قراءة في مجلة المنار
عبد القادر حامد
كان الهم الشاغل لرشيد رضا حين أخرج مجلته هو الفجوة العلمية الضخمة
بين الغرب من جهة وبين العالم الإسلامي من جهة أخرى، لهذا فإنه حض أولاً
على نبذ الكسل والتهاون والضعف والاتكالية، واعتبر التربية والتعليم الوسيلة
المثلى التي يمكن أن تردم هذه الفجوة أو تقلل منها على الأقل.
وهو مدرك صعوبة ما هو مقبل عليه، ويضع في حسابه أن يصطدم
مشروعه الإصلاحي برغبات كثيرة من أصحاب النفوذ، ولهذا فهو يحاول أن
يقتصر على الممكن، ويتجنب التورط في ما يثير هؤلاء عليه، ويحدد في عبارات
تطمينية أهدافه حتى لا تذهب الظنون في تفسير خطته كل مذهب، فيقول:
(وغرضها الأول - أي المنار - الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبَّست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفراً وإلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذلة والمهانة تواضعاً، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضى وتسليماً، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً) [1] .
لكن على الرغم من هذه الاحتراسات الكثيرة التي أراد رشيد رضا أن تكون
سوراً يدفع عن أفكاره المخاطر؛ فإنه اصطدم بما كان متوقعاً، وسيبدو لنا في
المستقبل أمثلة من هذه الوقائع.
وقد يكون ظن في أول الأمر أنه سيترك وشأنه - وقد اختار الطريق الذي
يبدو الأبعد، وهو طريق التربية والتعليم - ولعله رأى أن اختياره هذا الطريق
سوف يقيه عواقب الاصطدام بالرغبات القريبة التي ترى في كل دعوة تجديدية
تهديداً لمصالحها ونذير شؤم عليها، ولأن هذا الطريق هو الذي يبقى أثره بعده
ضاربة جذوره في الأرض، لا يستطيع أحد أن يقضي عليه قضاء كاملاً. وهذا
صحيح، فأي دعوة تهمل هذا الجانب مهددة بالانقراض بل والارتداد عليها. وأمامنا
مثالان لذلك:
الفتح الإسلامي الأول بعد عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوربا وغيرها.
ففي الفتح الإسلامي الأول كان تجييش الجيوش وتوجيهها في حركة الفتح
ليس هدفاً بنفسه، بل وسيلة إلى غاية أسمى وهي نشر الإسلام والدعوة إليه عن
طريق تشجيع العلم والعلماء، وبيان أن الإسلام جاء إنقاذاً للبشرية من الظلم
الاجتماعي وجور السلطات المهيمنة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ونشر
الصحابة وتلاميذهم العلم بين طبقات هذه الشعوب، وتحولت أعداد هائلة من أبناء
هذه الشعوب الداخلة في الإسلام إلى دعاة ومدافعين عن الدعوة الجديدة وقرآنها
ولغتها، وبرزت أسماء يصعب حصرها ممن تلقوا هذا العلم الأصيل، وحملوه في
الآفاق، ونفعوا به شعوبهم وغير شعوبهم، وكانوا يتحركون من مكان إلى مكان لا
يقف في وجههم عائق، ولا تحجزهم حواجز، بل إن من تقاليدهم التي رسخت أنهم
كانوا يجعلون الرحلة في طلب العلم وسيلة للتقويم والمكانة، فبقدر عدد البلاد التي
يطوف فيها الشخص تكون قيمته العلمية، وبقدر اختلاطه بعلماء الأمصار تزداد
الثقة به والحاجة إليه. وهذا حق.
أما الفتوحات التي قام بها العثمانيون، فقد اكتفوا بالإخضاع، وجباية الجزية، وتركوا أهل البلاد يديرون شؤونهم بأنفسهم، وكانت الهوة سحيقة بين السلاطين
وبين رعاياهم، ولم يلتفت إلى أهمية أن تُعَدّ لهم جيوش من الدعاة والعلماء يكملون
ما قامت به الجيوش، وتركت هذه الشعوب على ما هي عليه من أفكار وأحوال،
واقتصر أمر الدعوة ونشر العلم على المبادرات الفردية، وما كان أضعفها في تلك
الفترة، وأقل كفايتها وغناءها! حيث تأذنت حكمة الله أن لا ينبغ من بين سلاطين
آل عثمان رجل يتبنى اللغة العربية لغة رسمية للسلطنة على كافة المستويات،
فتركت هذه الميزة للغة التركية - وهي من أشد اللغات فقراً وأظهرها ضعفاً - حتى
إذا ضعفت قبضة الدولة على هذه المقاطعات المفتوحة، برزت الكراهية العرقية
والدينية التي لم يهذبها علم ولم يقاومها فكر، تغذيها وتمدها دول أوربا الطامعة
المتربصة. ولم ينفع العثمانيين آنذاك تسامحهم ولا إبقاؤهم على عقيدة البلاد
المفتوحة، والسماح لأولئك بإدارة شؤونهم الدينية دون تدخل أو معارضة؛ بل
انقلب هذا التسامح وهذه السياسة التي اتبعت أداة بيد هذه الشعوب للتخلص من
الحكم العثماني؛ بل لتقويض بناء هذه الدولة، ولم يبق في ذاكرة هذه الشعوب إلا
صورة الكرباج التركي وظل التركي القاسي الغليظ الذي عمموه - في فترة من
الفترات على الأقل - على كل معتنق للإسلام [2] .
إصلاح العقائد والعوائد:
إذا كان رشيد رضا قد اعتقد أنه بإعلانه تحاشى أولي السطوة وعدم استثارتهم
قد ضمن سكوتهم عنه؛ فإنه لم يكن متحرزاً من فتح حلبة صراع لا تقل عن الأولى
التي يحاول بحكمته تجنبها، وهي حلبة إصلاح عقيدة الأمة والعادات التي تراكمت
عبر القرون واختلط صحيحها بفاسدها، وهذا ما يشير إليه قوله:
(الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير
من عوائدها) . فَمَن هي الجهة التي ستقف في وجه التجديد؟ ! إنها بلا شك خليط
من صنفين من الناس:
أ- صنف ذكي يستثمر الجهل والغفلة، ويحب أن يبقي كل أمر على ما هو
عليه، لأنه يشك في كل حركة وكل دعوة، ويرى في ذلك تهديداً لمصلحته الآنية،
فيحارب كل ما يشك فيه، ويستنفر العامة بنفاقه وكذبه ويدخل في عداد هذا الصنف
الخبيث القصد أصحاب النظر القصير - ممن لا يقدرون على النظر إلا في مواطن
أقدامهم، ويستغلهم ذلك الصنف الذكي بوسائله الجهنمية الترهيب والترغيب، وقد
يكون من هؤلاء أسماء طنانة وأصحاب ألقاب سيّارة.
ب - والصنف الثاني: العامة والدهماء، ممن يصدق بسرعة ودون روية
وتفكير دعاوى الصنف الأول المتنوعة، وتهاويلهم البرّاقة، فيكونون ردءاً لهم
وعوناً على تعطيل كل نية تهدف إلى تخليصهم من براثن الطغاة والمشعوذين.
وهكذا يستمرون ضحية الجهل وعدم القدرة على التفكير من جهة؛ والاستغلال
والتلاعب من جهة أخرى.
لقد ورث المسلمون - زيادة على ضعفهم السياسي والاقتصادي - ضعفاً
اجتماعياً مخيفاً، لا يجاوز الحقيقة من ادعى أنه أدهى وأمر من الضعفين الأولين،
بل هو السبب الرئيسي والمباشر لذينك الضعفين اللذين هما عرض ظاهر لذلك
الجوهر الذي لا يبدو إلا للقليل من الناس، وإن بدا؛ فلا يقدر على تحليل عناصره
وإرجاعها إلى مفرداتها البسيطة إلا القلة من هذا القليل.
وأشد مظاهر هذا الضعف الاجتماعي خطراً ما ارتبط منه بالعقائد، والتصق
(بالوجدان الجمعي) للأمة، حيث تصبح معالجة هذا الضعف تصدياً لا إلى حالة
فردية؛ بل إلى قوة اجتماعية انصهرت فيها ألوان من القوى والمقاوِمات.
وبسبب ما توالى على المسلمين من أحداث ضخام، وما تعاورهم من ظروف
تحمل إليهم كل يوم جديداً من التسلط والطغيان، وتسقط فوق رؤوسهم كل ساعة ما
لا يتوقعون من حيل شيطانية يمهر بتزيينها المتغلبون وأعوانهم؛ ... كل ذلك
وغيره أثر في حيويتهم، وترك في تقويمهم للأمور خرماً يصعب رتْقُه، حيث
سحبوا على هذه الإرادات الطاغوتية ظلاً من إرادة الله، والتبست عليهم أقدار
الخالق بأقدار المخلوق، وصار بهم الأمر إلى حالة سكونية ترضى بالقليل،
وتستنيم إلى اللحظة الحاضرة وأصبح لسان حالهم يقول:
وما في سَطوة الأرباب عيبٌ ... ولا في ذِلَّةِ العُبدان عار!
لقد رأى رشيد رضا أن العقائد عندما تفسد يفسد المجتمع، وعندما تتحول
العادات المرذولة إلى ما يشبه العقائد فإنها تهدم الكيان البشري للفرد، كما تهدم
المجتمع. وهنا يظهر لنا أن رشيد رضا لا يبتعد عن الحديث عن السلطة إلا يجد
نفسه وجهاً لوجه معها، وهو - واعياً أو مضطراً - (يرد الصدر على العَجُز)
ويفر من جبروت السلطة والتعرض لها لعله يضمن حيادها وسكوتها عن مشروعه
الإصلاحي؛ ليؤلب عليه طبقات اجتماعية لا تتورع عن الاستظهار بالسلطة للقضاء
على خصومها وإسكاتهم وتعطيل ما يرمون إليه، فتجتمع عليه قوتان، ويواجه ما
فر منه وما فرَّ إليه! وهذه هي مأساة المصلحين في كل عصر، وهذا هو التحدي
الذي ينتظرهم.
إن بقاء شعب أو شعوب تحت نير الاستبداد الدائم يقلل فيه من عناصر الخير
والفضيلة، ويعدم الثقة المتبادلة بين أفراده، ويجعله يعبد القوة ليعوض عن ضعفه
المتأصل بالنفاق والتملق للأقوياء، ويصبح اتكالياً يطلب من الحكومة أن تعمل له
كل شيء، مع أنه لا يحبها ولا يثق بها، ويتهرب من رقابتها ما استطاع،
وباختصار: إن الاستبداد نوع من السرطان فريد، قد لا يميت الإنسان، بل يبقيه
حياً يتنفس، ولكن بإنسانية مفقودة، وشخصية مشوهة، وأخلاق مرذولة.