علي بن الجهم
عرض وتعليق: د. مصطفى السيد
1- قالت: حُبِسْتَ، فقلت ليس بضائرٍ ... حبسي، وأي مُهَندٍ لا يغمدُ
2- أوَ ما رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَه ... كِبراً وأوباشُ السباعِ تَرَدَّدُ
3- والشمسُ لولا أنها محجوبةٌ ... عن ناظريك لما أضاءَ الفرقدُ
4- والبدرُ يُدرِكُهُ السِّرار ُفتنجلي ... أيامُهُ وكأنهُ متجدِّدُ
5- والنارُ في أحجارها مخبوءةٌ ... لا تُصْطَلَى إن لم تُثرها الأزنُدُ
6- والزاعبيةُ لا يقيم كُعوبَها ... إلا الثقافُ وجَذوةٌ تتوقَّدُ
7- غِيَرُ الليالي بادئات عُوَّدٌ ... والمال عاريةٌ يعادُ وينفَدُ
8- ولكل حالٍ مُعْقِبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما يُحْمَد
9- كم من عليلٍ قد تخطاهُ الردى ... فَنَجَا ومات طبيبُه والعوَّدُ
10- والحبسُ ما لم تغشَهُ لدنيةٍ ... شنعاءَ نعم المنزلُ المتَوَرَّدُ
11- بيتٌ يُجَددُ للكريم كرامةً ... ويُزارُ فيه ولا يزورُ ويُحْفَدُ
12- لو لم يكن في السجن إلا أنَّها ... يستذلُّك بالحجابِ الأعبُدُ
شرح الأبيات:
1- عيرتني أن أصبحت رهين الحبس، ولكن كما أن السيف لا عار عليه إذا
أدخل في غمده؛ فكذلك أنا لا يضيرني أن دخلت السجن.
2- ولئن صرت نزيل السجن فلا تعجبين من ذلك، فالأسد قد يأوي إلى غيله، بينما ضعاف السباع وأوباشها تروح وتغدو حرة طليقة.
3- وحتى يرى الناس ضوء الفرقد (وهو نجم صغير) لابد من غياب الشمس، وإلا لما عُرف ضوء هذا النجم. (يشبِّه نفسه بالشمس المحجوبة، وأعداءه
بالفرقد) .
4- وعندما يعود البدر هلالاً آخر الشهر، فليس معنى هذا أنه سيستمر إلى
آخر الدهر هكذا، وإنما سيرجع ليكون بدراً من جديد.
5- والنار، وهى عنصر ضروري للحياة، لا تنبعث شرارتها من الحجر إلا
بعد استثارتها وضربها بالزند.
6- والرماح المستوية لا تصبح هكذا، إلا بعد عملية شاقة، حيث يقوِّم
اعوجاجها الثقاف، وتزال عقدُها بالحك والقطع، ويشحذ نصلها بإحمائه في النار
المتوقدة.
7- ومصائب الأيام ليست مقصورة على أحد، بل تبدأ بواحد وتثني بآخر،
والمال الذي يتباهى به كثير من الناس إن هو إلا عارية مستردة، (وقد أخذ الشاعر
وصف المال من كلمة أبي طالب حين خطب السيدة خديجة -رضي الله عنها- للنبي
-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل،
وعارية مسترجعة) .
8- إن مجيء الليالي بالسراء مرة وبالضراء مرة أخرى سنة ثابتة، وربما
كان الخير فيما تكرهه من الملمات والمصائب.
9- كم من مريض أشرف على الهلاك، ولكنه أبَّل من مرضه، وعوفي من
علته، بينما مات قبله الطبيب الذي عالجه، ومن عاده أثناء مرضه.
10- والحبس منزل كريم، وعنوان فخر لنازله، إن كان دخوله بسبب رأي
أو عقيدة، لا بسبب فعلة شنيعة.
11- فهو بيت يحفز الكريم على التمسك برأيه ويجدد له صبره وصموده،
ويزوره فيه أصحابه ويكرم فيه. (وهذا كان عندنا في العصور الوسطى -التي
يسميها الجهلة: عندنا عصور الظلام-، حيث يكرم سجين الرأي ويزار، أما في
سجوننا التي شيدت في القرن العشرين، هل بنا حاجة إلى وصف إكرام نزلائها؟ !
وهل يجرؤ أهلهم وذووهم على السؤال عنهم فضلاً عن طلب زيارتهم؟ !) .
12- وللسجن ميزات كثيرة عند الشاعر، ولو لم يكن للسجن من فائدة إلا أنه
يكفيك شر الحجاب وسفاهتهم وغلظتهم حيث يدفعون الناس عن الوصول إلى أولي
الأمر، لكانت فائدة عظيمة.
حول الأبيات:
تفردت بالألم العبقري ... وأنبغ ما في الحياة الألم
التحدي مستنبط كوامن العبقرية، ومنبع خبء [1] الذكاء، وكم نازلة حلت
بأمة فكانت نقطة تحول في تاريخها، ومبعث رقدتها من مجثمها [2] ، وكثيرة هي
الروائع الأدبية التي كان الباعث عليها السجن أو المرض، أو ما سواها من
مكدرات العيش ومنغصات الحياة.
والقصيدة التي نقدمها اليوم تسايلت معانيها من ذلكم الوادي، وسُقِيَتْ ... صوب [3] ذاك الغمام.
فمن وراء القضبان أرسل الشاعر علي بن الجهم هذه التأملات المعمقة عن
السجن، وإذا ما سُجنت الأُسْد فهي مخوفة، لا خائفة، وكم من طليق سجين، وكم
من سجين طليق! .
وعلي بن الجهم من فحول شعراء العصر العباسي الأول، تميز عن شعراء
ذلك العصر بعقيدة سليمة، على ندرة ذلك في أقرانه الذين تقاسمت أكثرهم ساحة
الاعتزال مع حلبات اللهو والمجون والانحلال.
وهو أحد رجال الطبقة الأولى من طبقات الحنابلة، وعلى الرغم من أن
المعتزلة والروافض قد انخفض صوتهم في عهد المتوكل، ولم تعد لهم تلك الصولة
التي كانت لهم زمن المأمون والمعتصم والواثق، إلا أن بقاياهم ظلت في دوائر
الحكم بعد ذلك، واستمر تأثيرهم من وراء حجاب، وكانوا لا يفتأون يدبرون المكائد
لخصومهم من أهل السنة، وما حصل لعلي بن الجهم مثال على ذلك، فقد ائتمر به
«بعض ندماء المتوكل وبعض المعتزلة وأصحاب البدع، واجتمعوا على الإغراء
بقتله» [4] .
واختلاب الفرص من قِبَل أهل البدع خُلقٌ ثابت لهم، شأنهم في كل عصر
ومَصر، ولهم أسلوبهم المميز في التخلص من كل حاجز من الحواجز التي تحول
بينهم وبين بدعهم.
وبسبب من هذا الحقد البدعي الأعمى وجد علي بن الجهم نفسه نزيل السجن،
فلم يتضعضع لهذه الصدمة القاسية، بل نجده يضيء السجن بمصابيح عبقريته،
ويمتعنا -على بعد الشقة- بنبل هذا الموقف.
وبالرغم من انحسار المد الاعتزالي، وعودة الأمور إلى نصابها في خلافة
المتوكل، إلا أن ذلك لايعني أن دوائر الحكم العباسي قد كنست كلها، أو صفيت
جلها من عقابيل هذا الفكر التفتيتي التقزيمي، بل بقيت زمرٌ تعمل وراء الكواليس
لتصفية الحساب مع بعض رموز أهل السنة.
ولعل في ذلك إيماءةً تاريخية، وإشارة فقهية لمن يتصدون للبحث التاريخي،
وهي: أن سقوط هيكلية أي فكر لا تعني زواله تماماً.
وفي ضوء هذه المقولة نفهم كيف تمكن أعداء الاتجاه السني من الزج بابن
الجهم في غياهب السِّجن.
وبسبب من شعلة الإيمان التي لم تخبُ جذوتها في فؤاده، وعدالة موقفه،
وشعوره بالظلم الفادح النازل به، اجتمعت هذه الأمور لتكون مصهراً لشاعريته.
إن سجنه كشخص، لم يحبس عواطفه شاعراً، بل أطلق لهذه الأخيرة العنان، لتصوغ لنا هذه الدرة اليتيمة التي تعد من أدب المقاومة للظلم، ومن أدب
الدفاع عن حقوق الإنسان، كما في سطورها من (الحداثة) الحقيقية -وليست الوهمية الغائبة أو المغيبة كما في شعر مُدَّعى الحداثة في هذا الزمن-، فيها
من الحداثة الدائمة التأثير والصادقة التعبير ما يضمن لها حضوراً متجدداً ... وتأثيراً متصلاً.
كما تقول لنا -القصيدة- بوضوح: إن السجن -على ضيقه- بوابة إلى عالم
أوسع، ومرقاة إلى مرتبة أرفع، فقد يكون إحدى مراحل اختبار الإيمان، وتوضيح
الرؤية، وجزى الله الشدائد كل خير ففيها تعرضٌ لثواب الصبر، وإيقاظٌ للقلب من
الغفلة، وادِّكارٌ للنعمة في حال الصحة واستدعاء للتوبة، وفي قضاء الله وقدره بَعْدُ
الخيار.