استثمار المواقف
خالد السبيعي
أورد ابن حجر في (لسان الميزان) قصة عجيبة، ذكرها أبو محمد بن حزم لعبد الله بن محمد بن العربي، والد القاضي أبي بكر، (أنه - أي ابن حزم - شهد جنازة، فدخل المسجد فجلس، قبل أن يصلي، فقيل له، قم فصلِّ تحية المسجد، ففعل، ثم حضر أخرى فبدأ الصلاة، فقيل له: اجلس ليس هذا وقت صلاة، وكان بعد العصر: فحصل له خزي، فقال للذي رباه: دلني على دار الفقيه، فقصده وقرأ عليه الموطأ، ثم جد في طلب العلم بعد ذلك) .
لقد أجاد أبو محمد كما رأينا في التعامل مع هذا الموقف، وحوله من خسارة
إلى مكسب، إن هذه القضية نموذج ساطع لفن التعامل مع المواقف واسثمارها.
ولا نستطيع في - الواقع - الاستمرار في الحديث عن الموقف واستثماره
دون وضع تعريف محدد للمقصود به هنا، فالموقف إذاً: (هو كل ما يتعرض له
الفرد من أحداث، ويتطلب منه اتخاذ قرار، إيجابي أو سلبي، تجاه هذه الأحداث،
ويكون له القدرة على اتخاذه) وبعبارة اخرى، فالحياة: مجموعة مواقف.
إن استثمار المواقف يحتاج إلى منهج واضح، لعلنا في هذه العجالة نلقي
ضوءاً على بعض أسسه، إن المبادئ (العقائد) التي يحملها الفرد، والقيم التي تحكم
تصرفاته، والطباع الشخصية المحركة لدوافعه، تمثل الأسس الداخلية التي يقوم
عليها منهج الاستثمار المتوازن للمواقف، فضعف الإيمان بالمبدأ - مثلاً - أو قوته
ومدى سلبيته أو إيجابيته، ونتائج التخلي عنه تحدد مدى قوة تأثير العامل.
كما أن هناك مؤثرات أخرى (خارجية) ، كالبيئة التي يعيش فيها الفرد
والأصدقاء المقربين له، والضغوط التي يتعرض لها سواء كانت اجتماعية أو
اقتصادية أو فكرية وغيرها كثير، وسيكون استعراضنا هنا لأثر الأسس أو العوامل
الداخلية (الفردية) وذلك لأنها المحدد النهائي لمدى الاستجابة (الاستثمار) وكيفيته.
فالأنَفَة - على سبيل المثال - طبع شخصي عند ابن حزم، دفعته إلى
تصحيح وضع خاطئ (جهل المرء بدينه) بإيجابية ملهمة - كما رأينا سابقاً، وجعلته
فيما بعد ممن يشار إليهم بالبنان.
والتعصب الأعمى للقبيلة. وكل تعصب أعمى - من القيم الجاهلية المعروفة
إلا أن أثرها كما سيظهر في القصة التالية خطير وأي خير.
فقد أورد ابن كثير في (البداية والنهاية) رواية للبيهقي جاء فيها أن أبا جهل
وأبا سفيان والأخنس ابن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع منه، وكل
لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا
فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال لبعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض
سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم أنصرفوا، وتكرر هذا الأمر ثلاث ليال، حتى
قالوا: (لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته وسأله عن رأيه فيما سمع قال أبو جهل:) ماذا سمعت؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبداً ولا نصدقه!) .
انظر إلى هذه القيم وماذا تفعل بالبشر!
أما عن أثر المبادئ - وهو الأهم - على استثمار المواقف فالشواهد عليه لا
تحصى، وسنعرض لموقف فريد منها، لم يتكرر في القرآن الكريم، ولم يذكر
صاحبه إلا في هذه السورة التي حملت اسمه، إنه النبي يوسف -عليه الصلاة
والسلام-.
وسنتوقف قليلاً عند هذا الموقف ونتأمله! كما وصفة الله -عز وجل- في
محكم تنزيله. رزق الله يوسف -عليه السلام- بجمال أخاذ في الخلقة، وعقل
راجح، وفصاحة في البيان و ... مما جعله محط أنظار الناس. وسكن في بيت
العزيز - حاكم مصر - بعد أن اشتراه بثمن بخس! ! ، وأعجبت به امرأة العزيز:
[ورَاوَدَتْهُ الَتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ *
واسْتَبَقَا البَابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [يوسف 23-25] .
كانت الظروف كلها - مهيأة تقريباً لحدوث ما لا تحمد عقباه، إن حب
الشهوات طبع بشري عالجه يوسف -عليه الصلاة والسلام- وأزاله بالمبدأ السامي
(طاعة الله) ، والذي هو عقيدة كل مسلم.
وختاماً فإن الفرد - منا - بحاجة إلى مبادئ صحيحة يعتقدها وتنير دربه،
وقيم صالحة ينتقيها، وطباع بشرية يهذبها، ليكون الاستثمار الأمثل للحياة.