مجله البيان (صفحة 1066)

أطراف القضية الجزائرية

محمد حامد الأحمري

مدخل:

كلمة الحق في القضية الجزائرية تذكرنا بموقف فخر الدين الرازي تجاه

الحشاشين، فقد كان فخر الدين الرازي يعلم الناس في حلقته في المسجد ما يراه حقاً، ولم يكن لدى المسلمين آنذاك شبهة فصل الدين عن الحياة، وفي ذلك الزمان كانت

فتنة الحشاشين قد ذرّت، وبدأت تنشر الإرهاب واغتيال قادة المسلمين، فاغتالوا

نظام الملك، وحاولوا اغتيال صلاح الدين أكثر من مرة، وكل ذلك إرضاءً

للصليبيين، ووصولاً إلى أهدافهم الباطنية، وكان أحد هؤلاء الحشاشين قد انتظم

في حلقة الفخر الرازي لمدة طويلة، ليراقب الشيخ ثم يسكته عن النقد أو يغتاله،

وسئل ذات يوم عنهم فشرح رأيه في الحشاشين وبين خطورتهم على الإسلام وأهله، ثم خرج الشيخ إلى داره، وفي ناحية من الطريق انفرد الحشاش بالشيخ - وكان

الحشاش ضخماً قوياً - وعدا على الفخر وصرعه أرضاً، ثم جلس على صدره،

وسل خنجره وقال: عدني ألا تعود إلى نقد الحشاشين مرة أخرى وإلا قتلتك الآن،

فتخلص منه الشيخ بالوعد الذي أراده، وفي يوم آخر سأل أحد الحاضرين الشيخ

عن الحشاشين فقال له: يا بني هؤلاء القوم لا أقول فيهم شيئاً، لأن لهم حججاً ثقيلة؛ وأخرى حادة [1] .

هذه هي قصة كلمة الحق في بعض الأزمان الماضية، وهي في زماننا لا تكاد

تذهب بعيداً عن هذا، والناس بالخيار إما أن يقولوا الباطل وتلك هي الفتنة، أو أن

يأخذوا بالعزيمة وهنا قد يتعرضون للسجون والاغتيال والحياة الصعبة، ولا خير

في الترخص في هذا الزمن فقد غلب على الناس.

وقضية المسلمين في الجزائر مما لا يسع المرء السكوت عنه، كيف وهي

مواجهة بين الحق والباطل وبين دين الله وقوى الشر والطغيان.

هوية الحركة في الجزائر:

لقد كان الاتجاه السلفي في الجزائر والعودة إلى الكتاب والسنة هو السلاح

الذي سله الجزائريون في وجه فرنسا، حيث قبلت الطرق الصوفية في الجزائر

بالمعايشة مع المستعمر وموالاة أعداء الله، أعداء المسلمين بل قام كثير منهم

بإصدار الفتاوى ضد حركة الاستقلال. وثلاثون عاماً مرت بعد الاستقلال لم يبد

أنها غيرت من قناعة هذه الطرق قديمها وجديدها، فقد كان لها نفس الموقف من

الجبهة، فهذه الطرق الآن في صف أعداء التوجه الإسلامي في الجزائر، وقد

اجتمع مؤخراً مائة من رؤساء الزوايا والطرق الصوفية وأعربوا عن تأييدهم

للمجلس الأعلى للدولة ورئيسه بوضياف [2] نكاية بالجبهة الإسلامية للإنقاذ،

وانقياداً للمصلحة الفرنسية العليا، التي لم يزل الصوفية يفكرون بها منذ أيام

الاستعمار، حيث وقفوا معها ضد جمعية العلماء وضد الثورة على المستعمر، ولا

يظهر أنها قادرة على تجاوز عقدها الماضية، فلم يلهمهم الله فهماً في دينه بنصرة

الإسلام أو المظلومين، كما لم يوفقوا في مكسب دنيوي محض بمشاركة سياسية

كريمة. ولم يزل هؤلاء الطرقية تياراً يؤمن بالمهادنة والميوعة والتزلف، وقد وجد

في السنوات الأخيرة تيار سياسي صوفي حارس للمصالح الأجنبية، ليس في

الجزائر وحدها حيث يلوي شيخ الطريقة عنق الأمة تحت تلك الأقدام القذرة وإن

كانت أقدام النصارى:

إذا كان الغراب دليل قوم ... يمر بهم على جيف الكلاب

وجبهة الإنقاذ الإسلامي حركة سلفية فيها بساطة الإسلام، ووضوح شعارات

القرآن والسنة، وفيها عزة الوضوح، وجماهيرية الاستجابة، وظاهرة الالتزام

بالسنة، والأمة المسلمة عندما تصمم على امتلاك حقوقها فإنها لا تؤمن بالشيخ

الوصي والوكيل عنها، المخدر لعقلها، الذي بيده كل الخيوط والأسرار وطرق

السماء والأرض! ليس الأمر كذلك، فكلام الله وهدي رسوله مبسوط ميسور،

والسبق للعامل الملتزم المتقدم إلى ساحة العمل والوعي، وبذل النفس والمال والجهد، وليس في هذا أحاجٍ وألغاز يفهمها الغازي المستعمر وحده، ويفسرها للناس شيخ

الطريقة حسب مصالح الأول.

والأمة لها عقل، قد تخطئ مرة، وقد تُضلل مرة، ولكن ليس دائماً.

والجبهة الآن تمثل قضية المسلمين في الجزائر ووعيهم بأنفسهم وبمصلحة أمتهم،

وتحديداً (العودة إلى الله) بعد غربة طويلة صنعها الاستعمار ثم زادها بعداً

الحكومات المتتالية؛ التي كانت وجهاً عربياً للفرنسيين.

فرنسا والغرب:

دار حديث في الأوساط السياسية في أعقاب أزمة الخليج عن ترتيب أوروبي

أمريكي يلتزم بإبقاء نفوذ فرنسا قوياً للمرحلة القادمة في شمال أفريقيا، وزار

ميتران تونس وأبدى عدم رضاه عن وجود نفوذ للثقاقة الأنجلوسكسونية في تونس،

ثم التزم لتونس بإرسال ثمانمائة مدرس للغة الفرنسية تدفع نفقاتهم فرنسا. وفي

الجزائر ذكر سيد أحمد غزالي أن فرنسا تعامل الجزائر وكأنها لم تستقل بعد، أو أن

الفرنسيين لم يقبلوا باستقلال الجزائر [3] .

وقد كان توقع فوز الجبهة مثار هلع كبير في الصحافة الغربية والفرنسية

بوجه خاص، تعكس ذلك بعض عناوين الصحف الفرنسية: (فرنسا: الدولة في

حالة تأهب [4] ) وفي لندن (الأخبار المفجعة بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ) [5]

وبعد الانتخابات رأى الفرنسيون في نجاح الجبهة خطراً لا يهدد فقط الجزائر

والعلاقات مع فرنسا لكن أيضاً يهدد الأمن الفرنسي [6] . ولم تخف وسائل الإعلام

الغربية خوفها الشديد مما حدث، وقالوا: هذا الخطر ليس تهديداً لعلاقاتهم السياسية

فقط، بل تهديداً للثقافة الغربية في الجزائر، وتساءلوا عن مصير المسرح وبرامج

التلفزيون والجرائد والمدارس التي تعتمد اللغة الفرنسية وهي الواجهة الفرنسية في

الجزائر، وتساءلوا أيضاً عن مصير شمال أفريقيا كله هل يعني هذا عودة الإسلام

قوة في الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط؟ وهل يعني هذا تغييراً شاملاً في

المنطقة، وبالتالي بداية لتاريخ مختلف عن الذي سجلته أوربا في عصور سيطرتها

على العالم.

وفي واشنطن ذكر المتحدث باسم البيت الأبيض خطورة وصول الإسلاميين

إلى الحكم في الجزائر وأن ذلك سيكون مهدداً لعلاقة الجزائر مع الغرب، ولما تولى

الجيش أعلنت أمريكا أن هذه مسألة جزائرية داخلية، وذكرت بعض المصادر ما

يوحي بعلاقة ما بين الجيش في الجزائر والسلطات الأمريكية [7] . وأشار نفس

المصدر إلى أن (المؤسسة العسكرية) ستجهض المناورة الأصولية [8] . ومن

المعروف أن أمريكا وفرنسا ومن يدور في فلكهما يريدون بقاء مصالحهم في الجزائر

والتي على رأسها:

1- إبعاد الإسلام عن السياسة تماماً، وذلك بإصدار قانون يمنع استغلال الدين

في السياسة.

2- فتح الأسواق للبضائع الأوروبية والأمريكية.

3- تدفق الثروات الجزائرية رخيصة إلى الخارج.

4- فتح المجتمع الجزائري للتغريب والإبقاء على الثقافة الفرنسية بكل

أشكالها.

الديموقراطية:

كانت الصادرات الأوروبية إلى العالم الإسلامي عديدة ومختلفة، بدءاً من

وسائل الحياة الحديثة، إلى الأسلحة والأفكار والمبادئ، ومرت بنا مرحلة كنا نظن

فيها هؤلاء الغربيين حريصين على أخذ كل شيء عنهم، وكتب من قومنا من كتب

مرحباً بالزمن الغربي والحياة الغربية، وانقسمنا وما زلنا ننقسم تجاه ماذا نريد وماذا

يريدون لنا. اختصاراً للقول تبين أنهم مع فرحهم بتقليدنا لهم لكنهم لا يرضون بأن

نكون مثلهم أحراراً! مهما حرصنا على ذلك.

وقد كان هؤلاء الغربيون العنصريون دائماً لا يرون غيرهم في مستواهم

الإنساني والعقلي، وبالتالي فنحن لا نستحق من الكرامة والحرية والإنسانية ما

يستحق الإنسان الغربي، وقديماً وصف شاعرهم كيبلنغ الإنسان في العالم الثالث

بأنه مركب من نصفين (نصفه طفل ونصفه شيطان) ، وحين كان غاندي يلاين

ويلاطف الإنجليز وهو ابنهم المخلص الذي تربى وعاش على ثقافتهم كان يصفه

أحد كبار الساسة البريطانيين بـ (القرد العاري) . واستضاف أحد الأفارقة فرنسياً

وفرش له في داره خير ما عنده وأكرمه فكتب عنه الفرنسي: (لقد كان يزحف على

طرف الفراش كما يزحف الكلب) .

لهذا فإن هذه الشياطين والقرود والكلاب - في منظور الغرب - لا تستحق

الديموقراطية مهما سعت إليها، فهي ميزة وتكريم للإنسان الغربي فقط، ومهما

تبجح الغرب أنه يساندها في العالم الثالث فإنه حقاً يحاربها إذا كانت ستحمل الكرامة

والحرية أو شيئاً من هذا للإنسان في العالم الإسلامي، وذلك ليس لأنه لم يبلغ درجة

عالية في إنسانيته - كما تقول الفلسفة السياسية لداروين - ولكن لأن الغرب الآن

يقف معنا على أرض واحدة وميدان حرب جديدة منذ بدأنا نعي أنفسنا أخيراً.

ونطالب بحريتنا وكرامتنا بين سكان هذا العالم.

ويخطئ بعض الكتاب والدعاة عندما يرون أن الغرب يمكن أن يصدر لنا هذه البضاعة (الديموقراطية) . ولكن أحداث الجزائر اليوم شاهد يفقأ عين المخالف، فها نحن لما حاولنا تقليدهم أو الاستفادة من بعض ما عندهم حاربونا وحرمونا حتى حق تقليدهم، وهكذا في الصناعات سيقفلون أسواقهم عنا لو حاولنا تصدير بعض البضائع اليسيرة، وأيضاً يمنعوننا حتى أن ندفع لهم الملايين لشراء أسلحة من مصانعهم مهما التزمنا بمواثيقهم، وإن كان عائدها المالي خيالياً بالنسبة لهم، ويبقى شبح كرامتنا وحريتنا واستقلالنا يرهقهم ويفكرون فيه كثيراً. ويبقى السؤال: هل يعامل العالم الغربي الناس في خارجه كبشر حقاً؟

الحق الذي لا مرية فيه أنهم لن يرضوا لنا خيراً أبداً [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ

أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ

مَن يَشَاءُ] . [البقرة 105] ، أي خير! حتى الذي يمكن أن يحمله إلينا بعض

أفكارهم التي لا نشك في انحرافها والتي لا تقوم على أساس نعتقد شرعيته، ويمكن

أن يعطونا بعض أفكارهم ومذاهبهم ولكن بشرط أن نترك الإسلام، وقد تساءل

أحدهم: هل ستستمر الديموقراطية في الجزائر؟ ثم قال: (نعم ولكن بدون

إسلام) [9] وقد تبنى بوضياف هذا القول وترجمه إلى العربية على أنه من كلامه وهدد به الجزائريين. وأنه لا يسمح باستخدام الدين في السياسة (لأن الإسلام مقدس) ؟ ؟ نعم ولأن السياسة بمفهومه معاكسة للمقدس.

الإسلاميون هم سبب الديكتاتورية:

كان من الممكن في العالم العربي أن تتوفر فيه ديموقراطية كالتي في الهند،

وقد كان في مرحلة ما بعد الاستعمار بوادر شيء من ذلك، ولكن حين بدأ الصوت

الإسلامي في الظهور من بلد إلى آخر كان الجواب الغربي: تسليط استبداد العساكر

عليهم، من المعلوم في قصة الجزائر أن الغرب والشرق كان سيرضى عن نتائج

الديموقراطية في الجزائر، لو خرجت النتائج لغير الجبهة الإسلامية وكانت الجزائر

ستجد من التحية والإشادة بها وبإيمانها بالحرية والديموقراطية ما تجده الآن من

الإشادة بهذه الديكتاتورية المكشوفة التي لا يحجبها إلا ألاعيب زائفة يدركها أنصار

الحرية وأعداؤها على السواء. إن العالم يقرأ أو يسمع هذه المواقف العالمية

ويستغرب تماماً هذه الجريمة التي يمارسها العالم ضد ما يدعي من مبادئ الحرية

والديموقراطية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتقرير مصائرها، وفجأة إذا هذه

الدول وهذه المنظمات تمد يدها لاغتيال كرامة شعب مسلم وحريته، وتؤيد الاستبداد

والسجون والتعذيب للقيادات الجزائرية لأن هذه القيادات مسلمة داعية إلى الحق من

خيرة المجتمع الجزائري: وقالت هذه القوى بصراحة لا تحسد عليها: مرحباً بكل

فساد يقف ضد المد الإسلامي. وكنا نتوقع المراوغة في المواقف والنفاق، ولكن

صراحة أعداء الإسلام في مواجهة المسلمين كانت فوق كل تقدير.

الجيش:

مع بداية تصاعد مطالبة المسلمين في الجزائر بأن يحكموا بالكتاب والسنة وأن

يتخلصوا من الاستبداد أصبحت القوى المخالفة لرغبة مصلحة الشعب تراهن على

لعب البطاقة الأخيرة ضد رغبة الناس وحريتهم وقد نشرت إحدى المجلات

الفرنسية [10] خبراً يقول أنه في يوم 29 كانون الأول بعد ثلاثة أيام من الدورة الانتخابية الأولى غادرت ثلاث طائرات من طراز هركليز مطار وهران إلى الجزائر العاصمة محملة برجال الاستخبارات العسكرية يلبسون لباساً شبيهاً بلباس الإسلاميين وموفرين للحاهم وذكرت المجلة أن السيناريو الذي يتوقعه كثير من الديبلوماسيين الغربيين [11] وكثير من الجزائريين أن تجري حوادث استفزازات دامية خلال الأسبوعين الأولين من السنة الجديدة، تعطي فرصة للقضاء على الجبهة الإسلامية في الجزائر وتترك الجزائر تعيش في جو من عدم الاستقرار وقد تقع تحت سيطرة الجيش.

وقال المعلقون: (المعروف أن تصميم هذه المؤسسة (الجيش) على قطع

الطريق أمام الإسلاميين للوصول إلى السلطة ليس جديداً) [12] . وكان معروفاً منذ

ما قبل انتهاء الانتخابات أن الجيش سيتدخل في حال فوز الجبهة الإسلامية بالنتائج

واستعد بقواته وحاصر بها المدن حتى تم الانقلاب العسكري الذي جاء بهذه

الشخصية الغائبة عن الجزائر لمدة تزيد عن 27 عاماً إلى الحكم، والذي يشير له

المراقبون أنها شخصية يرضى عنها أعداء الجبهة الإسلامية وصفها حشاني بالقيادة

المستوردة. وهي شخصية عارضة في هذه المرحلة، حيث القرارات والسلطة

الفعلية بأيد أخرى وهو ستار مدني لحكم عسكري.

وقد بدا شأن الجزائر في هذه الأيام يوحي بأن المتحكمين في المجلس الأعلى

أقرب إلى حال مجموعة من السفراء لمصالح خارجية. فقد علقت وسائل الإعلام

على هؤلاء الأشخاص بأن فلان رجل فرنسا والآخر رجل الجيران والثالث ...

والرابع ... ولم تحمل هذه الأسماء من يمثل واقع الشعب وحاجته، وهكذا واقع

السياسة في العالم الثالث السياسة القادمة من الخارج أهم من الشعب ومصالحه،

وهذا ما جعل غزالي يشك في أن الفرنسيين لم يقبلوا بعد استقلال الجزائر كما سبق. وهذه الحقيقة هي التي تفسر عدوان الجيش على مصلحة الشعب ومصادرة حقوقه

إذ أن فيه من يعمل لمصالح أخرى كما سبق في فقرة (فرنسا والغرب) . على

الرغم من أن قطاعاً كبيراً من الجيش لا يبدو أنه ذو قناعة تامة في الخروج على

الدستور وأنه لا يريد المواجهة العسكرية مع الشعب. وهذا ما جعل الانقلابيون

يفرقون من خطابات عبد القادر حشاني زعيم الجبهة الإسلامية للجيش ومناشدته

للجيش بتقوى الله وعدم قتل الناس وجر البلاد إلى حرب أهلية، ونادى الجيش

بترك دعمه للاستبداد.

وأصبح الجيش في الجزائر وللأسف تلك العصا التي يُجلد بها الشعب بإدارة

خارجية وتلك مأساة الجيوش في العالم العربي ذات قدره فعالة في التدمير وإذلال

وقمع الشعوب في الداخل، ومقدرة نادرة في الهزيمة أمام كل عدو خارجي.

ولا يصعب تفسير هذه الظاهرة إذ الجيوش في عالمنا غالباً متخلفة عن الوعي

الديني العام، وتدين بالولاء لعقليات قمعية ومستبدة، ربت جيوشها على الاستبداد

وفردية القرار والطاعة العمياء في الحق والباطل، ويحال بينها وبين وسائل

المعرفة والوعي عن قصد، لهذا كانت سلاحاً خطيراً يضرب بلا وعي. وواجب

الأمة تدارك هذا الفساد وإيجاد هدنة ما بين الشعوب وجيوشها ومصلحة الأمة لا

تختلف بحال عن مصلحة الجيش أخيراً.

المسألة الاقتصادية:

تناول بعض أعداء التوجه الإسلامي في الجزائر القضية الاقتصادية وذكر أنها

هي السبب في إقبال الشعب على الحل الإسلامي وعلى كل ما حدث، وهؤلاء

الكتاب فيما يبدو ليسوا شيوعيين، وهم يعرفون كذب هذا الذي زعموه، وأيضاً فهم

لا يملكون الشجاعة في قول الحق، ولا الخروج من عقدة الحقد على التوجهات

الإسلامية في العالم الإسلامي، لهذا يخرجون بتحليلات ساذجة وبعيدة عن الصدق،

وتؤكد ثقافة التزوير التي يشهدها عالمنا الإسلامي لمصلحة أعدائه. نعم في الجزائر

حالة اقتصادية سيئة، كما يقول أحد الصحافيين [13] : - وليس إسلامياً حتى لا

نُتهم - (إن الشعب الجزائري ذاق طعم الحرية بعد سنوات طويلة من حكم الاستبداد

والديكتاتورية والرأي الواحد والحزب الأوحد. فبعد عقود متصلة من القهر

والنصب والفشل والخداع باسم الاشتراكية مرة وباسم الحفاظ على حقوق الشعب

العامل مرة أخرى، اقتنع الشعب الجزائري بهول الجريمة التي ارتكبت في حقه فلا

الأحلام التي عاش عليها بعد الاستقلال تحققت ولا الثروات الطبيعية الهائلة التي

وهبها الله له فوق وتحت الأرض الجزائرية صرفت على تحسين مستوى المواطنين، ولا المتاعب والأعباء المعيشية الصعبة نجح الحكام في التخفيف من حملها

وضغطها) [14] . ليس هذا فحسب بل إن السرقات التي سرقها الحكام والمتنفذون

السابقون والتي ذكرت وسائل الإعلام إمكان عودتها من الحسابات السرية في أوربا

بلغت 20 مليار دولار [15] وتزيد بعض التقديرات هذا المبلغ إلى ثلاثين مليار

دولار فالذين لا يؤمنون بيوم الحساب، ولا يؤتمنون على مصلحة الأمة سواءاً

جاءوا من شبهة التحرير أو من العساكر هم الذين سرقوا ثروات الأمة، ورجال

الإسلام هم موضع الثقة حقاً في هدا العصر وفي كل عصر، ثم لماذا لا يتوجه

الجزائريون إلى حزب آخر إذا كان الأمر هو الضائقة الاقتصادية، بل لو كان

الأمر هكذا لدعم الشعب الجزائري جبهة التحرير وسيد غزالي، كيف وقد تدفقت

القروض على الجزائر بمجرد وصوله لأنه رجل الغرب، وقد تكفل لهم بحرب

الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولو كان هدف الشعب فقط أن يملأ بطنه لوجد غير

الجبهة ممن رفع هذا الشعار. لكنها الدوافع الإيمانية أولاً وقبل كل شيء ثم فساد

الحكومات العلمانية المتوالية أكد للناس حاجتهم إلى دين الله وعدل الإسلام. والجبهة

كما يعلم أى عاقل لن تحمل لهم ثروات العالم. والمسألة الاقتصادية تحدٍ مهم ولا

شك لكنهم يثقون على الأقل أنها لن تنهب وتسرق ثرواتهم وستعمل الجبهة الإسلامية

على تخفيف الديون الباهظة التي أصبحت الحكومة غير قادرة على تسديد أرباحها

الربوية.

أطراف أخرى للقضية:

يندرج كثير من القوى الفاعلة في الساحة الجزائرية تحت بعض الأطراف

السابقة، فجبهة التحرير ذات الاسم والشهرة التاريخية أصبحت ميراثاً عاماً للشعب

بمالها وما عليها، وبقية رجالها إما واقعون تحت نفوذ الجيش ومنهم طائفة أخرى

لها صوت معارضة لسلطة الجيش ولا يظهر أنهم جادون في اتخاذ موقف يخرج

عن دائرة مصالح الأطراف المعارضة للجبهة الإسلامية.

البربر:

يشكل البربر، قرابة 4 ملايين [16] من 26 مليون عدد سكان الجزائر،

منهم طائفة كبيرة تتبنى منهج وأسلوب الجبهة الإسلامية، بالمطالبة بعودة البلاد إلى

الحياة الإسلامية، وبرز منهم قيادات إسلامية من أمثال الشيخ محمد سعيد في

الجزائر العاصمة، أما في مناطق القبائل (تيزي أوزو) فقد اتضح مناصرة عدد

منهم لآيت أحمد (القوى الاشتراكية) وهم منطقة نفوذه واستغل قضية البربر

مواجهاً بها الجبهة الإسلامية وعندما أسس آيت أحمد حزبه البربري في فرنسا بدعم

من فرنسا أكد على قضايا عديدة منها إبعاد البربر عن الإسلام واللغة العربية

ومحاولة كتابة اللغة الأمازيغية البربرية وإحلالها محل اللغة العربية، وبالتالي

يستطيع تشكيل أقلية وحقوق أقلية ومسمار فتنة في الجزائر عسى أن يتلافى

الإسلاميون تقصيرهم في حقوق إخوانهم وأن يوقفوا الفتنة قبل تعاظمها.

الليبراليون التحرريون:

وهناك ما يسمى بالقوى الليبرالية (التحررية) وهي القوى التي تراعي

مصالح الغرب وتؤمن بأفكارهم وأسلوب حياتهم، وقد درج هذا القطاع من الناس

على التحريض على الإسلام ودعاته ووصهم بتلك الألقاب التي كانت ترددها فرنسا

زمن حرب التحرير وكانت تصف المجاهدين في الجزائر بأوصاف التعصب

والرجعية. والآن تردد بقايا جيوب الظلام العلماني نفس المقولة بكل ببغائية

وسذاجة فتصف الجبهة بالتعصب والرجعية والتطرف والخوف على الانحلال

والدمار الاقتصادي الذي جلبته مرحلة الضياع في الجزائر. وهذه الطائفة تمثل

الطابور الخامس في كل بلدان العالم الإسلامي وهم دعاة الفساد وجلاوزة الاستبداد

ويحلو لهم أن يلبسوا لباس الثقافة الليبرالية، وهم بعكس هذا.

وليست لهم قوة مهمة في الجزائر غير أنهم يتمتعون برعاية عناصر

الديكتاتورية في الجزائر والدعم الغربي المحارب للتوجه الإسلامي ويتوزعون على

الأحزاب المعارضة للجبهة ويقيم بعضهم في فرنسا. وهذه الطائفة مع أمثالها خارج

الجزائر تقوم بدور الدعاية المضادة للإسلام ولمصلحة الجزائر ورغبة شعبها.

إن سير الأحداث لا يدل على أن أعداء الإسلام يمكن أن يسمحوا له بالوجود

ولا للمسلمين بممارسة حقهم في حكم أنفسهم بما يريدون [17] فالمسلمون أسرى في

بلدانهم لقوانين عبودية غربية جائرة؛ وأمام أعيننا هذا المشهد الذي يثير عجب كل

عاقل، ويثير حمية كل مسلم، ينتهك حقه وحريته وكرامته، فعندما نستخدم قوانين

الغرب وأعرافه لننال بها حقاً لنا يتنكر هؤلاء للقوانين التي سنوها ويحطمون ما

أسموه مبادئ وحريات وديموقراطيات، ويواجهون المسلمين بالسجون والمطاردة

والتعذيب والتخويف وهم الذين شهد قانونهم ومحاكماتهم بما أوصلوا له العباد من

فساد وفقر وخوف، ثم يستمرون ويعدون بأنهم سوف يسمحون بالديموقراطية بعد

إصدار قانون يحرم استخدام الإسلام في السلطة، وهم اليوم يمنعون المساجد أن

تذكر فيها قضايا المسلمين ويحاولون إغلاقها وجعلها منابر حكومية، [ومَنْ أَظْلَمُ

مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن

يَدْخُلُوهَا إلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]

[البقرة 114] .

ختاماً:

لقد تبين من الانتخابات التي كانت نتائجها صحيحة ولم يثبت لدى اللجنة

القضائية [18] خلاف ذلك وبطلت الطعون التي قدمها أعداء الجبهة الإسلامية أن

الشعب يرى قيادته الفعلية التي تحقق مصلحته وتخرجه من الفساد هي الجبهة

الإسلامية، وأي قوة غيرها تهيمن عليه إنما هي سلطة يرفضها الشعب ابتداءاً،

ويعلم أنها ستسوقه في طريق أشد ظلمة مما حاولت الخروج منه، وسيمارس

المغامرون من عساكر الانقلاب الجديد أسلوبهم في نهب الثروة وإذلال الشعب،

حتى ترضى فرنسا ويرضى غيرها من القوى التي أيدت مجيئهم ويسرها كل شر

يقع للمسلمين. وربما حدث ما لا يتمناه مسلم من حرب أهلية قد لا يستطيع مثيروها

إيقافها وقد تتسع دائرتها وتترك كل شيء بعدها خراباً.

وقد حرصت الجبهة على تجنب الاضطرابات وضبط النفس والتعامل بأسلوب

إسلامي راق ومتزن ولم يتوفر هذا الانضباط والهدوء في مواجهة الموقف وتقدير

المسؤولية من غيرهم، في حين يقع الظلم والتزوير عليهم، فهل الاسلاميون

قادرون على تحمل المزيد من الأذى وضبط النفس أم سيواجهون من الآن وتكون

العاصفة، أم هل سيقبلون بالتأجيل إلى جولة أخرى والصبر على مرارة الموقف

حتى يعدوا أنفسهم لجولة أخرى يقابلون بها هذه الانتهازية والتسلطية التي تصر

على إبعاد الشعب عن دينه وهويته ومصالحه، والعمل على قطع جذور الفساد

والتبعية، وإحلال السلم والأمن والعدل محل النهب والسطو والجور الذي يصفق له

العالم المنحاز بكل صفاته؟ ليس طريق الحق سهل الورود، فدونه فتن وابتلاءات

قص الله في كتابه منها ما يجعل المؤمن يثق بالحق ويدافع عنه ويصبر عليه مهما

لقي في طريقه بقطع النظر عما حقق. [الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا

آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ * ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ

الكَاذِبِينَ] والذي أصبح معروفاً لدى عدونا ويعاملنا وفقه هو أن يمارس علينا

أسلوب القتل والسجن والإرهاب ثم يستمر في طغيانه بلا رادع بواسطة وكلائه

عندنا ويحقق بهذه الممارسة كل رغبات الصليبيين واليهود الذين يسمون علماء الأمة

ودعاتها وقادتها ورجال إنقاذها بالمتطرفين والأصوليين وقد وصف رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- والأنبياء بأكثر من هذا، وما أسعد اليهود والنصارى حين

يرون الدبابات والأسلحة والجيوش - وكل هذا يقال أنها جيوشنا وسلاحنا - تسدد

ضربات للأمة وتقتل وتسجن وتشرد خيار رجالها وقادة العلم والفكر والسياسة فيها،

إلا إنه لم يقدم لعدونا من النصرة علينا وهزيمتنا مثلما قدمته جيوشنا التي تخصصت

في قتلنا وتعويق أي سبيل لنا في النهوض أو أنها على أحسن الظنون استخدمت بلا

وعي. اللهم إنا نسألك لإخواننا الثبات على الحق وألا تعرضهم لفتنة أكبر وأنت

القادر على ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015