافية التي كان عليها جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - بعد سنين من

خلافة علي -رضي الله عنه-.

وقد تتبع المقريزي -رحمه الله- نشأة هذه البدع ورصد سيرها منذ حدوث

القول بالقدر، وتبرأ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من أصحاب هذه البدعة، وحدث أيضاً في زمنهم: مذهب الخوارج وقد ناظرهم ابن عباس واقام عليهم

الحجة. وحدث في زمنهم مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب والغلو فيه، وقام في

زمنه عبد الله بن سبأ وأحدث القول بوصية الرسول لعلي بالإمامة من بعده، وابتدع

القول بالرجعة بعد موته.. ومنه تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة.

ثم حدث بعد عصر الصحابة مذهب جَهم بن صفوان في نفي الصفات وإثارة

الشكوك والشبهات. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، وكانت بينهما مناظرات

وفتن كثيرة متعددة أزماتها [5] ..

ولما ظهرت هذه البدع، وقف علماء السلف وأهل السنة دون عليها ويحذرون

منها، ويوضحون أصول العقيدة، ويدعون للتمسك بالكتاب والسنة. فكان ذلك

واحداً من الأسباب والعوامل التي ساعدت على تدوين العقيدة الإسلامية في كتب

خاصة.

- 5 -

وهناك عامل رابع كان له أثر في تدوين العقيدة، وهو اختلاف طبيعة المنهج

الذي سلكه المسلمون بعد عصر الصحابة في التفكير والفهم لمسائل الألوهية والعقيدة

بعامة، نشأ عنه الانشغال ببعض المشكلات التي لم تظهر مبكرة، أو لم يكن هناك

ما يدعو للانشغال بها أو التعمق في بحثها والتفكير فيها. ونشأ عن هذا ظهور كثير

من المشكلات والقضايا التي شغلت الفكر الإسلامي، وكان لها أثرها في نشوء

الفرق والكتابة حيالها.

كان موضوع التفكير في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة -

رضوان الله عليهم - هو موضوع الألوهية وما يتفرع عنها. فقد وصف الله تعالى

نفسه في القرآن الكريم وعرفنا بدلائل قدرته. كي نعبده ونسلم له؛ وصف نفسه

باعتبار ذاته: بأنه الأول والآخر، والظاهر والباطن.. وغيرها من الصفات التي

تدل على أن الله تعالى غني بنفسه محيط بكل شيء، أبدي واسع القدرة..

وباعتبار صلته بمخلوقاته: بأنه الخالق المبدئ المعيد، والبارئ المصور،

إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه - سبحانه - الخالق المدبر الحكيم الذي لا

قوة ولا سلطان غير سلطانه في الوجود. وباعتبار علاقته بالإنسان، وصف نفسه

بأنه الرحمن الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وباعتبار علاقة

الإنسان به وصف نفسه بأنه: المهيمن والهادي والوكيل.. وغيرها مما يدل على

احتياج العبد لربه تبارك وتعالى وخضوعه له.

كان ذلك الاعتقاد في وضوحه ونصاعته عنوان الجماعة المسلمة، به يبشرون

وعنه يدافعون، يتلقون ذلك بالتسليم دون تفتيش عن المتشابه أو تأويل لما يظن أنه

بحاجة إلى تأويل. ولكن الأمر بعد ذلك بدأ يسير على نحو آخر، فحاول المسلمون

فهم العقيدة وشرحها على نحو آخر وعلى منهج يختلف عن منهج الصحابة، وشغلوا

بالبحث عن حقيقة الإيمان وكنهه، وعن مسؤولية الإنسان وحدودها، وعن إرادة

الله التي هي فوق كل شيء..

وعندئذ جدت مسائل، وتكونت في العقيدة مشاكل، وحاولوا أن يوجدوا لها

حلاً، وكلما تأخر بهم الزمن واشتد اختلاطهم بغيرهم.. كلما تعددت المشاكل الأولى

التي نشأت في جماعتهم، وضموا إليها جديداً من المشاكل والآراء، وازداد - من

أجل ذلك - تشقق الأمة إلى شيع وأحزاب.

ظهرت مسألة الصفات، وهل هي عين الذات أو غيرها؟ .. وظهرت مسألة

القدر، وهل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر، وهل هو مسؤول..؟ وكذلك مسألة مرتكب

الكبيرة: هل هو مؤمن أم كافر؟ ومسائل أخرى كالإمامة، وحقيقة الكفر والإيمان

وغيرها. وعن البحث في هذه القضايا وأمثالها نشأت في الجماعة الإسلامية فرق

وأحزاب: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة [6] ..

وذهبت كل فرقة تدافع عن رأيها ومعتقدها، وترد على المخالفين لها،

وتزيف ما يعتمدون عليه من دلائل.. فكان هذا من العوامل التي دفعت بأهل السنة

إلى الرد على تلك الغرق، فنشأت الكتابة في العقيدة لبيان الحق ورد الشبهات.

وإذا كانت هذه العوامل والأسباب كلها عوامل داخلية نابعة من داخل المجتمع

المسلم، فإن هناك عوامل أخرى خارجية تحتاج إلى إشارة لا يتسع هذا المقال لها،

فنرجئها إلى عدد قادم بإذن الله تعالى.

- يتبع -

طور بواسطة نورين ميديا © 2015