أدب وتاريخ
الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة:
في الحلقة السابقة خلص الكاتب إلى العصر الإسلامي، بعد أن أوجز القول
مرة أخرى في مقومات الحياة السياسية من خلال الشعر الجاهلي، وبدأ في الحديث
عن ملامح ومقومات تلك الفترة الفضلى مبتدئاً بمنهج التربية الإسلامية.
ج- آثار هذه التربية:
وكان من فضائل هذه التربية العقدية، أن تخرج عليها جيل فريد من الصحابة، ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية، وأصبح ولاؤهم لمجتمع العقيدة، سواء في مكة
المكرمة حيث التعذيب والابتلاء والصبر، وتعميق أسس البنيان المبارك، أم في
المدينة المنورة حيث الأخوة والإيثار والجهاد في سبيل الله.
إنها تربية واقعية، طبقت، وتحقق بسببها ميلاد جيل جديد من البشر، ترى
ماذا لو فكر الدعاة في عصرنا الحاضر في تطبيقها، وغرسها من جديد في نفوس
الناشئة، أفلا يتخلصون مما هم فيه من خلل واضطراب؟ ألا يعيدون للمسلمين
واقعاً حياً نظيفاً؟
وحتى لا نتكلم في فراغ فلنستعرض بعض النماذج من سيرة السلف الصالح،
وكتب السيرة ممتلئة بعطرها الفواح، عسى أن تكون لأجيال اليوم نبراساً يضيء
لها ظلمة الطريق.
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من السابقين الأولين للإسلام،
وكان باراً بأمه حمنة بنت أبي سفيان، قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟
والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد
الدهر، يقال: يا قاتل أمه! ، وبعد يومين وليلتين من امتناعها عن الطعام
والشراب جاء إليها سعد وقال: يا أماه: لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً،
ما تركت ديني، فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت،
فأنزل الله هذه الآية: [وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] [سورة لقمان: 15] .
وأمر بعدم طاعتهما في الشرك: «لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية ... الخالق» [1] .
لقد ارتفع سعد - رضي الله عنه - بإيمانه رغم بره بأمه، وضحى بها لو
ماتت جوعاً وعطشاً على أن يساوم على عقيدته..
وأبو بكر -رضي الله عنه- خير نموذج لتربية دار الأرقم، يرد جوارَ ابن
الدغنة ليبقى في جوار ربه، ويكاد يشرف على الموت، إذ ضرب ضرباً شديداً
وتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ ورفض الطعام والشراب حتى يطمئن
على رسول الله، وعندما رآه -عليه الصلاة والسلام- صحيحاً معافى في دار الأرقم
اطمأنت نفسه [2] .
رجل يشرف على الموت مثخناً بالجراح، يرفض الطعام والشراب حتى
يطمئن على حياة رسول الله..
وأبو سفيان زعيم قريش وسيدها: (قدم على ابنته أم حبيبة، أم المؤمنين،
رضي الله عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال:
يابنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: بل هو
فراش رسول الله، عليه الصلاة والسلام وأنت رجل مشرك نجس، فقال: والله لقد
أصابك يا بنية بعدي شر) [3] .
هكذا تتبرأ أم المؤمنين من أبيها، وتقول له بكل صراحة: إنك مشرك نجس..!
ما أجدر بنات اليوم، وأمهات الأجيال المعاصرة، بالقدوة ومفاصلة الشرك
وأهله. وقصة الصحابي الجليل عبد الله ابن حذافة السهمي وموقفه من ملك الروم
حيث أغراه بمشاطرة ملكه فرفض، وهدده بالقتل والحرق، فأبى أن يتنصر وهو
الأسير المجاهد.. كل ذلك بسبب عزة الإيمان، في تلك النفوس العظيمة [4] .
ما الذي جعل هذا الصحابي الجليل يتعالى على ملك الروم، وقد كان
(بالأمس) كل عربي يتمنى أن يحظى بالدخول إليه؟
وموقف أبي عبيدة أعجب وأعظم، لقد قتل أباه في بدر، كان كافراً محارباً لله
ورسوله، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه من ولائه ونصرته لله ورسوله والمؤمنين،
وفيه نزلت الآية الكريمة: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ ورَسُولَهُ] [5]
إن الصبر والابتلاء كان سمة الفترة المكية، وما التعذيب الذي لقيه خباب،
وصهيب، وبلال، وآل ياسر (رضي الله عنهم جميعاً) عن أذهاننا ببعيد..
والمقاطعة في الشِّعب وحصار المسلمين ومَنْ ناصرهم من بني هاشم.. عبر آلام
وتضحيات لحمتها التربية القرآنية، وحب الله ورسوله..
هذا الجيل كان منهجه التلقي من الكتاب والسنة للتنفيذ والعمل، أما منهج
التلقي للدراسة والمتاع فهو الذي خرج الأجيال اللاهية المتخاذلة.
بهذه الصورة تكونت قاعدة صلبة من المؤمنين، حتى استطاعت أن تقاوم
الجاهلية بكل أوضارها وتفاهاتها ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة، وهذه الدروس
(في العقيدة) لحمة التربية فيها..
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: [6]
وفي المدينة المنورة، استقبل الأنصار المهاجرين وشاطروهم الديار
والأموال، وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله، وقد أصبح حب الأنصار ... من عقيدة الإسلام وبغضهم نفاق؛ ففي الحديث الصحيح: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» . قال تعالى: [والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر9] .
لقد تكون المجتمع الإسلامي في العهد المدني، فمن الهجرة إلى المؤاخاة، إلى
قيام الدولة المسلمة، إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشرعية الإسلامية.
بهذه الأخوة تكون المجتمع المسلم، وضرب مثلاً رائعاً في التكافل الاجتماعي، وبناء الجماعة المسلمة.
(ولقد أبدى الأنصار كرماً وسخاء في معاملتهم للمهاجرين، وكانت المؤاخاة ...
رباطاً قوياً متيناً جمع المهاجرين والأنصار بما يترتب على ذلك من حقوق ... وصلت بل تساوت مع حقوق الأخوة في النسب) [7] .
(هكذا نلاحظ أن الإسلام صنع من العرب نماذج فريدة، أنكر الفرد نفسه، ...
وقطع صلته بأبيه وبابنه، وهجر المال والمتاع، وأصبح له طريق جديد ووجهة
جديدة، أصبح يسعى لتوه بالافتراق عن مجتمعه الجاهلي، أو أنه يسير في طريقه
المحدد والمجتمع يهيم في غير طريق، وتنقطع الأواصر بينه وبين ذاك المجتمع
ولو كانت أواصر القربى، ويتجه قلبه لتوه إلى كيان آخر يلتصق به ويحس أنه
أصبح قطعة منه، ذلك هو رسول الله والقلة المؤمنة « [8] .
د- شعر الدعوة الإسلامية:
وقد ساهم الشعراء في هذا العصر في شعرهم بمعانٍ وقيم مستمدة من التصور
الجديد، ولتعاليم الدعوة الإسلامية، مسخرين مواهبهم للدفاع عن قيم هذا المجتمع
الوليد..
إن أغراض الشعر من فخر وهجاء ورثاء وحماسة، تغير مفهومها، وسمت
قيمها..
فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفتخر بالسبق إلى الإسلام [9] :
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيراً ما بلغت أوان حِلمي
ويفتخر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بأنه أول من رمى بسهم في
الإسلام [10] :
ألا هل أتى رسولَ الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذياداً ... بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍٍ ... بسهم يا رسول الله قبلي
ويصبح فخر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بالإسلام ونبيه ووحيه،
وبكتيبة المؤمنين من المهاجرين والأنصار، يقول قبل فتح مكة [11] :
عدمنا خيلنا إنْ لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح ... القدس ليس له كفاء [12]
والهجاء يتحول نحو المشركين، دفاعاً عن رسول الإسلام وصحابته الكرام،
فيقول حسان -رضي الله عنه- يهجو أبا سفيان بن الحارث وهو من قريش.. من
بني هاشم، لأنه من الشعراء المشركين، وقد اشترك في هجاء الرسول -صلى الله
عليه وسلم-:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخِبٌ هواء [13]
بأن سيوفنا تركتك عبداً ... وعبد الدار سادتها الإماء [14]
هجوتَ محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً براً حنيفاً ... أمين الله شيمته الوفاء [15]
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعِرض محمد منكم وقاء
رضي الله عن حسان، لقد كان شاعر الخزرج في الجاهلية يدافع عن أحساب
قومه، وهاهو يفدي نبيه بالنفس والعرض والأهل..
أبو سفيان هذا أسلم، وحسن إسلامه، ثم ندم على ما فرط في جاهليته، ... فقال [16] :
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلبَ خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي
إن الإسلام يجبُّ ما قبله، إلا أنه الشعور بثقل الماضي، ورهافة حس
الشعراء..
والرثاء: بكى فيه شعراءُ الدعوة الإسلامية شهداءَ المجتمع الجديد، مجتمع
العقيدة، ولنستمع إلى أبيات من قصيدة كعب بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-
يرثي فيها شهداء مؤتة، إذ يقول [17] :
نام العيون ودمع عينك يهمل سحا ... ً كما وكفَ الطِّبابُ المخْضَلُ [18]
في ليلة وردتْ عليّ همومها ... طوراً أخِنُّ وساعة أتململُ [19]
واعتادني حزْنٌ فبتُّ كأنني ... ببنات نعشٍ والسّمال موكلُ
وجداً على النفر الذين تتابعوا ... يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صبروا بمؤتةَ للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
الرثاء للقادة، للشهداء جميعاً وبألم وحزن، لأن المصاب واحد، والمشاعر
واحدة، لقد أصبح» المثل الأعلى للرجل المسلم في عصر صدر الإسلام هو السبق
إلى الإسلام والهجرة، وملازمة المصطفى وصحبته والتقوى والورع.. ثم الشجاعة
والذياد عن حياض الإسلام « [20] .
وأخيراً: تبين لنا أن التربية الإيمانية أساس كل تغيير، ولابد من تطبيقها،
وليس لدينا خيار في هذا الأمر، لابد من العودة العميقة، والمعايشة الحية مع إخوة
الإيمان.. إن هذه التجربة، صنعت المعجزات، صنعت الجيل الأول، الذي
تخلص من جاهلية جائرة، واستعلى على ضغوط المجتمع وأعراف الآباء والأجداد.
ما أجدر الدعاة اليوم أن يتعالَوْا على أعراف فرقت ومزقت وليس لهم فيها سَنْدُ
شرعي!
ما أجدرهم أن يهتموا بتربية دار الأرقم، ومدينة الرسول الكريم -عليه
الصلاة والسلام -، وأن يعلموا ثقل المسؤولية، وعظم الأمانة في هذا العصر.
إن مسلم اليوم (مهمته خطيرة؛ لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي، إنما يطلب منه أن يكون نموذجاً يحتذى.. يلزمه تدريب من نوع خاص، يتعود
فيه على التخفف من جواذب الأرض.. والمطلوب لدور البناء والتأسيس: أن
يكون المسلم على الدرجة العليا من الإيمان.. المطلوب نماذج فائقة من البشر..
تستطيع أن تتجرد لله، وأن تحتمل المشقة في سبيل الله) [21] .
إن هذه التربية، وهذا الإيمان، هو الذي خلص العرب من الشرك واستعباد
القبيلة، وحرر عقولهم من الهوى والخرافة، وجعل منهم خير أمة أخرجت للناس،
وقد غيرت مجرى التاريخ.