محمد بن حامد الأحمري
عشنا هذه الأشهر الأخيرة مأساة غريبة، كل ما فيها يوحي بالاستهجان
والسخرية من هذه الأمة المسلمة المسكينة التي يتفق اليهود والنصارى على تحديد
مصالحها، وتحديد حروبها وسلامها، وتحديد أعدائها وأصدقائها، وبالتالي اختيار
قادتها المعبرين عن مواقفها. فهذه حنان حنا عشراوي الناطقة باسم الشعب
الفلسطيني المسلم تعطي من بقي لديه ذرة عقل عنوانا لهذا الفصل الجديد من القضية
الإسلامية الفلسطينية.
وهذا الفصل الغريب من هذه الملحمة سبقته أمور كثيرة، مهدت لهذه الحال
وشارك في إنتاج هذه الفصول الانهزامية المتتابعة لاعبون كثيرون من فلسطين ومن
غيرها، وكان لبعض المشاركين أدوار خطيرة أوصلتنا إلى هذه المحطة
الاستسلامية التي نقف عندها اليوم.
والجديد في أيامنا هذه ليس المخطط الذي يُوّقع عليه العرب ويساندونه
ويسلمون به بل ويرغمون شعوبهم عليه؛ الجديد فيه هو الالتزام العملي، أما
المخطط اليهودي فقد قرأه العرب منذ زمن ولكنهم للأسف لم يعقلوه. إن الصلح
الأخير يلزم العرب بأن ينهوا حالة الصدام النفسي مع اليهود وأن يقبلوا بإسرائيل
دولة صديقة تتمتع بحقوق الجار وامتيازات لا يتمتع بها العرب تجاه بعضهم. ومن
ذلك حقها بإنهاء العداء الثقافي والإعلامي لها، ومنع العرب عن الحديث في أي أمر
من الدين قرآناً أو سنةً أو حدثاً من أحداث السيرة فيه إشارة إلى اليهود وأساليبهم
الخبيثة مع غيرهم وهو الشرط الذي اشترطه شامير للصلح والنقاش، وإنهاء
المقاطعة الإعلامية والثقافية والاقتصادية، وبالأخص حذف كلمة الجهاد ضد
إسرائيل من قاموس العرب والمسلمين أما إنهاء المقاطعة الاقتصادية فهي لا تقل
خطورة عن غيرها حيث يمتد النشاط الاقتصادي اليهودي في أعماق خمول العرب
وضياع المؤسسات الاقتصادية الناجحة وغياب الصناعة التي توفر للناس حاجاتهم
في بلدان المسلمين حيث يستولي اليهود - وهم من هم معرفة بأصول التجارة وكنز
الأموال وعباداتها - ويمتصون ما بقي في هذه البلاد من خيرات ومصادر،
ويستولون على الثروات الطبيعية ويصنعونها ثم يعيدونها لنا مرة أخرى، لتعيش
الأمة تحت رحمة تجار يهود الذين دمروا اقتصاد العالم الأكثر وعياً وحرية فكيف
إذا استولوا على الإقطاعات العربية المتخلفة فيزيدوننا تجويعاً ويسوموننا صنوفاً
جديدة من الذل والهوان.
ثم نعمل جميعاً عرباً وغير عرب عمالاً صغاراً مستضعفين أقل من درجة
الخدم في مصانع اليهود. إن الذي يؤسف له أشد الأسف أننا نعلم جميعاً ومنذ
زمن - من قرأ ومن لم يقرأ - ما يريد يهود منا ثم لا تنفع المعرفة ولا يجدي التحذير، فمنذ قرابة خمسين عاماً ونحن نعرف ونقرأ معالم هذه المأساة ثم لا يزيدنا ذلك إلا سكوتاً وصمتاً واستسلاماً مقيتاً.
وإذا استسلمت الحكومات فلا أقل من أن يبق لنا دين نعرف به الحق من
الباطل وأن نحافظ على كلمة الحق ننطق بها حين لا نستطيع أن نطبقها في الحياة،
وأن نحافظ على عقول المسلمين مدركة واعية لعدوها وشره المستطير، وأن نذكّر
الأمة بالتاريخ اليهودي الأسود. ومحاولة اغتيالهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-
مشهد حي في قلوب المسلمين، وقصة غدرهم بالمسلمين لم تغب عنا، وقتلهم
الأنبياء ثم سفك دماء المسلمين في عصرنا هذا والمذابح الوحشية التي مارسوها
ويمارسونها علينا كل يوم ليس لنا أن نغيِّبها عن ذاكرة الأمة وليس لنا أن نزور
التاريخ لصالح يهود كما يحاولون إلزام المسلمين هذه الأيام.
إن اليهود يحاربون الإسلام والمسلمين باليهودية والتاريخ اليهودي، والعرب
يغازلونهم بأسلوب المستسلم الواهن العلماني الهجين الذي يكذب منتحلاً ألقاب
القومية والوطنية والديموقراطية يغطي بها حكمه البوليسي الذي هو دعامة وجودهم. جاء شامير بحاخاماته يلبسون شعار الدين في دائرة الاجتماع ثم يشتم العرب
ويغادر القاعة قائلا لهم: إن غداً السبت وعندنا صلاة.
ويجيب أحد الصحفيين بصلف: (إذا أردت أن تصفني فقل: إنني رجل
يهودي تجري اليهودية في دمه) فمن من المسؤولين الذين اجتمعوا معه من يجرؤ
على مثل هذا الجواب: (إذا أردت أن تصفني فقل: إنني مسلم يجري الإسلام في
دمه) حتى لو كان كاذباً بهذا الادعاء؟ ! هل يجرؤ أحدهم أن يقول ذلك ولو من
باب الدعاية والاستعراض مثل شامير؟ !
نعم لقد تأكدت إسرائيل أنها تتعامل مع رجال البوليس في العالم العربي الذين
جاءوا إلى المؤتمر وقد تأكدوا من تكميم كل الأفواه، واعتقال كل الأشخاص الذين
يظن بهم معارضة هذه الخطوة المشينة، جاءوا بلا هوية وبلا قضية ولديهم استعداد
بقبول أي حل يريده شامير، أليس قبول الاشتراك في هذا المؤتمر كان مرهوناً
بعرض أسماء الوفد الفلسطيني عليه؟ ! ثم يعقِّب بعض الصحفيين العرب بصفاقة
لا نظير لها: لقد كانت إسرائيل مرغمة على كل شيء في المؤتمر! وأن العرب
كانوا منتصرين! ! نعم لكم أن تسموا كل هزائمكم نصراً، ولكننا لن نسميها إلا
باسمها الحقيقي. داعين الله أن يبدل هذه الحال وأن يلهم المسلمين الرشاد، ويقيض
لهم من ينتشلهم مما صاروا إليه.