الورقة الأخيرة
عبد القادر حامد
يواجهُ الدعاة إلى الله في هذا العصر - وفي هذه المرحلة بالذات - بطائفة
يحضرون الدروس واللقاءات والمحاضرات ويكثرون عدد الحريصين على العلم
والداعين إلى الخير، وقد وقف أفراد هذه الطائفة أنفسهم على تتبع العورات،
والتفتيش عن المآخذ والسقطات. وقد حولوا حال الدعاة إلى قلق وحذر وخوف بتنطعهم وتنقيرهم، ولا يكاد يسلم منهم أحد؛ فمن سلم من العيب في منطقه يعاب في لباسه، ومن سلم في لباسه عيب في سمعته وحركاته، ومن أجاد في التفسير رموه بالضعف في الحديث والجهل بالتوحيد، ومن صرف جهده للحديث قالوا عنه: لا يفهم في الفقه، ومن ترك التعرض للموضوعات الشرعية وتفرغ لبيان الواقع السياسي رمي بوصف العامية وقلة البضاعة في العلم الشرعي، ومن خاطب الناس بما يعرفون رموه بالسطحية والضحالة: لماذا لم يرم الناس بما في موافقات الشاطبي ويفحمهم بما في: اقتضاء الصراط المستقيم ... الخ، وقد أصبحت هذه الطائفة ظاهرة لا يحسن تجاهلها والتهوين من أمرها، وهي تتجول بين الأمكنة التي هي مظنة لقاء المسلمين فيها وتدارسهم، وقد يخيب أملها أحياناً عندما تحضر لمن لا يمكنها تفجير مشكلة معه إما لعلم عنده وإما لشوكة يستظهر بها من مريديه؛ وإما لحكمة وهبها الله له تجعله يتجنب الوقوع في براثن هذه الطائفة المتربصة!
والمتأمل في حال هذه الطائفة يمكن أن يصنفها في صنفين:
1- صنف مدخول النية سيء القصد.
2- وصنف ليس كذلك، ولكنه حبس نفسه في بطون الكتب، لا يغادرها،
بل يقرأ هنا وهناك ويضع حلواً على حامض وحاراً على بارد! أليس كل ذلك
وصفات موجودة في كتب فلان وفلان من علماء المسلمين؟ ! فلماذا نتأخر عن
الأخذ بها ورمي المتطفلين على العلم بها؟ ! وهكذا فإن هذا الصنف بفهمه المبتور
للعلم، وبعدم تنزيه ما يعلمه على ما يمكن عمله - يصيبه الغرور والكبر، ويقع
ضحية العناد والإعجاب بالنفس، ويؤول أمره إلى أن يصبح كالصنف الأول لا أمل
في إقناعه، فضلاً عن تقويمه وإصلاحه، ولا حيلة للعاقل معه إلا بتجاهله ونبذه،
وهكذا تضيع جهود من حقها أن توفر لما هو أولى وأجدر أن تثار حوله المناقشات
وتعلو من أجله الأصوات.
وهذا الفريق يؤمن بالمطلقات، ولا يفرق بين عصر وعصر، فعنده: العصر المكي يساوي العصر المدني، وما قبل الفتح يساوي ما بعده، والحال قبل نزول سورة التوبة هو الحال بعدها، والحلال عنده درجة واحدة، وثواب الأعمال
الصالحة واحد، كما أن الحرام عنده درجة واحدة، ولا تفاوت بين حرام وحرام. متسرع في الجواب، جرئ على الفتيا وإن لم يملك بعض أدواتها، ولا يغرنك اصطناعه التفكير في السؤال والتريث، أما الزمان والمكان والعلم بحال المستفتي فهذا أبعد ما يكون عن تفكيره حين يلقي بأحكامه المطلقة من عقالها حاسمة وجازمة. إنه مرض نفسي يضرب فريقاً من الناس، وهذا المرض يستشري نتيجة لظروف معينة حتى يصبح وباءً معدياً، ومن هذه الظروف: قلة العلماء، ونظرة الأنظمة إلى العلم الشرعي، وتعمدها بث الفوضى في أركان هذا العلم، مع حاجة الناس المآسة إليه، وكذلك زيادة عدد الذين يفكون الحرف، وهو ما يسمى بالأمية
الثقافية ... وهكذا تكثر في هذه الأجواء الدعوى، وتستبحر الفوضى، ويرتفع لواء الجهل، ويختلط العلم الصحيح بالباطل المبهرج والعياذ بالله.
لقد بات الأمر بحاجة إلى أن يتداعى المسلمون الغيارى إلى تأيس هيئة علمية
غير رسمية، تقيم في ركن من الأرض وليس لسلطة أرضية عليها سبيل، ترقب
أمر الله فقط، وتصدر آراءها وفتاويها في ما دق وجل من أمر المسلمين ولا تخشى
في الله لومة لائم، ويومئذٍ يفرح المسلمون بتوفيق الله لهم في هذا المجال الذي طال
خوض الخائضين فيه دون أهلية.