خواطر في الدعوة
بقلم: أبو أنس
(في حوار جرى بين الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني، قال
الشافعي: ناشدتك الله، صاحبنا (مالك بن أنس) أعلم بكتاب الله أم صاحبكم (أبو
حنيفة) ؟ قال: بل صاحبكم.
قال الشافعي: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم
صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أم صاحبكم؟ قال: بل صاحبكم.
الشافعي: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس، ولكن من
كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح) (ابن تيمية: الفتاوى 20/328) .
والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الحوار بين هذين العالمين الجليلين أن
الشافعي - رضي الله عنه - رتب الأمور ترتيباً صحيحاً، كتاب الله، ثم سنة
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقوال الصحابة، وهذا الترتيب الدقيق يغفل
عنه كثير من المسلمين في هذه الأيام، بل ربما عكسوا الآية، فيضطرب الأمر
عليهم وتضيع الموازين الحقيقية مع أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء
فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة
سواء فأقدمهم سناً» ، فقدم - صلى الله عليه وسلم -: العلم بالقرآن على العالم
بالسنة، وقدم العلم على العمل.
روى الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أراد أن
يكتب السنن ثم تردد، ثم قال: كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا
قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله
بشيء أبداً. (جامع بيان العلم 1/64) .
أراد عمر - رضي الله عنه - أن يحدد الأولويات وكأنه كان يخشى أن يهجر
القرآن ويضعف العلم به، ويكب الناس على الشروح والحواشي لتصبح هي
المصدر لفهم الإسلام دون القرآن، كما أن الذين أسلموا حديثاً في الشام والعراق لا
تقدم لهم كل العلوم الإسلامية دفعة واحدة، بل لا بد من تربيتهم تربية متأنية تبدأ
بالزصول ثم تندرج بهم إلى الفروع والتفصيلات.
وهذا المعنى يؤكده ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله: (إنما هلك أهل
الكتابين قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا كتاب ربهم) .
إن عدم ملاحظة هذا الفقه الدقيق يجعل المسلمين لا يفرقون بين المهم والأهم، بين الواجب والضروري، بل ربما قدم بعضهم الكمالي على الضروري، وبذلك
يكونون كمن يضع العربة أمام الحصان.