مجله البيان (صفحة 1098)

في دائرة الضوء

التزييف: رؤية ونموذج

رؤية:

ليس أضرّ على أمة من الأمم من أن تُبتلى بمن يزيف وعيها بحقيقة ألدّ

أعدائها؛ وأكثرهم مكراً وكيداً، خاصة حين يكون العداء له جذور في أعماق ثقافتها

عندها وعند عدوها على السواء؛ ضمن سياق طويل من معركة عقائدية عنيفة،

غائصة جذورها في أحقاب قرون طويلة مضت، وممتدة أغصانها في اعتقاد

الأمتين لتغطي الأزمان المستقبلية القادمة. ثم كم هي الخيانة عظيمة حين تمارس

فئة من الأمة التبشير بمشروع عدوها التقليدي، بوصفه حلاً واقعياً لا يمكن إيجاد

بديل يفضله أو يوازيه، مع أن أهون لوازمه -لو كتب له النجاح - فرض إعادة

تشكيل لجغرافية عقول الأمة عن طريق الحذف والاضافة من أجل بناء عقل

(معتدل -واقعي..) يتقن ممارسة الاستسلام الذليل والتخلي عن كل مقوماته الحضارية في مقابل توهمه استعادة جزء من أرضه المغتصبة، بينما هو يقدم أراضيه كلها -بكل ما فيها ومن فيها- لتكون سوقاً كبيراً يستهلك منتجات العدو الفكرية والمادية، ويحقق له تنفيذ اختراق أكبر للبنى الاجتماعية والسياسية لا يقارن بكل ما حدث في السابق.

هذه الصورة القبيحة من الزيف هي المحصلة الوحيدة التي يخرج بها من تابع

ويتابع الإعلام العربي منذ بدأ الحديث بما يسمى بـ (مؤتمر السلام) ، بل كثر

حديث الصحافة العربية عن مرحلة التفكير الواقعي المنتج الذي ارتقى إليها العقل

السياسي العربي، مع مهاجمة لا هدنة فيها لمن أسموهم: المتاجرين بالشعارات ...

القاطنين في رومانسياتهم الحالمة، في الوقت الذي تسوَّد فيه الصفحات بالحديث عن

الشرعية الدولية وما تعد به من خير عميم على القضية الفلسطينية.

وسوف نعتني هنا بتسليط الضوء على بعد واحد من أبعاد الصورة المعتمة،

ليكون نموذجاً بسيطاً للتزييف الذي تمارسه أقلام كثيرة تطالعنا تحليلاتها وآراؤها

التي ترسم بالسواد بياضاً وتجعل من الليل المعتم فجراً واعداً بجنة الحياة الدنيا، بل

والآخرة!

نموذج للتزييف

منذ بدأت مهزلة السلام غرقت الصحف العربية إلى أذنيها في الحديث عن

تغير النظرة الأمريكية إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وعما سيقوم به الحكم

الأمريكي (راعي المفاوضات) من كسر لحاجز التعنت الإسرائيلي، ولما ظهرت

لاءات إسرائيل الأربع، وبدأت المفاوضات، وجاء الموقف الإسرائيلي ملتزماً

بالرؤية التوراتية التلمودية طالعتنا الصحف العربية بتحليلاتها: ما بين مؤكد

لحدوث تدخل قريب من الوفد الأمريكي للخروج من عنق الزجاجة، ومقدم عرائض

المطالبة بهذا التدخل، ومستنكر لتأخره الطويل.

وعلى الرغم من قيام مئات الشواهد التاريخية والواقعية قديماً وحديثاً تؤكد

وحدة المشروع الاستعماري الأمريكي والإسرائيلي، والتقاء المبادئ والمصالح في

مجرى واحد بحيث لا يمكن للحياد أن يجد ثغرة في درب متخم بالحواجز العقدية

والمصلحية، إلا أننا سنغفل كل ذلك وننطق من داخل أروقة المؤتمر نفسه ونتساءل: هل يمكن أن يكون للوفد الأمريكي موقف محايد في المفاوضات الجارية؟ بل:

هل تم تشكيل الوفد بصورة تنبئ عن الرؤية الأمريكية الجديدة التي توهمنا بها

الصحف العربية، والتي لا تنتمي إلى المشروع الإسرائيلي ولا تؤمن به؟ أم إن

راسمي القرار في الوفد الأمريكي مختارون بشكل يجعل منهم وفداً إسرائيلياً آخر في

لباس أمريكي؟

لقد نشرت الصحف العربية -على استحياء! - مواصفات أعضاء الوفد،

فكانت كالتالي [1] :

* دينيس روس رئيس الوفد هو رئيس مجموعة تخطيط السياسة في وزارة

الخارجية الأمريكية، وهو بذلك أعلى مستشاري السياسة الخارجية لبيكر، أمضى

عشر سنوات في التعامل مع القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وتحديد السياسات

الأمريكية تجاهها، وهو ربيب ريتشارد بيرل الصهيوني النشط داخل دوائر

الحكومة الأمريكية وخارجها على مدى السنوات العشرين الماضية، وسأله وفد زاره

في مكتبه عن الرسومات المختلفة لنجمة داود على طاولة المكتب فأجاب أنها من

رسم ابنه.. وصفته جريدة واشنطن بوست (28/10/91) بأن له (معتقدات قوية

مؤيدة لإسرائيل) وأنه (كان لفترة طويلة من مؤيدي إسرائيل الراسخين) .

* دانيال كورتسر نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون التخطيط

السياسي وأحد مساعدي روس الكبار، كان موضوع رسالته للدكتوراة عن (العنف)

الفلسطيني والانتفاضة الإسرائيلية المعتادة، وفيها يعارض استخدام القوة لأنه يعتقد

أن هناك أساليب مضادة للانتفاضة الفلسطينية أنجع مما تقوم به إسرائيل لوقفها،

ويفضل الحوار مع المنظمة لأنه خطوة تسمح للإسرائيليين بإعادة تجميع صفوفهم

والانطلاق بعد ذلك في استخدام الوسائل الأنجع، وهو يهودي ملتزم بالتعاليم

اليهودية كان أثناء خدمته في سفارتي الولايات المتحدة في كل من (تل أبيب)

و (القاهرة) يتلقى الطعام اليهودي الحلال (كوشير) من إسرائيل، وهو يتحدث

العبرية بطلاقة، وله أقرباء في إسرائيل.

* آرون ميلر مساعد آخر لروس ضمن مجموعة تخطيط السياسة في وزارة

الخارجية، وهو يحمل شهادة الدكتوراة في تاريخ الشرق الأوسط، وله كتاباته عن

الفلسطينيين ومنظمة التحرير، ويركز في شكل خاص على الخلافات ضمن

صفوف الفلسطينيين ويؤكد أنها يمكن أن تفضي إلى تداعي التضامن الفلسطيني،

ويعرف عن أسرته في (أوهايو) أنها من أكبر دعاه التبرع للمنظمات الصهيونية،

وسبق أن عاش في إسرائيل وله فيها أقارب ويتقن العبرية.

* ريتشارد هاس، ويشغل منصب مساعد خاص للرئيس الأمريكي لشؤون

الأمن القومي، وكبير مديري شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن

القومي الأمريكي، وغالباً ما يطلق عليه لقب (المحافظ الجديد) وهي كلمة مرموزة

تشير إلى مؤيدي إسرائيل من الداخلين الجدد إلى المسرح المحافظ، والذين برزوا

فجأة في عهد ريجان، وقد درس وعاش في إسرائيل، ويعتبر أن الشرق الأوسط

غير ناضج بعد لحل الصراع فيه.

* ويليام بيرنر: هو العنصر الوحيد في فريق متابعة المفاوضات الأمريكي

الذي ليس يهودياً، ويشغل منصب النائب الرئيسي لمدير مكتب تخطيط السياسة

التابع لوزارة الخارجية الأمريكية.

هذا هو بعض ما نشر من مواصفات الوفد الأمريكي لمفاوضات السلام، وهو

يحل محل بوش وبيكر في حال غيابهما، ويرسم لهما سياستهما في حال حضورها. وسندع الإجابة عن تساؤلاتنا السابقة لأمين سر مجلس الوزراء الإسرائيلي

روبنشتاين فهو يقول [2] : (إن الفريق الأمريكي إلى مفاوضات سلام الشرق

الأوسط المؤلف من خمسة أشخاص، حيث يلتقي وفداً إسرائيلياً من خمسة أشخاص

أيضاً ينقصهم (مينيمام) أي النصاب الكامل (عشرة اشخاص) لإقامة صلاة

يهودية، فتسعة من المجتمعين العشرة يهود) .

ترى أين يعيش هؤلاء الذين يتحدثون عن رؤية أمريكية. جديدة، وحل

سلمي عادل؟ ! أم أنهم قد [جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا

واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015