تاريخ
د. محمد بن صامل السّلمّي
الحدث التاريخي: هو فعل الإنسان، بما يحمله من أفكار وتصورات، وما
لديه من قدرات وإمكانات، وما يعتمل في نفسه من الرغبات والشهوات، ومن القيم
والفضائل والاعتقادات في زمان ومكان من هذا الكون الفسيح المحكوم بمشيئة الله
وعلمه وقدرته..
من خلال التعريف يتضح أن أركان التفسير التاريخي هي: الإنسان، الزمان
والمكان، المشيئة الإلهية.. وتفسير التاريخ هو معرفة التصور الصحيح عن هذه
الأركان وإدراك العلاقة الصحيحة بينها..
إن من يملك التصور الصحيح ويرجع إلى المصدر الحق يستطيع أن يفسر
تاريخ البشرية كله، لأن المصدر الحق (الكتاب والسنة) وضح لنا السنن التي تسير
في إطارها الأحداث، ويحكم من خلالها الأمم والدول والأشخاص..
إن هذا الكون -بما فيه الإنسان وفعله - هو خلق الله، فلا بد من الرجوع إلى
الخالق لفهم هذا الخلق؛ وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق لهداية البشرية،
نجد السنن واضحة، والاتجاهات محدّدة..
ففي أول سورة من المصحف تقرأ قول الله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ] وكل ما سوى الله عالم، وأنت واحد من هذا العالم، إذن أنت تنتمي إلى عوالم كثيرة فسيحة، وأنت مدعو إلى التعرف على رفقاء الطريق.. كيف بدءوا؟ وكيف ساروا.؟ وإلى أي شيء انتهوا.؟ وحين تتقدم في القراءة تجد نفسك في قمة الزمان ونهايته، الذي هو وعاء التاريخ وغايته ومصير الجميع [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] فما بدء الزمان ومنطلق التاريخ؟ وكيف سار إلى هذا المصير؟ وإذا ازددت في القراءة تجد نفسك أمام اختيار حاسم لسبيل واحد من بين سبل متعددة
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] فإما صراط مستقيم قد سلكه قبلك أخيار من الرسل
والصديقين والشهداء والصالحين.. وإما سبل متعددة منحرفة ومتعرجة سارت فيها
أمم من المغضوب عليهم والضالين ومن قلدهم وسلك منهجهم حتى دخل جحر
الضبّ وراءهم.. وأنت مدعو للتعرف على ذينك الطريقين، طريق الاستقامة
والهدى، وطريق الضلال والهوى..
وأن تعرف الأطوار التاريخية لتلك الأمم وتقلباتها ومصائرها والسنن الربانية
التي حاقت بها.. وأن تعي حركة التاريخ حتى تكون على بصيرة بمواقع خطوك
وسيرك في هذه الحياة.. إنك مدعو للتعرف على الزمان بأبعاده الثلاثة: الماضي،
والحاضر، والمستقبل القريب والبعيد..
وإذا أخذت في قراءة السورة التي تلي الفاتحة تجد في أولها الحديث عن
الإنسان الذي هو فاعل الحدث وصانع التاريخ.. وأن الناس على ثلاثة أقسام:
* المؤمنون.. ولهم صفات واضحة محددة، ولهم منهج وطريق [الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] [البقرة 3-5] . أفلحوا لأنهم سلكوا الصراط المستقيم الذي أمروا به
في السورة السابقة.
* الصنف المقابل هم الذين كفروا، وبسبب جحودهم وتركهم للصراط
المستقيم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة. فهذه
الحواس ووسائل المعرفة لما انحرفوا بها ولم يحفظوها عاقبهم الله بأن سلبهم المقدرة
على الاستفادة الصحيحة منها..
* الصنف الثالث متردد بين الصنفين، وهم المنافقون، وقد أطالت الآيات
في وصفهم للحاجة إلى بيان حالهم حتى لا يتلبس أمرهم على المؤمنين بسبب ما
يظهرون من دعوى الصلاح والاستقامة وأنهم مع المؤمنين، وحقيقة أمرهم أنهم
لضعف نفوسهم وجبنها عن مواجهة الحقيقة يريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلاً ...
ثم يأتي الحديث في السورة عن أصل البشر وبداية خلقهم وسبب خروج أبيهم
من الجنة وإسكانه الأرض، وما طلب من ذريته، ويتكرر الحديث عن هذه المسألة
في سور أخرى حتى تتضح بداية التاريخ، ولا يكون الأمر معمي عن الناس
فتتلاعب بهم الأهواء والظنون والأوهام، والحفريات والآثار والاجتهادات القاصرة.
ثم يدعوك ربك وخالقك إلى وعي التاريخ وأحداثه، قال تعالى: [قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران
137] .. والسير في الأرض على نوعين:
* نوع أفقي على امتداد الزمان والمكان لمشاهدة الأحداث والآثار، وأخبار
الأمم وتقلبات الأحوال بهم، ورؤية المصائر التي انتهوا إليها، أي النظرة الشاملة
إلى مسار التاريخ الإنساني كله؛ هذا السير نوع من المشاهدة الفاحصة والملاحظة
الواعية والمقصدة، وليس مجرد الاستقبال السلبي التكراري لصور الأحداث
وتعاقبها..
* ونوع يتجه نحو العمق، ويتمثل بالتبصر الواعي بالكيفية التي حدثت بها
الأحداث، والبحث عن الأسباب والدواعي والنتائج القريبة والبعيدة، وهو الموجه
إليه بقوله [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] فالنظر المطلوب هنا هو بالبصائر
والعقول، وليس بالعيون الباصرة فقط.. ولذا نعى المولى على الذين لم يستخدموا
ما وهبهم من وسائل وقدرات فقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ] [الحج 46] . بل هم يوم القيامة يعترفون حين يرون الحقيقة ماثلة أمامهم
بأنهم لم يسمعوا ولم يعقلوا وإلا لما وصلوا إلى هذا المصير [وقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [الملك 10-11] .
إن القصص القرآني عن الأمم السابقة والرسل المرسلين إليهم هو الذي يبين
لنا مجرى التاريخ البشري منذ فجر البشرية الأول وحتى حاضرها ومستقبلها ونهاية
تاريخها ومصيرها بعد الحياة الدنيا.. ومن خلال السنن الربانية في كتاب الله وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه، ونعرف عوامل
البناء والأمن والاستقرار والبقاء، وعوامل الهدم والخوف والسقوط والتدمير؛ وأن
هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد
والشرك؛ فإذا أتى الإنسان بالأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب
خير السنة الربانية ... وإذا أهمل الأمر وخالفه وارتكب المنهي عنه ووقع في حدود
الله أصاب شر السنة الربانية..
قال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد 11] . وقال تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال 53] .
وقال تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ
مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [آل عمران 165] .
هذا هو المنهج الذي يفسر به تاريخ البشرية كلها: الوزن بميزان العقيدة
والإيمان ... [قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا
أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] [الأنعام 104] .