خواطر في الدعوة
في الهدم والبناء
محمد العبدة
إن المتتبع لكل الجهود التي بذلها المسلمون خلال القرن الماضي فيما سمي بـ
(النهضة) سيلاحظ شيئاً عجيباً، فهذه الجهود لم تكن تراكمية يستفيد فيها اللاحق من
السابق، وينظر في أمرها فيأخذ ما صح منها ويبني عليه، ثم يأتي من بعده ويتم
البناء، ولكنها في الغالب كانت تبدأ من الصفر فتخطىء وتصيب وتجرب مرات
ومرات، وفي العادة تكون البدايات شاقة وتحتاج الى طاقات كثيرة.
وسبب هذه الطريقة في التفكير والعمل - والله أعلم - أننا لم نتعود بعد على
العمل المؤسسي الذي يقوم بالدراسات الدقيقة لكل عمل سبق وتقويمه تقويماً منصفاً
حيادياً، ودراسة كل فكر تقدم، وكل تجربة لداعية أو عالم أو هيئة، وما هي
الانجازات التي تحققت أو الفشل الذي وقع. كما أننا لم نتعود على الإنصاف في
تقدير جهود الآخرين، خاصة إذا كان يخالفنا ولو في شيء يسير، وثالث الأسباب
أننا نحمل في داخلنا موروثات مذمومة من الحسد والشنآن فلا نذكر محامد أحد، بل
إننا أقرب إلى حب التحطيم كما يفعل الأطفال بألعابهم.
كتب خير الدين التونسي قبل أكثر من قرن محذراً من الطوفان القادم (الغرب)
إن لم يتدارك الأمر بالمؤسسات والبعد عن الاستبداد في الأمة وما يجر من ويلات،
وعلى الرغم مما عندنا من ملاحظات على التونسي والكواكبي، وما في فكرهما من
ثغرات وتشوش، فإن ما طرحاه في هذا الموضوع كان صحيحاً.
ولا يزال بين المسلمين من يقول بعدم إلزامية الشورى. ثم جاء الشيخ رشيد
رضا وكتب في (المنار) مقالات قوية عن شؤون العمران والسنن الربانية في قوة
الأمم ورقيها وأسباب ضعفها. واقترح تأسيس الجمعيات والمدارس التي تساهم في
هذا الرقي وأظن أننا لم نستفد كثيراً مما كتب، وهكذا تكررت هذه الظاهرة، فقد
قام الشيخ ابن باديس بتجربة قوية ناجحة في جمع علماء الجزائر في جمعية واحدة،
وكان أثرها قوياً واضحاً في نهضة الجزائر، والآن نرى أكثر العلماء والدعاة
متفرقين مع الأسف، وكتب مالك بن نبي عن المشكلة الحضارية وأن البدء يكون
بتغيير ما بالأنفس، وكتب عن مشكلة الأشخاص والشيئية القادمة من عصور
الانحطاط، ولكن المشكلة لا تزال قائمة وجاء سيد قطب فكتب فصولاً جيدة عن
القاعدة الصلبة وكيف تتكون.
وليست المشكلة فقط أننا لا نستفيد من صواب كل واحد منهم بل إن بعضنا
ينقض ما عندهم من إيجابيات ويقلل من شأنها، ويستهين بها. وهم في ذلك
[كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] [النحل 92] .
ولا ندري إلى متى نستمر في البناء والهدم والحزبية وقلة الإنصاف، والنزعة
الأنانية الضيقة. والله وحده المستعان على هذه الحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.