مفهوم الحرية
عند الفقهاء والمحدثين في القرن الثاني
بقلم د. مصطفى السيد
ما هي الحرية؟
هل هي أن تفعل ما تريد بلا مانع أو تقول ما تشاء بلا رادع؟
تختلف النظرة إلى الحرية وإلى الأحرار من مجتمع إلى آخر، ومن مدرسة
فكرية إلى أخرى، وكثيراً ما تجدّ تطورات اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك لتمد
التعريف بأضواء كاشفة، أو بقيود جديدة.
وما من شك في أن للحرية مقوماتها القانونية ومكوناتها الفلسفية والتي بدونها
لا تعد شيئاً لدى المذاهب الفكرية المعاصرة.
وغني عن القول أن معرفة الحرية - ثقافياً أو نظرياً - غير ممارستها وإن
كانت الأولى أصلاً في تحقق الثانية.
وإذا ما تأصل مفهوم الحرية في مجتمع ما فسيكون تأصله مطابقاً ومساوياً
لمعنى الوجود والحياة، وبدونه تبقى الحياة الإيجابية معطلة، ووجود مثل هذا
المجتمع يكون متساوياً مع وجود سقط المتاع من الأشياء.
والمجتمع الذي يؤثر الحرية سيحرسها حراسة المحبة، بينما العبيد يحرسونها
حراسة الخوف، والمجتمع الحر هو الذي يختار ويشارك فيما يمس وجوده فرداً أو
جماعة.
وفي موضوع الحرية يحلو للكثيرين أن يجعلوا من النموذج الغربي -
أشخاصاً وأفكاراً - أساساً للانطلاق في أي بحث عن الحرية، ويرى هذا الفريق -
المأسور أو المبهور بحضارة الغرب - أن كل كلام في الحرية يعارض كلام الغرب
وكل تصرف لا يضارع تصرفه لا يؤذن له بالدخول إلى حلبة - الفكر السامي -.
وهذه الشنشنة نجد أشباهاً لها ونظائر في عالم الأدب - ولا سيما الشعر - فلن
يلج الشعر رتاج [1] العالمية ولن تسلّم للشاعر مفاتح الأدب الخالد إن لم يبلغ القلق - على المصير - منه الحلقوم، وتأخذ الحيرة بمجامع نفسه وأن يكون الرمز بل
(اللغز) هو أخص لوازم هذا الشعر فلا يفهمه إلا نفر قليل وحبذا لو استعجم فهمه
حتى على قائلة! ! ! ومن لم يرزق هذه النعم قذف ب (التقليد - والكلاسيكية -
والعمودية) إلى آخر ما هنالك من التسميات.
وإذا كان المفكر الملحد شرقياً كان أم غربياً يبحث عن إجابات للأسئلة التي
يفرضها عليه خواؤه الروحي وغروره المادي فإن المسلم - بفضل ما أنعم الله عليه
من رؤية سليمة - لا يعيش أزمة الوجود بل أزمة الوجودية.
فوجوده محدد المعالم والأهداف - بداية ووسطاً ونهاية - من أين وإلى أين،
أما وجوديته فهي مجال كفاحه، وكل تحد أياً كان مصدره ومهما كان هدفه يعد محكاً
لاختيار حرية المسلم.
ومن هنا فإن موضوع القدر لا يحتل المساحة الواسعة في الهموم الإسلامية
المعاصرة إذا ما قارنا ذلك بما يشغله هذا الموضوع من طاقات في الفكر الإلحادي.
* * *
بانتهاء الثلث الأول من القرن الثاني الهجري (132هـ) أطلت الدولة العباسية إلى الوجود، وقد قامت على أنقاض دولة بني أمية، وإذا كان الصراع العسكري قد حسم الأمور لبني العباس فإن الصراع الثقافي لم يتحقق فيه انتصار كبير للدولة الجديدة، وعلى سبيل المثال فإن موضوع خلق القرآن - الذي تبنَّته الدولة بكل قوة بالحوار ثم بالضغط المادي والمعنوي - كشف مكانة الدولة الثقافية وأفقدها ثقة العامة وتأييدهم وبالتالي فقدت جزءاً غير يسير من شعبيتها.
وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل المؤسسة - الجوامعية والمسجدية - التي باتت
تملك من الثبات والأصولية الراسخة ما جعلها نداً لمواجهة كل مُحدث يهدد سلامة
العقيدة الإسلامية كما جعلت الجوامعية والمسجدية الانتصارات العسكرية أقل صدى
وأضأل تأثيراً في فرض قيم سياسية على طائفة من الناس رأت في القرآن والسنة
قبلتها الفكرية وبوصلتها السياسية.
كما أخفقت الدولة - العباسية - في احتواء العلماء وإظهارهم بمظهر الذين
يمنح الدولة الشرعية الفقهية لما تأتي وتدع من أمور، لدفع احتمال التناقض بين
الفريقين ولمنع الاحتجاج والسخط.
لقد شعر المحدثون والفقهاء بأن بعض التحديث والتجديد في سياسية الدولة
سيتم جزء منه على حساب القيم التي يمثلونها والآراء التي يحملونها ولم يكن في
الأمر حلول وسط فإما ركوب الموجة ومنافسة الدولة في مسيرة التراجعات، أو
الاعتزال السلبي في الزوايا والدويرات، أو الوقوف قولاً وعملاً بجانب ما يمثلون
من قيم ويحملون من آراء، ولقد اختار المحدثون والفقهاء التوجه الثالث الذي يعد
امتداداً طبيعياً لتربيتهم، وموقفاً سلوكياً منسجماً مع رؤيتهم الفكرية ولقد رأوا أن
السلطة السياسية تشكل تحدياً للحرية في - أحايين كثيرة - يعد أعظم خطراً من
الخطر الكامن في عبودية الرق، لأن عبودية الرق تعني امتلاك يمين العبد من قبل
الجهة التي تملكه اقتصادياً، وقد تكون حرية عقيدته مصونة، أما السلطة السياسية
فقد تعمل جاهدة على استعباد الأحرار باستعباد الأفكار، ترغيباً أو ترهيباً، ومما لا
شك فيه أن الدولة للعلماء تعني إخضاعهم لا إخضاع جسومهم بل عقولهم وفكرهم
وسلوكهم.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله -:
(لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان (الثوري) فلما دخل عليه خلع خاتمه
فرمى به إليه وقال: يا أبا عبد الله: هذا خاتمي، فاعمل بهذه الأمة في الكتاب
والسنة.
فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: أتكلم على أني آمن؟
قال: نعم.
قال: لا تبعث إلي حتى آتيك ولا تعطني حتى أسألك.
قال: فغضب، وهم به، فقال له كاتبه:
أليس قد أمنته؟
قال: بلى.
فلما خرج حفّ به أصحابه فقالوا:
ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟
فاستصغر عقولهم، وخرج هارباً إلى البصرة) [2] .
ولم تكن هذه أولى محاولات (الإحاطة) بسفيان بل قد حاول المنصور قبل
المهدي فلم يكن أسعد حظاً منه، فقد لقي المنصور سفيان (في الطواف - وسفيان لا
يعرفه - فضربه بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال سفيان: لا، ولكنك قبضت
علي قبضة جبار! ! !
قال: عظني يا أبا عبد الله. قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
قال: فما يمنعك أن تأتينا؟
قال: إن الله قد نهى عنكم، فقال تعالى:
[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] .
ثم التفت أبو جعفر إلى أصحابه ثم قال:
ألقينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فراراً) [3] .
ولم تكن إجابة سفيان الخشنة هي الإجابة الوحيدة التي سمعها أبو جعفر من
العلماء.
قال الإمام أحمد:
دخل ابن أبي ذئب على المنصور فلم يمهله أن قال الحق وقال: (الظلم ببابك
فاش، وأبو جعفر أبو جعفر) [4] .
ولقد كانت الثقافة الجوامعية والمسجدية تثمر في مشرق الدولة ومغربها هذه
الثمار وتنجب أمثال هؤلاء الرجال، الذين يتميزوا بإيثار حرية الرأي وإشهار
وجهة نظرهم ولو دفعوا رؤوسهم ثمناً لذلك.
فعندما قُدم بعبد الرحمن بن أنعم - قاضي إفريقية - على المنصور سأله.
(ما رأيك في طريقك؟ قال: ما زلت في منكر وجور عظيم حتى قدمت
عليك!! فقال أبو جعفر: ما نعمل وما نصنع؟ لا يلي لنا مثلك.
قال له: أتدري ما قال عمر بن عبد العزيز، قال: الملك سوق، وإنما يجلب
إلى السوق ما ينفق فيها) [5] .
ولقد كان هؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين يعون جيداً أن كل أعطية مادية
كانت أو معنوية ليست إلا أغلالاً تقمح بها أفكارهم وتسلسل بها حريتهم، ولذا
تواترت نصائحهم في التحذير من ذلك.
قال الأوزاعي فقيه بيروت - جبر الله كسرها وأقال عثرتها -:
[لو قبلنا من الناس كل ما يعطوننا لهنا عليهم] [6] .
ويقول المحدّث مسعر بن كدام شيخ الإمام مسلم:
[من صبر على الخل والبقل لم يستعبد] [7] .
ويقول محمد بن مبارك الصوري (ت215هـ) :
[كذب مؤمن - ادعى المعرفة بالله - ويداه ترعى في قصاع المستكثرين، ومن وضع يده في قصعة غيره ذلت رقبته] [8] .
وهكذا تسترقهم مطالب دنيوية أو مقتنيات عرضية وكان ذلك - بفضل الله -
سبباً لحرية تفكيرهم وحرية تعبيرهم.
عرّج الرشيد على المدينة وهو في طريقه إلى الحج فبعث إلى الإمام مالك
بكيس فيه خمسمائة دينار، فلما قضى نسكه وقدم المدينة أرسل إلى مالك رسولاً
يقول له:
[إن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدينة السلام - بغداد - فقال مالك
للرسول، قل له: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله) ] [9] .
ولقد ربط الإمام الشافعي بين التعلق بالدنيا والمذلة فقال:
[من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها] [10] .
وفي هذا المعنى يقول بشر الحافي - رحمه الله -:
[من أحب الدنيا فليتهيأ للذل] [11] .
ولقد تعرض الفقهاء والمحدثون لسياسة الدولة الاقتصادية ونقدوا مظاهر
الإسراف والتبذير، فقد قال سفيان الثوري للمهدي بمنى:
[حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً وإني أرى هاهنا أموراً لا تطيقها الجبال] [12] .
* * *
هكذا فقد كان الفقهاء والمحدثون قادرين على اتخاذ موقف ما من القضايا التي
عايشوها والأحداث التي عاصروها، وكان الموت أحد الاحتمالات التي واجهوها،
وكان ذلك أحب إليهم من أن ينوؤا تحت عبء تبكيت نصوص الميثاق الذي أخذ
عليهم بتبليغ العلم وأن يجأروا بكلمة الحق أمام كل أحد.
وربما كان لبعضهم في العافية متسع، وفي التقية ملتجأ، ولكن أحسابهم
الكريمة وقدوتهم العظيمة أبت لهم إلا أن يتابعوا من قبلهم قولاً وعملاً والحمد لله
على عظمة هذا الدين منبع الفضائل، ومبعث العزائم، ومنبت الرجال، ومصدر
الكمال.