الارتباط الوثيق بين
العبادة والأخلاق
محمد الناصر
أبرز السمات الأخلاقية للمجتمع المسلم ذلك الارتباط الوثيق بين العبادة
والأخلاق، إذ أن العبادة تزكي نفس صاحبها وتوجه سلوكه توجيهاً شفافاً متورعاً
عن الحرمات، وتهذب أخلاقه وتقومها باستمرار فالصلاة مثلاً، تنهى عن الفحشاء
والمنكر، أو هكذا ينبغي أن تكون، قال تعالى:
[وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ] [العنكبوت 45]
ويقول جل من قال: [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ
هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ] [الماعون: 4-7] .
إن هؤلاء لو كانوا يقيمون الصلاة حقاً لله تعالى، ما منعوا العون عن عباده،
وهذا هو المحك الحقيقي للعبادة الصادقة المقبولة عند الله، وهذا هو الرياء الذي
يترك الأعمال خواء ويصيرها هباء [1] .
والصيام جنة يمتنع فيها المسلم عن الطعام والشراب إلى جانب تقوى المشاعر
وانطلاقة الروح.
قال -عليه الصلاة والسلام-: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري. فهذه النصوص توضح لنا مدى
اهتمام الإسلام بتهذيب النفس المؤمنة وتخليصها من أدرانها، خلال قيامها بالشعائر
التعبدية، ومن ثم توجيه السلوك ضمن هذه القيم.
والزكاة ليست دفعاً للمال فقط وإنما هي تطهير المال والنفس. قال تعالى:
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة 102]
ومن أجل ذلك وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- في دلالة كلمة الصدقة التي
ينبغي أن يبذلها المسلم فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف
ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك
الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة..» رواه البخاري.
وقل مثل هذا في سائر الشعائر والعبادات، إذ أن علاقة الأخلاق بالعبادة
علاقة وطيدة، فقد لا تنفع المرء صلاة ولا زكاة أو صيام يوم القيامة، إن كان من
المفسدين المعتدين على الناس. سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوماً أصحابه
فقال: «أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:
المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا
وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته،
وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم
فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم.
ومن هنا جاء الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده،
والمهاجر من هاجر ما حرم الله» في رواية: «والمهاجر من هاجر ما نهى الله
عنه» [2] .
فهذه العبادات تلتقي كلها عند الغاية التي رسمها رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في قوله: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [3] .
فإذا لم يستفد المرء من عبادته ما يزكي قلبه وينقي لبه، ويهذب بالله وبالناس
صلته فقد هوى [4] . ويؤكد ما نقول حول الصلة الوثيقة بين العبادة والسلوك ما
جاء في الحديث النبوي الشريف، إذ روي عن أبي هريرة -رضي الله- عنه أن
رجلاً قال: «يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير
أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال -صلى الله عليه وسلم-: هي في النار. قالوا يا رسول الله: إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة» [5] .
تؤكد هذه الأحاديث على عدم جدوى العبادة إذا فقدت روحها وفاعليتها في
تهذيب نفس صاحبها.
والأخلاق في الإسلام تكليف رباني قبل كل شيء، قال تعالى: [قُلْ إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ] فإذا كان الصدق
تكليفاً ربانياً، والأمانة تكليفاً ربانياً، والوفاء بالوعد تكليفاً ربانياً ... فهل تدخل هذه
التكاليف في العبادة أم تعتبر خارجة عنها زائدة عليها؟ ! . وكيف تكون خارجة
عنها أو زائدة عليها، والله سبحانه وتعالى يقرر أنه لم يكلف البشر إلا أن يعبدوه:
[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات 56] . ويؤكد هذا
الحديث النبوي الشريف: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد
له» [6] .
فإذا خرجت هذه الأخلاق من دائرة العبادة لن تصبح في حس الناس لازمة،
وإنما تصبح شيئاً جميلاً إن وجد، فإن لم يوجد فلا بأس. ومن هنا صار لدى الناس
إسلام بلا أخلاق.. إسلام لم ينزله الله تعالى، ولم يأمر به، وإنما هو أمر مضاد
تماماً.. ومع ذلك يمارسه الناس على أنه: (غاية المراد من رب العباد) .
إلا أن الفساد الذي طرأ على مفهوم العبادة وحصرها في الشعائر التعبدية
فحسب، وأخرج منها ألواناً كثيرة من المعاملات، كانت في حس الأجيال الأولى
داخلة في مفهوم العبادة الواسع الشامل، باعتبارها سلوكاً إسلامياً مرتبطا بلا إله إلا
الله.. هذا المفهوم الشامل للعبادة انحرف عما كان عليه بسبب الفكر الإرجائي الذي
أعطى لهذا الانحراف شرعيته، حين أخرج العمل من مسمى الإيمان ومقتضياته..
وبسبب الفكر الصوفي المنحرف عن التوازن الإسلامي مما زاد في فساد
مفهوم العبادة..
كل هذا وذاك قد دمر الجوهر الحضاري المتضمن في هذا الدين، والذي كان
قوامه السلوك الأخلاقي المرتبط بالعقيدة والمترجم لها في دنيا الواقع.
وبعبارة أخرى، حين صار المسلم لا يجد حرجاً في قلبه أن يكذب وأن يغش
أو أن يخون الأمانة، وأن يتهاون في العمل ويخلف العهود ... يكون قد تجرد من
أخلاقيات لا إله إلا الله، وتجرد من قيمها الإسلامية والإنسانية.
هذا التخلف في مفهوم العبادة والأخلاق نشأ عنه تخلف حضاري هائل،
أخرج هذه الأمة من زمرة المتحضرين، كما أخرجها من ريادة العالم الذي أصبح
تائهاً عن منهج الله [7] .
وإن هذه الأمة لا تمكَّن إلا بقدر التزامها بمقتضيات الإيمان والسلوك النظيف
الطاهر، والعبادة المؤثرة الخالصة في مجتمع الفضيلة والعفاف، ذلك المجتمع
المعافى من الجهر بالسوء والشرور والذنوب كما أشار إلى ذلك الحديث الصحيح،
قال -صلى الله عليه وسلم-:
«كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل
عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات
يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه» [8] .
وإنها لخدمة عظيمة نسديها للأمة، بأن نزيل هذا الغبش عن أعينها، ونضع
بين أيديها نماذج الصفاء الإيماني، وتمثل مقتضياته في النفوس، مع تحوله إلى
أخلاق قويمة وسلوك أصيل.