مجله البيان (صفحة 1024)

مقال

هل تدعم أمريكا دولة روسيا الكبرى؟

د. أحمد عجاج

أخيراً تحررت شعوب الإمبراطورية السوفياتية - التي تستحق عن جدارة

لقب الرجل المريض - من قبضة الحكم الديكتاتوري وظاهرة الانغلاق والخوف

لتجد نفسها مرة أخرى تواجه مرحلة من عدم الاستقرار والضياع. فالديموقراطية

التي دغدغت أحلام الشعب المقهور وارتسمت صورتها الذهبية الواعدة بالخير

ومستقبل أفضل لم تكن إلا حلماً كاذباً ووهماً. والشعب السوفياتي بجميع فئاته يسير

ببطء نحو المجهول وفي ذاكرته شبح مجاعة عام 1920 - 1922 داعياً بحرارة أن

لا يقذف مرة أخرى نحو هذا المصير المؤلم.

فالاتحاد السوفياتي الذي كان يوماً ما دولة عظمى نافست أقوى قوى الأرض

قاطبةً، يجد نفسه في موقف المراقب العاجز ينظر بعينين عاجزتين إلى تفكك

أواصره وتفجر الخلافات والقوميات والعصبيات العرقية التي كانت في الماضي

وحدة متكاملة وجزءاً لا يتجزأ من إمبراطوريته الكبرى المترامية الأطراف.

هذا الواقع أجبر الاتحاد السوفياتي على التراجع من الساحة الدولية والانكفاء

والتقوقع. وغياب الاتحاد السوفياتي وتفككه يطرح تساؤلات عديدة لها تأثيرها

المباشر على الساحة السياسية الدولية والعلاقات الاقتصادية والعسكرية. والسؤال

الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو طبيعة الموقف الأمريكي من الظاهرة

السوفياتية. وبعبارة أخرى: هل تسعى الولايات المتحدة إلى مساعدته وإنقاذه من

الرمال المتحركة، أم أنها تؤثر التفرج على موت عدوها أو أنها ستعتمد خياراً آخر؟

الواقع هو أن الولايات المتحدة دائماُ، شأنها شأن بقية الدول، تتعامل ضمن

إطار المصلحة والمنفعة دون أي اعتبار للعامل الأخلاقي والمثل العليا. وعامل

المصلحة هذا ميز العلاقات الأمريكية - السوفياتية وطبّعها بطابعه حتى في أشد

الظروف حرجاً وخطورة.

والولايات المتحدة لم تتردد أبداً في استعمال سلاح الاعتراف، في الأعوام

التي سبقت عام 1933، للضغط على الدولة الفتية الشيوعية التي تعتمد مبادئ

وأهدافاً تتعارض مع مصلحتها وأهدافها. إلا أن هذا الموقف سرعان ما تلاشى

عندما شعرت الولايات المتحدة أن وجودها مهدد من قبل الدولتين الألمانية واليابانية

وأنه لا سيبل إلى الحد من نفوذهما إلا بالتقارب مع العدو الشيوعي (الاتحاد

السوفياتي) .

وفعلاً اعترفت الولايات المتحدة بالدولة الشيوعية في عام 1933 وتحالفاً معا

لدحر عدويهما الياباني والألماني. والملفت للنظر أن هذه ليست أول مرة يتم فيها

التعاون بين الدولتين - المتناحرتين - بل إن هناك حوادث كثيرة وشواهد تدل على

تعاونهما عندما تستدعي الحاجة سواء كان هذا محكوماً بالواقع الاقتصادي أو غيره.

وللتدليل على ذلك فإن وزير التجارة الأمريكي المشهور بعدائه - للشيوعية

(هاربرت هوفر) لم يتردد لحظة في تقديم المساعدات الغذائية والإنسانية للاتحاد

السوفياتي في عامي المجاعة والتي بلغت قيمتها خمسين مليون دولار أمريكي.

وبالطبع فإن هذه المساعدة تثير التساؤل والعجب إذ كيف يعقل لوزير يكن العداء

للشيوعية أن يقدم لها إكسير الحياة! إلا أن هذا ليس مستغرباً أبداً لأن الولايات

المتحدة حصلت نتيجة هذا على بعض ذهب الاتحاد السوفياتي وتخلصت في الوقت

نفسه من فائض في الإنتاج الذي يؤدي تكدُّسه إلى إبطاء نموها الاقتصادي. ولربما

كان العامل الإنساني والديني لهما دور، ولكن يبقى العامل الاقتصادي هو البارز

والمسيطر.

إذن من الممكن جداً أن لا تترك الولايات المتحدة عدوها وحيداً إذا كانت ترى

في ذلك مصلحة لها. فالاتحاد السوفياتي لم يعد أخيراً تلك القوة التي تُخشى بل

تضاءل حجمه ونفوذه كما تنبأ بذلك رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق رونالد

ريغان حين قال إن (الغرب لن يحد من نفوذ الشيوعية بل سيتجاوزها ولن يشغل

نفسه بإدانتها بل سيطرحها جانباً كفصل شاذ في التاريخ الإنساني) [1] . والرئيس

ريغان لم ينطلق من فراغ بل كان يعتمد أصلاً على تعاليم الإنجيل عندما قال: إن

الاتحاد السوفياتي إمبراطورية الشر وإن (تعاليم الإنجيل وأقوال المسيح تتطلب منا

أن نقاوم الشر بكل ما أوتينا من قوة) [2] .

وفعلاً كان له ما أراد فالاتحاد السوفياتي لم يعد بعد تفككه واستقلال جمهورياته

إمبراطورية الشر ولكن هل يؤدي هذا إلى تغيير السياسة الأمريكية؟

لا شك أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في الاتحاد السوفياتي ذلك الشبح

المرعب. وهذا لا يعني أبداً زوال الخطر الناتج عن تفكك الاتحاد السوفياتي.

فالسلطة المركزية تلاشت والوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، وهيبة غورباتشوف

أصبحت بلا معنى، مما دفع صحيفة برافدا السوفياتية بوصفه أخيرًا (بالرئيس

الذي ليس له دولة) . ومناشدة الزعماء السوفيات الغرب بتقديم المساعدات لم تلق

حتى الآن آذاناً صاغية.

والرئيس السوفياتي غورباتشوف في خطابه الذي ألقاه أمام مؤتمر (الأمن

والتعاون الأوروبي) الذي انعقد في الأشهر الماضية في موسكو، تساءل عن سبب

تأخر الدول الغربية بتقديم المساعدات الاقتصادية لبلاده قائلاً: (إن الظروف

الموجودة الآن صالحة لبدء عملية التعاون وبناء البلاد) . وأضاف مؤكداً (إن العالم

سيتعامل من الآن وصاعداً مع اتحاد من دول مستقلة تتعايش فيه دول وجمهوريات

وعشرات من القوميات والعصبيات بصورة اختيارية ومتساوية) .

وتصر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على أن وجود اتحاد كهذا داخل

الاتحاد السوفياتي ليس كافياً بحد ذاته وأنه يتوجب تكملة الثورة السياسية بثورة

اقتصادية كشرط أولي لتقديم المساعدات الغربية المنتظرة. بل ذهبت الولايات

المتحدة أخيراً أبعد من ذلك باشتراطها على الاتحاد السوفياتي تقديم خطة اقتصادية

يوافق عليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، شأنه شأن أية دولة من العالم

الثالث، كشرط مسبق للمساعدات الأمريكية. وطالبت الولايات المتحدة أيضاً

الاتحاد السوفياتي والجمهوريات السوفياتية بضرورة الاتفاق أولاً على توزيع

المسؤوليات والسلطات التي بالإمكان منحها للسلطة المركزية في موسكو.

وهكذا يتضح أن الولايات المتحدة تستعمل السلاح الاقتصادي مرة أخرى

كوسيلة لضمان نفوذها وسيطرتها في الإمبراطورية المنهكة. فالولايات المتحدة لا

ترى أية فائدة في تقديم مساعدات مالية واقتصادية لبلد لم تتضح حتى الآن معالم

تركيبته المستقبلية.

وتبدو السياسة الأمريكية من خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنها تميل

إلى رؤية الإمبراطورية السوفياتية بنصف حجمها السابق. فدعوتها الدائمة للسماح

لدول البلطيق بالانفصال والاستقلال لا تتفق مع دعواتها الداعية إلى إيجاد نوع من

الوحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية ضمن إطار ما. إلا أن هذا التناقض يمكن

أن يزول إذا نظر إلى الأمر من زاوية أخرى. فالولايات المتحدة لا تمانع في أن

تأخذ الجمهوريات السوفياتية نوعاً من الحريات الداخلية شريطة أن لا تشمل القضايا

الدفاعية. ووجود جمهوريات، داخل الاتحاد السوفياتي، تمارس حريات كاملة في

القضايا الاقتصادية والخارجية يوفر للولايات المتحدة فرصة ذهبية للعب على

التناقضات والاستفادة من استثمارات ومشاريع يمكن أن تقوم بها. وبالفعل فإن عدة

جمهوريات سوفياتية تتنافس في الحصول على الاستثمارات الأجنبية وتعرض

عروضاً مغرية في سبيل ذلك. إلا أن تصوراً كهذا يبدو غير ممكن في الوقت

الراهن. فوجود السلاح النووي الفتاك والخطر على أراضي الجمهوريات

السوفياتية خلق نوعاً من الارتباك والتوتر في السياسة الأمريكية. هذا الارتباك بدا

ظاهراً عندما أعلنت بعض الجمهوريات السوفياتية عن نيتها في الإبقاء على السلاح

النووي الموجود على أراضيها ومعارضتها إعادته إلى روسيا الفيدرالية. والارتباك

مرده إلى أن هذه الجمهوريات باستطاعتها أن تهدد المعسكر الغربي أي أوروبا

باستخدامها الصواريخ النووية الموجودة على أراضيها. والتهديد بدوره لا يمكن أن

يصدر عن جمهوريات تدين بالولاء للحضارة الغربية وتلتقي معها سواء في المعتقد

أو العادات بل من جمهوريات لا تتوفر فيها هذه المقومات. إذن فالخطر الحقيقي

يكمن في الجمهوريات الإسلامية التي لا تشارك المعسكر الغربي أفكاره وحضارته

وتاريخه وهنا بيت القصيد.

إن احتمال إبقاء الجمهوريات الإسلامية داخل الاتحاد السوفياتي على السلاح

النووي أو استخدامه أو نقله لطرف ثالث يرسل قشعريرة في الجسد الأمريكي

والغربي معاً. وقادة روسيا الفيدرالية يعون هذا تماماً ويعرفون مدى خطورته عليهم

وعلى العالم الغربي. فقد صرح نائب وزير دفاع روسيا الفيدرالية الجنرال فاتلي

شليكوف منذ فترة وجيزة أنه ليس لدينا أي شيء نخشاه من الغرب.. فالخطر يأتي

الآن من الجنوب بما فيه من الجمهوريات الإسلامية. ويجب علينا أن نأخذ العامل

الإسلامي في الحسبان [3] .

وفي هذا السياق ذكرت صحيفة الاندبندنت البريطانية (بتاريخ 15 أكتوبر

1991) أنباء أفادت عن قيام تعاون بين المؤسستين العسكريتين الأمريكية والروسية

لإنشاء شبكة مضادة للصواريخ النووية. وهدف هذه الشبكة الدفاعية، استناداً إلى

الصحيفة المذكورة، هو التصدي للصواريخ النووية التي من الممكن أن تطلقها

جمهوريات سوفياتية أو دولة من دول العالم الثالث.

وأما احتمال كهذا فإن الولايات المتحدة تجد نفسها أمام خيار واحد لا غير هو

تدعيم روسيا الكبرى لتكون صمام أمان للخطر الكامن في الجمهوريات السوفياتية إذا

تعذر إقناعها بضرورة التخلي عن السلاح النووي والانضمام إلى اتحاد يجمع

الجمهوريات كلها ضمن إطار دستوري معين. وهذا التصور لمحت إليه صحيفة

الهيرالد تريبيون الأمريكية في مقال لها (بتاريخ 15 أكتوبر 1991) جاء فيه (أن

وجود روسيا القوية والمنيعة التي تحتكر السيطرة على السلاح النووي هو أمر لا

يبعث على السرور. ولكن هذا الاحتمال هو أقل خطورة من أن يكون موضوع

السيطرة على السلاح النووي داخل الاتحاد السوفياتي موضع شك) .

إذن فالولايات المتحدة الأمريكية أمام خيارين: العمل بطريقة ما على إبقاء

الاتحاد السوفياتي القديم ولكن بنصف حجمه وضمن إطار دستوري تعطى فيه

الجمهوريات كل ميزات الدول المستقلة باستثناء القضايا الدفاعية والسيطرة على

السلاح النووي. وفي حال تعذر هذا فإن الولايات المتحدة ليس لديها أي خيار سوى

تقوية روسيا الاتحادية لتشكل درعاً واقياً وسيفاً مصلتاً على الجمهوريات الأخرى

التي كانت يوماً ما جزءاً من إمبراطورية كبرى (الاتحاد السوفياتي) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015